الغرامة الضخمة والقياسية التي فرضها الاتحاد الأوروبي هذا الأسبوع على شركة ميتا الأمريكية المالكة لشبكة التواصل الاجتماعي الشهيرة «فيسبوك»، والتي بلغت مليارا وثلاثمائة مليون دولار، لا يجب أن تمر علينا في العالم العربي بوجه خاص، وفي دول العالم الثالث على وجه العموم مرور الكرام، فنحن لسنا أقل من الأوروبيين عندما يتعلق الأمر بانتهاكات فيسبوك لخصوصياتنا ويتبادل بياناتنا الخاصة مع جهات خارجية، ويمكننا استنادا إلى هذا العقاب التاريخي لهذه الشركة أن تتكتل هذه الدول ضد هذه الممارسات غير الإنسانية وتطالب بوقفها وبتعويضات كبيرة عن الأضرار التي سببتها لمواطنيها، لا تقل عن التعويضات الخاصة بالأوروبيين.

لا يمكن أن تتحول دولنا ومنظماتنا الإقليمية إلى «شاهد مشفش حاجة» في الصراع المحتدم بين دول الاتحاد الأوروبي وشركات التقنية العملاقة، التي توحشت بالفعل. ولم يعد مقبولا أن نغض الطرف، كعادتنا في القضايا الكبرى، عن مثل هذه التطورات، ونتصرّف وكأن الأمر لا يعنينا في شيء، خاصة أن هذه الشركات والمنصات الاجتماعية تفعل بنا أضعاف ما تفعل مع مستخدميها الأوروبيين. لذلك فإننا أمام مثل هذه الأحكام التاريخية التي تصب في صالح الأفراد والحكومات يجب ألا نواصل دفن رؤوسنا في الرمال، وأن نبدأ دون إبطاء طريق مقاضاة تلك الشركات، ليس بهدف الحصول منها على تعويضات ضخمة فقط، وهو هدف مشروع، ولكن أيضا لإجبارها على تصحيح سياساتها في التعامل مع بيانات مستخدميها وخصوصياتهم.

ما الذي حدث إذن وماذا علينا أن نفعل؟ الاثنين الفائت حكمت لجنة حماية البيانات الإيرلندية بالاتحاد الأوروبي بتوقيع غرامة وصفت بالقياسية، وبلغت 1.3 مليار دولار على الشركة الأم لفيسبوك، بعد أن ثبت أنها انتهكت خصوصية بيانات المستخدمين، وقامت بنقل هذه البيانات من أوروبا إلى الولايات المتحدة الأمريكية. واستندت اللجنة في حكمها إلى أن الشركة خالفت نص المادة 46 من اللائحة الأوروبية العامة لحماية البيانات، والتي تسمح لشركات التكنولوجيا في ظل ظروف معينة بنقل البيانات الشخصية من الاتحاد الأوروبي «لدولة ثالثة أو منظمة دولية»، في حال قدمت «ضمانات مناسبة، وبشرط توفير التعويضات القانونية الفعالة لأصحاب البيانات».

ولم تكتفِ اللجنة التي أصدرت الحكم، بهذه الغرامة التي تُعد الأضخم التي يفرضها الاتحاد الأوروبي على شركة من شركات التقنية العملاقة، متجاوزة بذلك الرقم القياسي السابق للغرامة البالغة 887 مليون دولار، والتي فرضتها لجنة حماية البيانات التابعة للاتحاد الأوروبي في لكسمبورج ضد شركة أمريكية أخرى هي «أمازون» في نهاية يونيو 2021، بسبب انتهاكها قوانين حماية البيانات الأوروبية، وإنما أضافت لها أمرًا لشركة «ميتا» يقضي بتعليق جميع عمليات نقل البيانات الشخصية الخاصة بالمستخدمين في الاتحاد الأوروبي والمنطقة الاقتصادية الأوروبية، والتي تشمل دولًا من خارج الاتحاد الأوروبي، هي آيسلندا، وليختنشتاين، والنرويج، إلى الولايات المتحدة الأمريكية. ويمنح الحكم شركة «ميتا» مهلة خمسة أشهر لاتخاذ تدابير فعلية لوقف جميع عمليات النقل المستقبلية للبيانات الشخصية إلى الولايات المتحدة، وستة أشهر لإيقاف المعالجة غير القانونية لبيانات مستخدمي الاتحاد الأوروبي والمنطقة الاقتصادية الأوروبية، بما في ذلك تخزين هذه البيانات في خوادم بالولايات المتحدة الأمريكية.

