ماذا تفعل الكتابة أمام الألم سواءً كان هذا الألم شخصيا أم جمعيا؟ وماذا يفعل الألم بالكتابة؟ وهل تستطيع الكتابة أن تكون أداة للتخفيف من الألم الشخصي لأي إنسان أم هي أداة للتخدير المؤقت للألم أم هي وسيلة لترحيل لحظة الالتحام مع الألم؟ ماذا لو اجتمع الألم مع الغربة في آن واحد؟ وهل تشعر الكتابة بألم كاتبها؟

وهل مشاركة الإنسان لألمه الخاص مع الآخرين يخفف عنه لحظاته القاسية والمدمرة أم يهدف لأستجداء الشفقة والتعاطف؟ كل هذه الأسئلة تطفو عندما تقرأ للكاتب والصحفي والطبيب المصري محمد أبو الغيط كتابه «أنا قادم إيها الضوء» الصادر عن دار الشروق المصرية عام 2022م، الذي صدر بعد وفاته بفترة قصيرة جدا، والمقسم على ستة عشر فصلا مع مقدمة، وفي الكتاب سبر شخصي وتأملات عميقة في تجربته الشخصية والحياتية أمام الألم، ومواجهة جبارة وأسطورية لكل مراحل المرض، وهل يظل الألم شخصيا عندما يصل إلى المتلقي؟ الألم هنا متجسد في مرض السرطان الذي أصاب الكاتب في ريعان شبابه؛ وهو في بريطانيا. في الكتاب يتجلى معنى الألم والأمل، يمضي الألم والأمل في خطين متوازيين (وفي لحظات في خطين متضادين)، وأحيانا ينبثق الأمل من شدة الألم، ويتفجر الألم من خفوت وذبول الأمل.

رغم أن الكاتب كان يدرك بحسه الشخصي، ولأنه كان طبيبا في بداية مشوار حياته، بأن نهايته متوقعة ومعروفة، إلا أنه تشبث بأظافره وروحه بضوء الأمل، الأمل بالنجاة والمضي في الحياة، وفي طريق أحلامه، وطريق النور الذي بحث عنه طويلا في حياته القصيرة، فقاوم لحظات الألم ومراحل المرض بكل شجاعة ونبل.

الكتاب تم تصنيفه بأنه سيرة ذاتية، إلا أننا نستطيع كذلك تصنيفه بأنه مذكرات أو يوميات أو تأملات، أو ربما مزيج من كل هذا، حيث إن الكاتب في بعض فصول الكتاب ضمّنها يومياته مع المرض، وفي فصول أخرى هناك تأملات، وفي فصول هناك استرجاع لذكريات طفولية، وهناك سيرة غيرية (عندما سرد عن أبيه وأمه وزوجته). وربما نستطيع أن نطلق على هذا الكتاب أيضا «سيرة للمقاومة الشخصية، أو مجابهة الفقد القادم». المسميات والتصنيفات لا تهم أمام كتاب يستطيع أن يجرك ويجر كل عواطفك وأحاسيسك لتبحر أو لنقل لتتلمس الوجع الإنساني. كتاب قادر أن يثير بداخلك عشرات الأسئلة حول الحياة والموت والأمل والعدالة والأحلام، وحول مقدرة الإنسان على المقاومة، ومدى الهشاشة الشخصية أمام الموت. كتاب يتدفق من بين سطوره الصدق الإنساني والمشاعر الشفافة، وفعل المقاومة الجبارة للألم الشخصي. نحن أمام كتاب يرسخ في ذاكرة أي متلقي له. لأن التجارب الصادقة لا تُنسى، ولا يجد الإنسان إلا الصدق الداخلي أمام حقيقة الموت الواقفة في طريقه.

الضوء عتبة الكتاب ومتنه

وعندما نتوقف قليلا عند عتبة العنوان، لم يعنون الكاتب كتابه بـ«قادم أيها الضوء»، لكنه ليؤكد للضوء أنه قادم إليه، أضاف له ضمير المتكلم «أنا»، وحده الكاتب من يذهب إلى ضوئه، ولا أحد معه سوى صدقه الإنساني وقوته الداخلية، لكن أي ضوء هذا الذي ينوي الكاتب أن يذهب إليه: «تعلمت عبر حياتي، وبالتدريج، البحث عن هذا الجوهر الإنساني، وأن أشعر بذلك الضوء الذي يشع من الأرواح الطيبة. أحب أن أكون على مقربة من هؤلاء، بينما أهرب من ذوي الأرواح المظلمة والقلوب الغليظة». ص11، يبحث أبو الغيط عن الضوء المنبثق من الجوهر الإنساني ضوء الخير والجمال والنقاء والعدالة والعطاء الذي تعلمه من والديه. «تبدلت الكثير من قناعاتي، كما تغيرت من حولي الوجوه والعوالم، لكن ما لم يتغير قط هو بحثي عن ذلك الضوء الذي يشع من الأرواح الطيبة؛ ضوء التعاطف مع الإنسان من حيث كونه إنسانا قبل أي شيء آخر». ص14، هنا يؤكد الكاتب بحثه الدائم والطويل عن الضوء الذي يشع من الروح، ومن التعاطف الإنساني مع الآخر. هذا الآخر كان الكاتب يفكر به، وهو في قمة أزمته الصحيّة، ومقاومته للمرض.

الضوء الذي ظهر في عنوان الكتاب، سيمتد إلى كل فصول الكتاب بمعانٍ وأشكال مختلفة وبدرجات متفاوتة، يظهر في مقاومته للمرض، وصبره الأسطوري في أصعب اللحظات، وفي تعامله مع ابنه وزوجته، في وفائه لأصدقائه، في نضاله بالكلمة والموقف من أجل الحرية والعدالة. في مشاعره التي تتجلى في التعاطف مع الآخرين، وفي عمله بالصحافة وتتبعه لمسارات الفساد في الوطن العربي، وفي مراقبة تجار السلاح والموت بالكلمة، وفي غرسه للأشجار في حديقة بيته.

قد يتساءل القارئ، لماذا لم يضع الكاتب كلمة «النور» بدل الضوء؟ وهل هما مترادفتان؟ لم يضع الكاتب كلمة نور، لأن النور يستمد طاقته من جهة أخرى، أما الضوء فهو مصدر لهذا الطاقة، فمحمد أبو الغيط رغم وضعه الصحي المتدهور إلا أنه يريد أن يكون ضوءا ينير دروب الآخرين، وليس نورا يبحث عن سند. ولأن الكتاب في جوهره وفي فضاءاته العامة وفصوله المتنوعة هو مصدر للضوء الذي يمدنا بطاقة المقاومة، والتشبث بالحياة.

«ولو وافاني القدر، ورحلت في الوقت الذي قدره الأطباء، فأني أرجو أن يكون ما بعد نفقي نورًا وهدوءًا وأمنا، وأن يكون في هذا الكتاب ما قد ينقب ولو ثغرة واحدة، ليمر منها بعض الضوء إلى من يقرأ» ص14

يُهدي محمد أبو الغيط كتابه لزوجته إسراء، لوقفتها الإنسانية العظيمة معه في الحياة وفي رحلة مرضه وفي غربته، «إلى من أضاءت حياتي: فاقتبست منها نورا يهديني في طريقي، ورحمة تخفف آلامي، ولطفا تسكن إليه روحي... إسراء.» ويخصص لها فصلا للحديث عن علاقتهما، من أطول وأجمل فصول الكتاب، وعنونه «وردتي البيضاء الخارقة».

للإجابة عن الأسئلة التي ظهرت في بداية المقال، ماذا تفعل الكتابة أمام الألم أو أمام أي كارثة سواءً كانت شخصية أو عامة؟ ولماذا اختار أبو الغيط الكتابة كسلاح أو أداة للمقاومة والتشبث بضوء الحياة؟

فيجيب في أول فصل من الكتاب:

«أكتب لأن الكتابة هي أثري في الحياة، هي أهراماتي الخاصة، فإلى متى ستبقى متنصبة بعدي؟ الكتابة هي محاولتي لمغالبة الزمن والموت بأن يبقى اسمي أطول من عدد سنوات حياتي التافهة مقارنة بعمر الكون الشاسع المقدر حاليا بـ14 مليار سنة.» ص18

«أكتب هنا عن رحلتي ضد مرض السرطان كمحاولة لتحدي الموت وقهر الزمن، ولو مؤقتا». ص19

أكتب لأن الكتابة ببساطة تمنحني شعورا أفضل. ص24

لا يمكننا أن نضيف على كلام الكاتب سوى أن التجارب الإنسانية الصادقة والعميقة (كالمرض والفقد والحرب والسجن) يجب أن تُسرد لتظل عالقة في أذهان البشر وذاكرة الشعوب.

يمكننا من قراءة الكتاب أن نتلمس ثلاثة خطوط، مضى فيها الكاتب في رحلته الكتابية، تتشابك هذه الخطوط وتتماهى مع بعضها، تفترق قليلا في بعض الفصول، لتعود مرة أخرى لتتداخل وتتمازج. الخط الأول: خط الذات أو الخط الشخصي، الخط الثاني: المرض والتشبث بخيوط الأمل، أما الخط الثالث: الآخرون. يمكن لهذه الخطوط أن تتحول إلى دوائر، لأن الفضاء العام للكتاب/ وللسرد لا يمضي في خط تصاعدي، بل أن الثيمات تذهب وتعود بشكل مختلف، ما بين الذات والمرض والآخرين.

ثيمة الذات أو دائرة الشخصي

رغم أن المرض الذي أصاب محمد أبو الغيط، هو المحرك الأساسي والدافع الكبير لإنجاز هذا الكتاب، فالمرض هو المحرض على إنجاز هذه السيرة الذاتية، إلا أن أبا الغيط، اقترب من ذاته، وغاص في تفاصيل حياته الشخصية، في ذكرياته الطفولية، في علاقته بالأشخاص والأحداث، بأحلامه التي تشبث بها، علاقته بأمه وأبيه، وأخوته، وزوجته، وبابنه يحيى، وبظلال الحياة وهواجس الموت. فكانت الذات هي المركز التي تتحرك فيه/ وبه فصول هذا الكتاب.

يذهب الكاتب للحديث عن الذات، ليس لتمجيدها أو مدحها، بل ليخفف عن القارئ ألم المرض، وثقل الشعور، وقسوة لحظات صراعه مع المرض، وكذلك لينسى أو ليتناسى ألمه الشخصي.

رغم ذلك تمتزج ثيمة الذات بشكل كليّ مع ثيمة المرض، فمن الصعوبة الفصل بينهما، يكتب في أول فقرة من الكتاب:

« لم أرَ الضوء في ذلك اليوم..

أغمضت عينيّ ثم فتحتهما لأعرف أن أربع عشرة ساعة قد مضت، أجرى خلالها الأطباء جراحة كبرى لاستئصال ورم سرطاني متوحش. كنت أعرف أنهم سيستأصلون المعدة بالكامل». ص9

يوضح أبو الغيط تداخل تجربته الشخصية مع المرض مع الشأن العام:

«هكذا في تجربتي الخاصة أيضا، وجدت كالعادة أن العام يتقاطع مع الخاص، حتى إني أراجع بنفسي الأوراق العلمية والقانونية لأفهم عن الأدوية التي لا توفرها هيئة الصحة الوطنية البريطانية توفيرا للنفقات» ص27

في نقطة تداخل شأن المرض بين الذاتي والعام، يقول الكاتب: «بعد كل ذلك لا تنفي خصوصية التجربة المرض كونها شأنا عاما، كما لا تلغي عموميتها ذاتيتها البالغة». ص 27

تتمدد دائرة / ثيمة الذات في هذه السيرة لتشمل حياة الكاتب وطفولته وأحلامه، ونظرته للحياة والعالم، وتتداخل وتشتبك وتلتحم هذه الذات الحالمة المنهكة مع المرض وقسوته، ومع العالم وخيباته، ومع الشأن العام، لأن وظيفة الكاتب دفعته للاندماج والاشتغال بالشأن العام بشكل كلي، حيث عمل في الصحافة والإعلام، وشارك في ثورة يناير المصرية.

ثيمة المرض/ التشبث بخيوط الأمل الأخيرة

العلاقة التي نشأت بين الكاتب والمرض، لم تكن سطحية وعابرة، بل أن أبا الغيط

جعلها علاقة عميقة وواسعة، حولها من شأن شخصي إلى شأن إنساني عام، حتى المعلومات والمصطلحات الطبية وأنواع الأدوية ومراحل العلاج مزجها في صفحات الكتاب، وصهرها بشكل فني مع الفضاء العام للسرد، ومع لغة الكتاب. حيث إن المتلقي سيجمع من هذا الكتاب خبرة ومعلومات طبية بشكل سلس، وذلك من خلال تتبع مراحل مرض الكاتب وتطوره.

حوّل الكاتب علاقته مع المرض، إلى حالة إنسانية راقية وشفافة، فكان المرض (سرطان المعدة) ينتشر بشكل سريع ومرعب في جسد الكاتب، فيهرب الكاتب من ألمه الشخصي إلى عوالم أخرى، تخفف عنه لحظات العذاب، فيختفي المرض وعوالمه والأدوية من بعض الصفحات، لتظهر لنا عوالم أخرى.

تاريخ آخر من تواريخ الألم

هذا أكثر يوم صرخت فيه بحياتي، ليس تأوهًا بل صراخا

لم أتخيل قط أن هذا الصراخ يمكن أن يخرج مني، أنا الذي حسبتني صرت خبيرا بالألم وطرق كتمانه مثل توجيه تركيزي إلى العض على شفتي أو اعتصار الوسادة بيدي» ص194

الآخرون نافذة السرد، وأغنية للسارد

الخط الثالث الذي مضى فيه الكتاب، هو الآخر، والآخر هنا هو كل شيء سرده الكاتب بعيدا عن المرض والذات، مثلما ذكرنا سابقا لا يمكننا فصل الدوائر السردية أو الثيمات، لأنها متشابكة ومتداخلة، يحضر الأب والأم والأصدقاء والزوجة، تحضر الطفولة والأطباء والصحفيون، تحضر الاقتباسات الأدبية والقصائد، وأسماء الكتب والشعراء، أسماء أفلام، وعن حديقته التي أحبها، عن قضايا التعذيب في الوطن العربي، والضرب في المدارس. والحديث عن حقبة جمال عبدالناصر، وعن ثورة يناير المصرية ومآلات الربيع العربي. كل هذا ومواضيع أخرى حضرت في الكتاب.

يذهب الكاتب إلى ثيمة الآخر، ليس هربا من لحظات الألم فقط، وليس لأنه لا يريد أن يطفو الألم في كل صفحات الكتاب، بل لأن طفولته وتكوينه وأحلامه امتزجت مع الآخرين، فاندفع بكل طاقاته وعطائه نحو الآخر، من الطب إلى الصحافة والإعلام وإلى الكتابة، وهو يحمل الآخرين في وجدانه الشخصي.

«ذهبت لطبيب جديد مختص بالأوعية الدموية.

تضمنت الاختبارات صعقات كهربائية صغيرة في ذراعي. فورا تذكرت المُعذبين في بلادنا العربية بالكهرباء، فكنت أنتفض من كل صعقة لدرجة أثارت استغراب الطبيب». ص206

حتى في أقسى اللحظات يتذكر الآخرين، ومن خلال الثيمات التي طرحناها من الكتاب تتجلى ثلاث ذوات للكاتب، ذات المبدع في دائرة الذات، وذات الطبيب/ والمريض في دائرة المرض ولحظاته، وذات الصحفي في دائرة الآخرين، وتنصهر هذه الذوات في روح إنسان شفاف ونبيل وصادق.

«لقد فشلت الثورة المصرية والربيع العربي، صارت كل الأحلام والآلام ودماء الشهداء تاريخا ليرويه أمثالي بعد أن نتحول لمسنين خائبين آخرين... حقا لقد «مسنا الحلم مرة». 275

حمود سعود كاتب وقاص عماني