السخرية هي أحد أشكال الفن، لكنه ذلك الفن السهل الممتنع من المنطوق أو المكتوب أو حتى المرسوم، فحين يتقاطع أحدنا مع سخرية موّفقة لا يمكن إلا أن يظن بأنه التقى سهلا، لكنه لا يستطيعها إن أراد المحاكاة والتقليد، لذلك اعتبرت السخرية فنا له أهله ومبدعوه.

لا تروم هذه المقالة هنا سرد تاريخية السخرية في الثقافة العربية أو تعريفها وشرح أشكالها، ولا حتى في الثقافة عموما، إذ لا يخلو أي مجتمع من المجتمعات من الساخرين في أي عصر من العصور، أما لماذا نشأت السخرية؟ فلذلك أسباب تتعلق بضغوطات الحياة وصعوبة الواقع على كل الصعد سياسيا، أو اقتصاديا أو اجتماعيا، ولا يمكن الفصل بين هذه الصعد الثلاثة لتداخل تأثيراتها على بعضها البعض وتداخلاتها المعقدة، غير أنه من الظلم الاكتفاء في السخرية بوظيفتها في التنفيس عن مبدعها وجمهوره من متلقيها أوان استقبالها، ثم ما يمكنها من بلوغ حالة الضحك المخففة والمسكِّنة معا على ما في هذه الغاية من خير وتجديد طاقة وتمرير لما قد لا يمر بغير النكتة المتضمنة في السخرية، إلا أن للسخرية غاية أسمى ومقصدا أنبل في قدرة صانع النكتة على توظيف مزج المفارقات وتوليفها في محتوى ناقد لظاهرة اجتماعية جليّة، أو أزمة اقتصادية خانقة، أو وضع يومي شاق وصولا لا لمجرد الضحك وحسب، بل لصنع وعي تحليلي عميق لما يقبع خلف هذه النكتة من نقد مضمّن أو رفض مبطّن، ثم لما قد تصل إليه السخرية من تأثير عام يمكنه تحويل كفّة قرارات مصيرية تعنى بالناس والمجتمع.

ومع وسائل التواصل الاجتماعي وانفتاح الإعلام غير التقليدي على عشرات المؤثرين من الكتّاب والنقّاد والمبدعين والمؤثرين لا يمكن إنكار السخرية المتفشية في المجتمعات حالة عامة لها قنوات شتّى، كما لا يمكن التعجب من تفشّيها مع كل ما يمر به العالم عموما من أوضاع اقتصادية وسياسية واجتماعية تؤثر على حياة الأفراد اليومية وواقعهم المعاش، حيث أصبحت السخرية سلاحهم الفتّاك لمغالبة الواقع ومقاومة أوجاع الحياة، حيث يؤكد محمد الماغوط الحاجة للسخرية قائلا: «إن الكتابة الساخرة هي ذروة الألم، وإن الإنسان الذي يكون جديا دائما هو بالضرورة إنسان مريض» وحتى ننجو جميعا من المرض لا بد لنا من تلقى السخرية وتصنيعها حرصا على وظائفنا العاطفية ووظيفتنا الفكرية معا.

لكن الخطورة تكمن حين يقع هذا السلاح، سلاح السخرية عند غير أهله من المتسلقين الذين يسعون لمآربهم الشخصية على طبق من السخرية المتقنعة بمصلحة العامة أو بأيدي السذّج من ناقلي السخرية أو متداوليها، أقول ذلك وأنا أتابع مؤخرا صدور قانون التعليم الذي انتظره الناس لعقود من الزمن، والذي طالبوا به إيمانا بأهمية التعليم وأثره في تنمية الأفراد والمجتمعات، وسعيا لغد أفضل نؤمن جميعنا بأن التعليم أهم أركانه وأعمدته، يصدر القانون المتضمن الكثير من التفاصيل التي تتناول المنظومة التعليمية عموما ومحاورها الرئيسة، ولكن العجب كل العجب أن تتناول السخرية فقط جزئية واحدة منه، ويشرِّح التنكيت سطرا من سطورها وهو المتعلق بعقاب المهمل سواء كان طالبا أقدم على فعل الغش، أو والدا أقدم على إهمال مسؤولياته في متابعة تعليم أطفاله، وعلى الرغم من معاناة المؤسسة التعليمية (المدرسة) وولي الأمر والطالب من تراخي القوانين سابقا في تحجيم ظاهرة الغش التي تحتفي بالزيف وتقيد الإبداع والجد اعتمادا على مبدأ مكافأة المذنب على حساب المخلص، ومع كل ما لهذه الظاهرة من خطورة تداعيات مستقبلية سلبية في صنع إنسان غير قادر على تحمل المسؤولية بعيدا عن حرمانه من تحصيل معارف حقيقية أو مهارات فعلية، ثم إقصاء المخلص وتهميشه بتعزيز فكرة النجاح السهل و القمة والوصول المنقول أو المسروق عن الآخرين هو الغاية وهو المنال.

كان المتوقع المتحقق هو احتفاء الناس بصدور القانون أولا، أما المؤمل فكان القراءة الواعية للقانون ثم تفنيده تعزيزا لإيجابياته الكثيرة التي أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر الفرصة الذهبية للمتميزين من الطلاب لاختصار سنوات الدراسة في تجاوز بعضها إن كانت مهارات ومعارف الطالب أو الطالبة تسمح بذلك. بعد التعزيز تبدأ التساؤلات عن المعايير والوسائل ثم يمكن للسخرية حينها حتى تناول ذلك كما تتناول فكرة عقاب المهمل، ولا بأس حينها بمناقشة وسائل العقاب في مناسبتها، أو اقتراح بديل لها، أما أن نطالب بتعليم مؤثر قادر على صنع الفرق في التغيير والتنمية من خلال تعزيز التكاسل والاحتفاء بالإهمال فليس من الحق في شيء، كما أنه لا يمكن له تشكيل سخرية واعية موجهة للرأي العام، وأما محاسبة ولي الأمر على تقصير طفله في المدرسة فله مبررات عديدة لعلّ موكب التنكيت غفل عنها، ليس أقلّها وجود أولياء أمور أسماء في سجلات المدرسة وحسب، ولا علم لهم عن سير وسلوك طفلهم ولا عن قدرته على التحصيل أو قدرته على تعطيل تحصيل غيره لما يمكن أن يمر به ذلك الطفل من تفكك أسري أو عنف يومي، أو إهمال كلي يتناول حتى إنسانيته في أمانه الاجتماعي والعاطفي والأسري، ثم سلوكه وتعليمه.

ختاما؛ السخرية فنٌ لا ينبغي أن يبتذل أو يوظف لغير خير الإنسان والمجتمعات، والساخر الحقيقي المؤثر ينبغي أن يكون مبدعا صاحب رسالة بما يملك من قدرة على تحويل المضحكات إلى مبكيات والعكس، كما يملك القدرة على التأثير في الناس مستقرئا حاجتهم للضحك بقدر حاجتهم للوعي ، ومن الساخرين نذكر الصديقين السياسي ورئيس الوزراء البريطاني تشرشل والكاتب الساخر جورج برنارد شو حين التقيا مرة فسخر تشرشل السمين من نحول صديقه قائلا: «من يراك يا شو يظن أن بريطانيا في أزمة غذاء» فما كان من شو إلا أن أجاب بسخرية أقوى وبسرعة بديهة قائلا: «ومن يراك يعرف سبب الأزمة».

حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية