قد نجد ثمة علاقة موضوعية بين مفهوم الدولة العميقة؛ وبين الممارسات العميقة؛ فالعمق هنا عامل مشترك بين المفهومين؛ من حيث النشأة والتأصيل، والعمق هنا؛ يشير إلى أن ثمة زمنا مستقطعا من حياة أمة ما، لكي تصل إلى هذا المستوى الذي يرسخ مجموعة من النظم والسلوكيات التي؛ مع مرور الزمن؛ تتجذر، وتأخذ تموضعها في مختلف المجالات، حتى تصل إلى ترسيخ مجموعة من القناعات في أنفس المتلقين، بأن الحالة هكذا، ولا يمكن إجراء أية تغيرات لتصويب المسارات المختلفة نحو؛ ما يتوقع أنه الأصوب، والأجدى حلا، وصولا إلى مصلحة العامة، حيث تضاؤل الأمل في الإصلاح، وهذه مسألة في غاية الأهمية، وإن لم ينتبه لها في وقت مبكر من أعمار التنمية، يكون لها مردودات مهمة، ويكون لها تداعيات خطيرة على المستويين العام والخاص، وليس هناك سلوك؛ مهما وصلت درجة نقاوته؛ أن يكون سلوكا مثاليا، فلا بد مع مرور الزمن أن تتخلله مجموعة من التداعيات السلبية، تزداد هذه السلبيات مع مرور الزمن؛ حيث يستعذب نتائجها، فتتعمق القناعة بأهميتها، وهذا من صفات البشر، فالبشر «حمالة أوجه» متى وجدوا مصلحتهم الذاتية نزعوا أنفسهم من أي التزام عام، وذهبوا إلى حيث هذه المصلحة أو تلك، وهذه مسألة معايشة، ولا تثير أي استغراب، أو طرح أسئلة استفهامية، ومن هذه الممارسات العميقة الخيانة بكل درجاتها ومقاصدها، ومنها الرشوة، ومنها الظلم، ومنها الواسطة، ومنها عدم الإيمان بأهمية القانون، ومنها تضارب المصالح، ومنها تنامي جماعات الضغط التي تجمعها مصلحة مشتركة، ومنها البحث عن الثغرات في القوانين، ومنها الكيديات هنا وهناك، ومنها البحث عن حلول مشاكل الداخل في الخارج، ومنها تغليب المصالح الخاصة على المصالح العامة، وقس على ذلك أمثلة كثيرة، والنقطة المحورية في هذه الممارسات العميقة كلها هي الممكن، واللا مستحيل، حيث لا يرى الممارسون لها أن هناك منعا مطلقا لكل ذلك، وهذا معناه أن يتم تخطي القانون المانع لأي ممارسة خاطئة، مهما كان قدرها، وحساسيتها، فالمهم هنا التنفيذ مهما كلف الأمر.

والسؤال هنا؛ أكثر: من يتولى قيادة إبطال هذه الممارسات في حالة مكوثها على واقع الناس؟ وفي حالة توغلها، وانتشارها الواسع، ووصولها إلى مستوى الاقتناع بحتميتها، وأنه من المستحيل تغييرها؛ أو إيجاد البديل عنها؛ أو؛ على الأقل نقدها وإدخال مجموعة من التحسينات على الواقع لكي تغير من وجه الحياة القائمة، وإرباك مجموعة القناعات بضرورة بقائها عند ممارسيها؟ والإجابة عن هذا السؤال المركب؛ يقتضي الأمر بحث مجموعة الأسباب والتداعيات التي توصل أمر ما إلى هذا المستوى من الممارسات التي حدثت، والتي تحدث، ويتم غض الطرف عنها، وعن ما تفرزه من إشكاليات موضوعية وفنية، مع تقادم الزمن، وتتالي الأجيال حتى تأخذ طريقها نحو تأصيل قناعات الأشخاص المؤمنين بها وبأهمية بقائها؛ ويقينا؛ أن جل الأسباب التي تكون لن تخرج عن حيثيات البيئة المعاشة في الوسط الذي تمارس فيه هذه الأفعال لتصل إلى درجة الوصف «عميقة».

لعل أول ما يمكن النظر إليه في هذا الشأن هو الجانب الاجتماعي، فكل القناعات التي تترسخ، والتي تتبدل، والتي تتحدث (يجري عليها تحديث ما) هي اجتماعية بالدرجة الأساس، لأن مجموعة الأفراد الفاعلين في كل جوانب الحياة المختلفة؛ هم ينطلقون من منطلق اجتماعي بحت، قبل الوصول إلى المنطلقات الذاتية (تبني المواقف) فالفرد أول من يتأثر؛ يتأثر بما يدور حوله في المجتمع الذي يعيش فيه، ومن ثم تبدأ مجموعة من القناعات تصوب، أو تستسلم، أو تدخل في معترك الرفض في كل شأن من شؤون المجتمع، فمجموعة الممارسات والمتغيرات التي تحدث لا بد أن تمر أولا بوسط ما؛ كنوع من التهذيب، والتشذيب، وهذا الوسط هو: إما أن يكون ثقافة المجتمع، وإما أن تكون القيم التي يؤمن بها المجتمع، وهي التي ينبثق منها جزء من هذه الثقافة، ومنها مجموعة القناعات التي تكون عند كل فرد على حدة، ومنها مجموعة التعاقدات القائمة بين المجموعات: (أسرية؛ أصدقاء؛ مصالح) ومنها مجموعة العوائق القانونية؛ إن وجدت؛ فبعد الخروج من هذه المطبات تدخل الممارسات حيز التنفيذ، ولأنها مرت بكل هذا التجريد ولم يثنها عن غلوائها، فإنها بذلك يمكن أن تكون «عميقة» حيث وصلت إلى مستوى التجذر، ولكن السؤال المهم أيضا: ما الذي يجعل ممارسة ما، تنفذ من كل هذه المطبات دون عوائق؟ والإجابة؛ أن ذلك يحدث متى شعر حراس هذه البوابات كلها بأن هذه الممارسة هي في مصلحة كل واحد منهم على حدة، فليس شرطا أن تكون المصلحة عامة للجميع حتى يتم الاتفاق على مشروعية هذه الممارسات المؤدية إلى التغيرات لتصل إلى مرحلة العمق، فيكفي عند فئة ما من الفئات أعلاه أن يحقق لها التغير الناتج عن ممارسة ما، مصلحتها الذاتية لكي تحصل على شرعية البقاء والاستمرار.

وعند العودة مجددا إلى الإجابة إلى السؤال الأول؛ يمكن القول: إن الأنظار تتجه دائما إلى المؤسسة الرسمية، لأي تغيير يحدث على أرضية الواقع، وذلك لاعتبارات كثيرة؛ يأتي في مقدمتها: أولا، قوة اتخاذ القرار المطلق، فالفرد، أو مجموعة الأفراد لا يمكن لهم أن يتخذوا قرارا غير مدعوم من المؤسسة الرسمية للحد من استفحال فعل مشين ارتقى إلى ممارسة عميقة.

ثانيا، وجود الرؤية الواسعة، والمعلومة الشاملة المتوفرة؛ حول أي أمر ما من أمور الحياة المرتبط بحياة الناس، فما تراه المؤسسة الرسمية، غير ما يراه الفرد العادي، أو مجموعة الأفراد.

ثالثا، قدرة المؤسسة على استحداث برامج وخطط من شأنها أن تعدل، وأن تغير في مختلف مسارات الحياة، لما تملكه من إمكانيات مادية، ومعنوية، وبالتالي حتى لو حدثت تغيرات عميقة في المجتمع في أي أمر من أمور الحياة اليومية، وكان لها تداعيات سلبية على حياة الناس اليومية، فالمؤسسة الرسمية لها القدرة على التغيير الآني السريع، بسلطة القرار، والقدرة على متابعة تنفيذه من خلال (الضبطية القضائية) وهذا ما لا يتاح للفرد العادي، أو مجموعة من الأفراد.

رابعا، وجود مجموعة من الروافد المعرفية المتوفرة لدى المؤسسة الرسمية، ومنها في المقام الأول المؤسسة التشريعية، وهي المؤسسة المنبثقة من أحضان المجتمع؛ قبل كل شيء؛ وهي القادرة على استجلاء الرؤية الصحيحة لما يحدث بين زوايا وتقاطعات المجتمع في مختلف شؤون الحياة اليومية، وبصورة مباشرة، وبما تملكه هذه السلطة من أدوات من شأنها أن توقف أي نزيف لهيبة القانون، ولهيبة المجتمع، ولهيبة المؤسسة الرسمية، يأتي ذلك من خلال تحديث القوانين، وتشريع قوانين جديدة ملبية لمتطلبات العصر، لإيمانها أن الأمور لما تصل إلى تقييم (الممارسات العميقة) فإنها لا خلاف على تداعياتها السلبية على واقع الناس، وبالتالي يجب محاربتها، والوقوف ضدها.

يطغى في مفهوم الممارسات العميقة أن (1+1) لا يساوي (2) وإنما تكيف النتائج وفق مصلحة كل طرف على حدة، وهذه هي ثقافة الممكن واللا مستحيل، بينما قانون الحياة الحقيقية المتسامية بالمثل، والنظم، والأخلاق، لا يخرج عن مجموعة من الضوابط الحاكمة التي تُسَيِّرْ، وتُيَسِّرْ كل العلاقات القائمة بين مجموعة الناس الذين يتقاسمون المعيشة في الوطن الواحد، ولأن المثل والقيم لا يمكن أن تكون هي اللاعب الوحيد في ميدان مجموع العلاقات المتقاطعة بين الناس، فإنه؛ في المقابل؛ ينظر إلى القانون بكثير من الأهمية لتصويب مسارات هذه العلاقات القائمة بين مجموعات الناس، والوقوف بحزم ضد كل الممارسات الخاطئة منذ نشأتها الأولى، وقبل أن تتعمق وتتجذر، ويؤمن بها الناس، ويصدروها على أنها الرهان لبقاء الحياة، واستمراريتها، ولأن هذا الأمر ليس من اليسير تحقيقه على أرض الواقع، فإنه؛ في المقابل؛ سيظل هناك صراع محتدم، بلا هوادة بين القانون (مبعث الأمل) وبين كل الممارسات العميقة والمتجذرة، ولأنه صراع البقاء؛ فإن القانون لن يكل، ولن يخمد، ولن يتراجع؛ مهما علت نبرة الشر، وتعاظمت قواها.

أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني