قبل الدخول في الموضوع، لعل من المفيد القول إن صفة مهاجرة كانت تناسبني أكثر من صفة منفية أو لاجئة. وأظن أن لكل واحدة من هذه الصفات تأثيرها الخاص على توجيه بوصلة الكتابة.
صفة كانت ولم تعد كذلك. فمن عاشر القوم أربعين يوما صار منهم، فكيف بمن أقام بينهم أربعين عاما ونيف؟ لم تعد صفة المهاجرة تنطبق عليّ بعد أن أسست تفاصيل حياتي في البلد الغريب وأنشأت أولادي وصار لي أحفاد فيه. فهل أصبحت فرنسية؟ سؤال لم يكن واردا بالنسبة لي، في أي وقت من الأوقات، لأن من يولد عراقياً يحتفظ بحبله السري مرتبطا بذلك الوطن المُعذَب، بفتح الذال، والمُعذِب، بكسرها. ومن هذه الفرضية الأقرب للحقيقة يمكنني اقتفاء أثار صلة الرحم تلك على كتاباتي.
أقرأ تعليقات على نصوصي يستغرب كاتبوها أنني ما زلت، بعد كل هذا العمر، أكتب عن العراق. كثيرون هم الكتاب الذين أمضوا أعمارهم في المهجر وواصلوا الكتابة عن أوطانهم ومجتمعاتهم وتاريخهم. الكولومبي يكتب عن كولومبيا والروسي يكتب عن روسيا والمغربي عن المغرب واللبناني عن لبنان. قد تدور الأحداث في البلد الغريب، لكن الشخصيات في الغالب هي من مواطني الكاتب والمهاجرين مثله. تنطلق الحكاية من طنجة وتمر بباريس ثم تنهي دورتها في طنجة.
هذا لا يعني أنني خرجت بحقيبة ملابسي وما زلت مقيمة فيها، أرتدي ما فيها من قمصان وفساتين ودشاديش وأوشحة. فأنا حين أطالع صورتي في المرآة أرى أنني تلبست، إلى حد كبير، زي المهجر وذوقه. لم أحب في أي يوم أن أكون النشاز. وما زال منظر المهاجر الذي يرتدي سروال الجينز تحت الجلابية القصيرة يثير عجبي. في أي ضفة هو وأي صورة يودّ أن يعكس عن نفسه؟
وإذ أتأمل، اليوم، موضوع سؤالكم، أتأكد أن الهجرة تركت بصمات عميقة على شخصيتي. ومنها انتقلت إلى كتاباتي. تعلمت معنى الاختلاف واحترام من يختلف معك في السحنة والعرق والمعتقد والرأي. تقولبت داخل شروط الديمقراطية ونضجت في مرجل الالتزام بقرار الجماعة مع الحفاظ على موقفي الخاص والدفاع عنه بالوسائل المتاحة والشرعية. أكتب عن شخصيات عراقية تقيم في باريس بفرنسا، أو ديترويت بالولايات المتحدة، أو مانيتوبا بكندا، وأحاول تحليل مواقفها وخياراتها إزاء مجتمعات غريبة عليها. كيف يكون التحرر من بعض التقاليد مفيدا وكيف ينقلب وبالا. ويحدث أن أضبط نفسي وأنا متمسكة بمبادئ تعلمتها هنا، أي ملكية أكثر من الملك، وأريد فرضها على أبطالي. عندها أعرف أنني شططت وأن حريتي المستجدة أفسدتني.
هل يمكن للحرية أن تكون مَفْسَدة؟
أهم ما اكتسبته في الغربة هو حريتي. وهي السمة ذات التأثير الأوضح على كتاباتي. ولا أزعم أنني كنت مقيدة في بغداد. لقد أتيح لي في السنوات الثلاثين الأولى من حياتي أن أدرس وأن أعمل في المهنة التي اخترت، وأن أحب وأتزوج الرجل الذي ارتضيت، وأن أعيش حياة اجتماعية مقبولة ومعقولة. كنت أتمتع بكل حرياتي إلا حرية القول والتعبير الصادق عن الرأي. كما أن حريتي كامرأة كانت منقوصة. ما كان متاحا لي أن أكتب دون التفكير في ما سيقوله والدي، عندما يقرأني، أو شقيقي، أو ما ستتركه كتابتي على شريك حياتي. أما حرية الرأي، في جانبها السياسي والعقائدي، فهي من الخيال. كنت جزءا من واقع خائف ومنافق. هناك من يصفّق ويطبّل أو أن يسكت. يبقى يراوح في مكانه ولا يتقدم.
أجمل منحة تلقيتها من فرنسا هي الحرية. كان غيابها سببا في تأخري في الكتابة الروائية. وحين امتلكتها قررت أن أكتب روايتي الأولى وأنا بحدود الخمسين من العمر. كنت مؤمنة أن الكتابة لا تستقيم مع الخوف. إن الخوف أشكال. إذ يمكن أن تخشى حشرات معينة، أو تصاب بفوبيا الأماكن المغلقة، أو ترتعب من فكرة المحققين في مراكز الاحتجاز والتعذيب. وقد استغرق مني الأمر سنوات قبل أن أكشط عن جلدي هذا النوع الأخير. ولم يكن غريبا أن الخوف كان موضوع قصصي الأولى. أكتب عنه وأنا مستقرة في المكان الآمن، لا أنتظر زوار الفجر. لكن القشعريرة تحضر أثناء الكتابة وكأنني أجترّ خوفي السابق والمُعتّق.
ممَ كنت أخاف؟ يمكن للمرء في الأنظمة الأحادية أن يخاف من كل شيء ومن لا شيء. أي ليس بالضرورة أن يكون معارضا أو أن يرتكب جرما يستدعي العقاب. لكنه يبقى خائفا مثل مجرم. والمجرم بريء حتى تثبت إدانته. هذه قاعدة قانونية عالمية. لكن في تلك البلاد، التي سميتها في مجموعتي القصصية الأخيرة «بلاد الطاخ طاخ»، ليس من المضمون إثبات براءتك. وقد عشت سنوات الحرب مع إيران في فرنسا لكنني كنت أهمس لزوجي بأن الحرب قد طالت والضحايا كثر. أهمس وأتلفت حولي في المقهى الباريسي خشية أذن واشية تلتقط ما أقول.
العيش في الاغتراب هو سمة معظم شخصيات قصصي ورواياتي. والسمة الثانية تركيزي على النساء، لاسيما المتقدمات في السن. جاءت حكاياتهن حقيقية محمولة على جناح الخيال، فيها الكثير من سيرتي وسيَر قريباتي. كانت كاشانية، في «سواقي القلوب» هي الحضن الذي يجمع نفرا من المثقفين المنفيين أو الطلبة الدارسين في باريس. وكانت بتول، والدة «الحفيدة الأمريكية» هي الصوت النائح الوحيد في حفل الحصول على جنسية بلد المهجر. أما الدكتورة وردية في «طشّاري» فهي الضمير الذي يرعى صلة الرحم بين الأبناء الذين تشتتوا في القارات. ومثلها تاج الملوك في «النبيذة»، تسعينية عبرت القرن العشرين ما بين بغداد وكراتشي والأحواز وحفظت العراق في صدرها حتى النفس الأخير.
قبل مفارقة خوفي واستثمار حريتي في المهجر، عاش زملاء لي من الأدباء والروائيين تجربة مرعبة. لقد استدعاهم القصر وطولبوا بكتابة روايات تمجّد الانتصارات وتشحذ الهمم. كانت أمام كل منهم مهلة ستة أشهر ورزمة مالية مجزية لكي ينفذ الإرادة الرئاسية. بعضهم لبى الطلب وهناك من هاجر من البلد بعد الخراب. فهل منحته الغربة شجاعة استعادة تلك المحنة؟
لوحدها، تبدو مفردة الخوف جرداء لغويا وعارية بلاغيا. هناك درجات منه خليط من الأحاسيس يتراوح ما بين الرعب والشكّ والتبلبل وفقدان الثقة بالنفس. كنت وما زلت مهمومة بالكتابة عن الخوف الذي يحوّل الإنسان السويّ إلى مسخ. وباشرت، في أيام الحصار الاقتصادي على العراق، رصد الروايات والمجموعات القصصية والشعرية التي تنشر في الداخل، أردت وضع كتاب بالفرنسية يشرح للقارئ الغربي كيف سيق الأدباء إلى الجبهات واضطروا إلى الانسياق في خطاب التعبئة بينما تحاملت الأديبات على أنفسهن وكتبن عن معاناتهن الداخلية، عن فراق الزوج والابن وعن الهجرة وشح ذات اليد وانقطاع الكهرباء والمدن التي خلت من شبابها. وحدث أن جاءت ابنة عمي من بغداد موفدة ضمن وفد هندسي. أطلعتها على فصل من كتابي فانخطف لونها واستحلفتني ألا أنشره. قالت بالحرف الواحد: «أنت هنا ونحن هناك رهائن. سيأخذوننا بجريرتك».
صدر الكتاب بالفرنسية أوائل 2003 وبغداد تتداعى. وترجم لعدة لغات. كان لابد من شرح المأزق الخانق الذي عاشه كثير من مثقفينا في تلك المرحلة. اختاروا النجاة برقابهم ولم يرحبوا بالاحتلال. إن توصيف تلك الحكايات، في قصصي ورواياتي، يوصف أحيانا بالفنتازيا، وهي مفردة لا أميل إليها لأن ما أرويه هو من صميم الواقع. ليس ذنبي أن واقعنا ذو عجائب وغرائب. هل أتسلى بروايتها وأنا في مُغتربي الآمن والمريح؟ قطعا لا. إن ما أكتبه ليس سخرية بل نزيف. لا يمكن الاستمرار في صبّ أطنان المآسي فوق رؤوس القراء. لسن بناعبة ولا ناعية. أطمح في أن أجتذب قارئي نحو مائدتي لا أن أنفره من طبيخي.
يقال إن شرّ البلية ما يُضحك. ولا أنفي عن نفسي ميلي إلى تسلية القارئ. لا أريد له أن يطرح الكتاب من يده بعد عشر صفحات أو عشرين. ولعل من حق الكاتب أن يتمتع بعمله أيضا. فالكتابة تسلية للطرفين. ويلذّ لي أن أتسلى في وصف مخبر أو رجل أمن أو مسؤول حزبيّ فاسد أو قائد مصاب بجنون العظمة. أي أن أنزع عن أولئك مهابتهم وأضفي عليهم صفات بشعة وهزلية. أحوّل المتجبّر إلى مهرج.
هل أنا كاتبة سياسية؟ لا أظن. لعل الأصح أنني كاتبة مشتاقة تعبر بالروايات والقصص عن شوقها إلى مسقط الرأس الذي افترقت عنه بإرادتها جزئيا، ومرغمة في جزء ثان. أقول مع القائلين إن السياسة موجودة في كل تفاصيل حياتنا. أدير رأسي في هذا المجتمع الباريسي الباذج وأغبط القوم على اللامبالاة إلا بما يمسّ لقمة العيش. لقد كسبوا حرياتهم وارتاحوا. حرروا بلدهم من النازية ووضعوا أسس نظام ديمقراطي وجعلوا التعليم مجانيا والتطبيب حقا لكل مواطن. انصرف الروائيون عن النضال الذي بات عملة بائدة وتفرغوا لقصص الحب والنزاعات العائلية والميول المثلية. يأتيهم روائي أو روائية من لبنان أو الجزائر أو الكونغو، يحدثهم عن الحرب وعن السعي للحرية وعن اضطهاد المرأة فيحتفون به وبها وكأنهم يكتشفون جديدا. هناك على هذه الأرض مَن ما زال يناضل ليستحق الحياة... يا للعجب!
يلتهمون الكتابات المترجمة من لغات العالم الثالث لأنها تتحدث عن تلفزيون لا يبث سوى صور القائد وجولاته وخطاباته. يصدقونك أحيانا أو قد يتهمونك بالمبالغة. كيف لهم أن يستوعبوا وجود حزب يرهب الناس لكي ينتموا إليه؟ أو جامعات ووظائف تشترط الانتماء قبل قبولك فيها؟ أو أن تكون كهلا محروما من السفر طوال عمرك؟ ماذا يريد الروائي أكثر من هكذا حكايات ليكتب روايات ذات نبض حقيقي؟ سيتهمونك بأنك تشوّه صورة أهلك وبلدك. وبأنك تغازل الغرب لتفوز برضا الناشرين والنقاد. كأن الصورة جميلة ورائعة ولا عوار فيها وأنت من يزيّف الحقائق. ليس مهما أن يتجرع مواطنوك المرّ لكن عليهم أن يستعذبوه ويقولوا: «ألله ما أطيبه!».
عرض النظام الليبي، في ثمانينيات القرن الماضي، مليون دولار على خبير الدعاية الفرنسي الشهير جاك سيغيلا مقابل حملة لتحسين صورة القذافي في الإعلام الفرنسي. قال لي الرجل إنه رفض العرض المغري لأن المهمة مستحيلة. فصاحب الصورة يرفض التحسن.
وسط هذا النوع من الأجواء أكتب عن العراق الذي أساؤوا إلى صورته بشكل فادح. الطرفان تقاسما الإساءة. أهله وأعداؤه. حرضتني الغربة على القيام بدور محامي الدفاع. فإن أكون كاتبة عراقية في فرنسا يعني أن أن أنطق بلسان كل الخاسرين. كانت شقتي الضيقة هي الرديف لمعنى البيت كما عرفته في بغداد. لا حديقة، بل بلكونة عرضها ثلاثة أشبار. ولا سطح ننام فوقه في الصيف بل طوابق أشبه بالعلب المرصوفة فوق بعضها. وفي تلك الأجواء المغايرة، وعلى مدى ثلاثين سنة، كانت زخات المطر تضرب نافذتي وأنا أكتب عن عراقيين يعيشون جفافا في درجة خمسين مئوية. أرفع رأسي عن شاشة حاسوبي فأرى وطني على شاشات القنوات الغربية. رأيته حاضرا في نشرات الأخبار باعتباره مهدا للنزاعات والانقلابات والمشانق وأسلحة الدمار الشامل. أهكذا يُختصر العراق؟ جاء المحتلون فازدادت الصورة سوداوية. ثروة حضارية ومائية ونفطية وشعب بلا ماء صافٍ ولا كهرباء. وأنا الغريبة التي عليها أن تسير عكس التيار وأن تأخذ القارئ العربي والأجنبي إلى الفردوس المفقود الذي نشأت في بيئته المنفتحة والمتسامحة والعصرية والمثقفة. أكتب مستخدمة الوعي الذي اكتسبته في المهجر، وتجاربي في محاورة كبار مثقفيه ومعايشة أطياف واسعة من الأعراق والجنسيات. إن حصيلتي من الغربة لا تقارن بما كان متاحا لي لو بقيت هناك. فهل أكتب لكي أستعيد وطنا يتبدد بالتقسيط؟
لقد تجاوزت سن السذاجة والرومانسية. فالزلزال كان عاتيا. وما فات لن يعود ولو على صفحات الروايات. لكنني ما زلت أكتب لكي لا تشحب الذاكرة. ولكي يعرف أبنائي والجيل التالي لي أي جرم ارتكبنا وأي وطن ضيّعنا. وإذا كان من دور لي فهو النفاذ إلى عقول أولئك العقائديين الذين اشتركوا في المقتلة، وتحليل النفسيات المريضة، وما داموا سادرين في غيّهم، رافضين الاعتذار لشعب خدعوه، فإنني ماضية في تمزيق شخصياتهم في رواياتي. إنعام كجه جي كاتبة عراية تقيم في باريس
صفة كانت ولم تعد كذلك. فمن عاشر القوم أربعين يوما صار منهم، فكيف بمن أقام بينهم أربعين عاما ونيف؟ لم تعد صفة المهاجرة تنطبق عليّ بعد أن أسست تفاصيل حياتي في البلد الغريب وأنشأت أولادي وصار لي أحفاد فيه. فهل أصبحت فرنسية؟ سؤال لم يكن واردا بالنسبة لي، في أي وقت من الأوقات، لأن من يولد عراقياً يحتفظ بحبله السري مرتبطا بذلك الوطن المُعذَب، بفتح الذال، والمُعذِب، بكسرها. ومن هذه الفرضية الأقرب للحقيقة يمكنني اقتفاء أثار صلة الرحم تلك على كتاباتي.
أقرأ تعليقات على نصوصي يستغرب كاتبوها أنني ما زلت، بعد كل هذا العمر، أكتب عن العراق. كثيرون هم الكتاب الذين أمضوا أعمارهم في المهجر وواصلوا الكتابة عن أوطانهم ومجتمعاتهم وتاريخهم. الكولومبي يكتب عن كولومبيا والروسي يكتب عن روسيا والمغربي عن المغرب واللبناني عن لبنان. قد تدور الأحداث في البلد الغريب، لكن الشخصيات في الغالب هي من مواطني الكاتب والمهاجرين مثله. تنطلق الحكاية من طنجة وتمر بباريس ثم تنهي دورتها في طنجة.
هذا لا يعني أنني خرجت بحقيبة ملابسي وما زلت مقيمة فيها، أرتدي ما فيها من قمصان وفساتين ودشاديش وأوشحة. فأنا حين أطالع صورتي في المرآة أرى أنني تلبست، إلى حد كبير، زي المهجر وذوقه. لم أحب في أي يوم أن أكون النشاز. وما زال منظر المهاجر الذي يرتدي سروال الجينز تحت الجلابية القصيرة يثير عجبي. في أي ضفة هو وأي صورة يودّ أن يعكس عن نفسه؟
وإذ أتأمل، اليوم، موضوع سؤالكم، أتأكد أن الهجرة تركت بصمات عميقة على شخصيتي. ومنها انتقلت إلى كتاباتي. تعلمت معنى الاختلاف واحترام من يختلف معك في السحنة والعرق والمعتقد والرأي. تقولبت داخل شروط الديمقراطية ونضجت في مرجل الالتزام بقرار الجماعة مع الحفاظ على موقفي الخاص والدفاع عنه بالوسائل المتاحة والشرعية. أكتب عن شخصيات عراقية تقيم في باريس بفرنسا، أو ديترويت بالولايات المتحدة، أو مانيتوبا بكندا، وأحاول تحليل مواقفها وخياراتها إزاء مجتمعات غريبة عليها. كيف يكون التحرر من بعض التقاليد مفيدا وكيف ينقلب وبالا. ويحدث أن أضبط نفسي وأنا متمسكة بمبادئ تعلمتها هنا، أي ملكية أكثر من الملك، وأريد فرضها على أبطالي. عندها أعرف أنني شططت وأن حريتي المستجدة أفسدتني.
هل يمكن للحرية أن تكون مَفْسَدة؟
أهم ما اكتسبته في الغربة هو حريتي. وهي السمة ذات التأثير الأوضح على كتاباتي. ولا أزعم أنني كنت مقيدة في بغداد. لقد أتيح لي في السنوات الثلاثين الأولى من حياتي أن أدرس وأن أعمل في المهنة التي اخترت، وأن أحب وأتزوج الرجل الذي ارتضيت، وأن أعيش حياة اجتماعية مقبولة ومعقولة. كنت أتمتع بكل حرياتي إلا حرية القول والتعبير الصادق عن الرأي. كما أن حريتي كامرأة كانت منقوصة. ما كان متاحا لي أن أكتب دون التفكير في ما سيقوله والدي، عندما يقرأني، أو شقيقي، أو ما ستتركه كتابتي على شريك حياتي. أما حرية الرأي، في جانبها السياسي والعقائدي، فهي من الخيال. كنت جزءا من واقع خائف ومنافق. هناك من يصفّق ويطبّل أو أن يسكت. يبقى يراوح في مكانه ولا يتقدم.
أجمل منحة تلقيتها من فرنسا هي الحرية. كان غيابها سببا في تأخري في الكتابة الروائية. وحين امتلكتها قررت أن أكتب روايتي الأولى وأنا بحدود الخمسين من العمر. كنت مؤمنة أن الكتابة لا تستقيم مع الخوف. إن الخوف أشكال. إذ يمكن أن تخشى حشرات معينة، أو تصاب بفوبيا الأماكن المغلقة، أو ترتعب من فكرة المحققين في مراكز الاحتجاز والتعذيب. وقد استغرق مني الأمر سنوات قبل أن أكشط عن جلدي هذا النوع الأخير. ولم يكن غريبا أن الخوف كان موضوع قصصي الأولى. أكتب عنه وأنا مستقرة في المكان الآمن، لا أنتظر زوار الفجر. لكن القشعريرة تحضر أثناء الكتابة وكأنني أجترّ خوفي السابق والمُعتّق.
ممَ كنت أخاف؟ يمكن للمرء في الأنظمة الأحادية أن يخاف من كل شيء ومن لا شيء. أي ليس بالضرورة أن يكون معارضا أو أن يرتكب جرما يستدعي العقاب. لكنه يبقى خائفا مثل مجرم. والمجرم بريء حتى تثبت إدانته. هذه قاعدة قانونية عالمية. لكن في تلك البلاد، التي سميتها في مجموعتي القصصية الأخيرة «بلاد الطاخ طاخ»، ليس من المضمون إثبات براءتك. وقد عشت سنوات الحرب مع إيران في فرنسا لكنني كنت أهمس لزوجي بأن الحرب قد طالت والضحايا كثر. أهمس وأتلفت حولي في المقهى الباريسي خشية أذن واشية تلتقط ما أقول.
العيش في الاغتراب هو سمة معظم شخصيات قصصي ورواياتي. والسمة الثانية تركيزي على النساء، لاسيما المتقدمات في السن. جاءت حكاياتهن حقيقية محمولة على جناح الخيال، فيها الكثير من سيرتي وسيَر قريباتي. كانت كاشانية، في «سواقي القلوب» هي الحضن الذي يجمع نفرا من المثقفين المنفيين أو الطلبة الدارسين في باريس. وكانت بتول، والدة «الحفيدة الأمريكية» هي الصوت النائح الوحيد في حفل الحصول على جنسية بلد المهجر. أما الدكتورة وردية في «طشّاري» فهي الضمير الذي يرعى صلة الرحم بين الأبناء الذين تشتتوا في القارات. ومثلها تاج الملوك في «النبيذة»، تسعينية عبرت القرن العشرين ما بين بغداد وكراتشي والأحواز وحفظت العراق في صدرها حتى النفس الأخير.
قبل مفارقة خوفي واستثمار حريتي في المهجر، عاش زملاء لي من الأدباء والروائيين تجربة مرعبة. لقد استدعاهم القصر وطولبوا بكتابة روايات تمجّد الانتصارات وتشحذ الهمم. كانت أمام كل منهم مهلة ستة أشهر ورزمة مالية مجزية لكي ينفذ الإرادة الرئاسية. بعضهم لبى الطلب وهناك من هاجر من البلد بعد الخراب. فهل منحته الغربة شجاعة استعادة تلك المحنة؟
لوحدها، تبدو مفردة الخوف جرداء لغويا وعارية بلاغيا. هناك درجات منه خليط من الأحاسيس يتراوح ما بين الرعب والشكّ والتبلبل وفقدان الثقة بالنفس. كنت وما زلت مهمومة بالكتابة عن الخوف الذي يحوّل الإنسان السويّ إلى مسخ. وباشرت، في أيام الحصار الاقتصادي على العراق، رصد الروايات والمجموعات القصصية والشعرية التي تنشر في الداخل، أردت وضع كتاب بالفرنسية يشرح للقارئ الغربي كيف سيق الأدباء إلى الجبهات واضطروا إلى الانسياق في خطاب التعبئة بينما تحاملت الأديبات على أنفسهن وكتبن عن معاناتهن الداخلية، عن فراق الزوج والابن وعن الهجرة وشح ذات اليد وانقطاع الكهرباء والمدن التي خلت من شبابها. وحدث أن جاءت ابنة عمي من بغداد موفدة ضمن وفد هندسي. أطلعتها على فصل من كتابي فانخطف لونها واستحلفتني ألا أنشره. قالت بالحرف الواحد: «أنت هنا ونحن هناك رهائن. سيأخذوننا بجريرتك».
صدر الكتاب بالفرنسية أوائل 2003 وبغداد تتداعى. وترجم لعدة لغات. كان لابد من شرح المأزق الخانق الذي عاشه كثير من مثقفينا في تلك المرحلة. اختاروا النجاة برقابهم ولم يرحبوا بالاحتلال. إن توصيف تلك الحكايات، في قصصي ورواياتي، يوصف أحيانا بالفنتازيا، وهي مفردة لا أميل إليها لأن ما أرويه هو من صميم الواقع. ليس ذنبي أن واقعنا ذو عجائب وغرائب. هل أتسلى بروايتها وأنا في مُغتربي الآمن والمريح؟ قطعا لا. إن ما أكتبه ليس سخرية بل نزيف. لا يمكن الاستمرار في صبّ أطنان المآسي فوق رؤوس القراء. لسن بناعبة ولا ناعية. أطمح في أن أجتذب قارئي نحو مائدتي لا أن أنفره من طبيخي.
يقال إن شرّ البلية ما يُضحك. ولا أنفي عن نفسي ميلي إلى تسلية القارئ. لا أريد له أن يطرح الكتاب من يده بعد عشر صفحات أو عشرين. ولعل من حق الكاتب أن يتمتع بعمله أيضا. فالكتابة تسلية للطرفين. ويلذّ لي أن أتسلى في وصف مخبر أو رجل أمن أو مسؤول حزبيّ فاسد أو قائد مصاب بجنون العظمة. أي أن أنزع عن أولئك مهابتهم وأضفي عليهم صفات بشعة وهزلية. أحوّل المتجبّر إلى مهرج.
هل أنا كاتبة سياسية؟ لا أظن. لعل الأصح أنني كاتبة مشتاقة تعبر بالروايات والقصص عن شوقها إلى مسقط الرأس الذي افترقت عنه بإرادتها جزئيا، ومرغمة في جزء ثان. أقول مع القائلين إن السياسة موجودة في كل تفاصيل حياتنا. أدير رأسي في هذا المجتمع الباريسي الباذج وأغبط القوم على اللامبالاة إلا بما يمسّ لقمة العيش. لقد كسبوا حرياتهم وارتاحوا. حرروا بلدهم من النازية ووضعوا أسس نظام ديمقراطي وجعلوا التعليم مجانيا والتطبيب حقا لكل مواطن. انصرف الروائيون عن النضال الذي بات عملة بائدة وتفرغوا لقصص الحب والنزاعات العائلية والميول المثلية. يأتيهم روائي أو روائية من لبنان أو الجزائر أو الكونغو، يحدثهم عن الحرب وعن السعي للحرية وعن اضطهاد المرأة فيحتفون به وبها وكأنهم يكتشفون جديدا. هناك على هذه الأرض مَن ما زال يناضل ليستحق الحياة... يا للعجب!
يلتهمون الكتابات المترجمة من لغات العالم الثالث لأنها تتحدث عن تلفزيون لا يبث سوى صور القائد وجولاته وخطاباته. يصدقونك أحيانا أو قد يتهمونك بالمبالغة. كيف لهم أن يستوعبوا وجود حزب يرهب الناس لكي ينتموا إليه؟ أو جامعات ووظائف تشترط الانتماء قبل قبولك فيها؟ أو أن تكون كهلا محروما من السفر طوال عمرك؟ ماذا يريد الروائي أكثر من هكذا حكايات ليكتب روايات ذات نبض حقيقي؟ سيتهمونك بأنك تشوّه صورة أهلك وبلدك. وبأنك تغازل الغرب لتفوز برضا الناشرين والنقاد. كأن الصورة جميلة ورائعة ولا عوار فيها وأنت من يزيّف الحقائق. ليس مهما أن يتجرع مواطنوك المرّ لكن عليهم أن يستعذبوه ويقولوا: «ألله ما أطيبه!».
عرض النظام الليبي، في ثمانينيات القرن الماضي، مليون دولار على خبير الدعاية الفرنسي الشهير جاك سيغيلا مقابل حملة لتحسين صورة القذافي في الإعلام الفرنسي. قال لي الرجل إنه رفض العرض المغري لأن المهمة مستحيلة. فصاحب الصورة يرفض التحسن.
وسط هذا النوع من الأجواء أكتب عن العراق الذي أساؤوا إلى صورته بشكل فادح. الطرفان تقاسما الإساءة. أهله وأعداؤه. حرضتني الغربة على القيام بدور محامي الدفاع. فإن أكون كاتبة عراقية في فرنسا يعني أن أن أنطق بلسان كل الخاسرين. كانت شقتي الضيقة هي الرديف لمعنى البيت كما عرفته في بغداد. لا حديقة، بل بلكونة عرضها ثلاثة أشبار. ولا سطح ننام فوقه في الصيف بل طوابق أشبه بالعلب المرصوفة فوق بعضها. وفي تلك الأجواء المغايرة، وعلى مدى ثلاثين سنة، كانت زخات المطر تضرب نافذتي وأنا أكتب عن عراقيين يعيشون جفافا في درجة خمسين مئوية. أرفع رأسي عن شاشة حاسوبي فأرى وطني على شاشات القنوات الغربية. رأيته حاضرا في نشرات الأخبار باعتباره مهدا للنزاعات والانقلابات والمشانق وأسلحة الدمار الشامل. أهكذا يُختصر العراق؟ جاء المحتلون فازدادت الصورة سوداوية. ثروة حضارية ومائية ونفطية وشعب بلا ماء صافٍ ولا كهرباء. وأنا الغريبة التي عليها أن تسير عكس التيار وأن تأخذ القارئ العربي والأجنبي إلى الفردوس المفقود الذي نشأت في بيئته المنفتحة والمتسامحة والعصرية والمثقفة. أكتب مستخدمة الوعي الذي اكتسبته في المهجر، وتجاربي في محاورة كبار مثقفيه ومعايشة أطياف واسعة من الأعراق والجنسيات. إن حصيلتي من الغربة لا تقارن بما كان متاحا لي لو بقيت هناك. فهل أكتب لكي أستعيد وطنا يتبدد بالتقسيط؟
لقد تجاوزت سن السذاجة والرومانسية. فالزلزال كان عاتيا. وما فات لن يعود ولو على صفحات الروايات. لكنني ما زلت أكتب لكي لا تشحب الذاكرة. ولكي يعرف أبنائي والجيل التالي لي أي جرم ارتكبنا وأي وطن ضيّعنا. وإذا كان من دور لي فهو النفاذ إلى عقول أولئك العقائديين الذين اشتركوا في المقتلة، وتحليل النفسيات المريضة، وما داموا سادرين في غيّهم، رافضين الاعتذار لشعب خدعوه، فإنني ماضية في تمزيق شخصياتهم في رواياتي. إنعام كجه جي كاتبة عراية تقيم في باريس