في المحصلة النهائية فإن قرار اللجنة الأوروبية يُعد التطور الأكبر والأحدث في سلسلة صراع سياسي وقانوني طويل الأمد للتوفيق بين القوانين الأمريكية المتعلقة ببيانات المستخدمين وبين مثيلاتها الأوروبية، التي توفر، كما تقول صحيفة واشنطن بوست الأمريكية، حماية أكبر للخصوصية والأمان عبر الإنترنت. وقد سبق هذه الخطوة حكم آخر لمحكمة العدل التابعة للاتحاد الأوروبي في عام 2020 يؤكد أن اتفاقية حماية البيانات التي يُطلب من مستخدمي الشبكات الأمريكية الموافقة عليها عند التسجيل، لا تتوافق بشكل كاف مع قانون الخصوصية في الاتحاد الأوروبي، وهو ما دفع العديد من شركات هذه الشبكات إلى إعادة النظر في كيفية جمع وتخزين بيانات المستخدمين الأوروبيين، لكنها لم تتوقف عن نقل هذه البيانات إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

وبصرف النظر عن الجدل الكبير الذي أحدثه هذا الحكم بين المهتمين بهذه الصناعة، وخشية بعضهم أن يؤثر ذلك على تطور التطبيقات الجديدة وكفاءة عمل الشركات الأمريكية العملاقة والتأثير السلبي على قدرتها على الإبداع والابتكار، وتأكيد «ميتا» أنه لن يكون هناك تعطيل فوري لشبكة فيسبوك في أوروبا نتيجة هذا الحكم، فإننا نستطيع أن نقول وبدرجة كبيرة من الثقة إن هذا الحكم المهم سوف يكون مقدمة لكي تطالب دول واتحادات ومنظمات إقليمية ودولية عديدة بالمعاملة بالمثل، سواء على مستوى التعويضات أو على مستوى عدم نقل بيانات مواطنيها إلى الولايات المتحدة، خاصة وأن «ميتا» وغيرها من شركات التقنية لم تتعظ من قبل بالغرامة أو التسوية الضخمة التي توصلت لها مع لجنة التجارة الفيدرالية الأمريكية في عام 2019، والتي بلغت خمسة مليارات دولار لوقف التحقيق في تهمة إساءة التعامل مع بيانات المستخدمين، والذي كان قد بدأ في أعقاب الفضيحة المعروفة بـ «كامبريدج انالتكا»، وهي شركة البيانات، التي كانت جزءًا من الحملة الانتخابية للرئيس السابق دونالد ترامب، واستغلت البيانات التي تم جمعها بشكل غير قانوني من مستخدمي فيسبوك للتأثير على عملية التصويت في انتخابات 2016، وهي التسوية التي لم يرض عنها العديد من أعضاء الكونجرس وقتها، ووصفوها بأنها غير كافية وأنها «هدية عيد الميلاد» و«لدغة البعوض» للعملاق التكنولوجي.

أعتقد أن من حق مستخدمي خدمات وشبكات شركات التقنية العملاقة في جميع أنحاء العالم، وليس في أوروبا وحدها اللجوء إلى القضاء والمطالبة بتعويضات مناسبة عن استغلال بياناتهم ونقلها إلى دول وأجهزة ومنظمات أجنبية، بالإضافة إلى انتهاك خصوصياتهم.

ولا شك أن الأنظمة القضائية في كل الدول تسمح بمقاضاة الشركات الأجنبية التي تقدم خدمات لمواطنيها. وإذ كان هذا ممكنا على المستوى الفردي فإنه يكون أقوى إذا تم على مستوى الدول نفسها عبر المؤسسات المعنية بتقنية المعلومات والاتصالات، والأجهزة واللجان المعنية بالأمن السيبراني، والتي يمكنها اختصام هذه الشركات أمام القضاء الوطني للدفاع عن مصالح مواطنيها، ومطالبتها بتعويضات عادلة عما نقلته من بيانات من قبل، وإلزامها بوقف نقل المزيد من بيانات المستخدمين إلى جهات أخرى سواء في الداخل أو في الخارج. وتبقى المنظمات الإقليمية، وما أكثرها لدينا، والتي يمكن أن تفعل ما فعله الاتحاد الأوروبي مع «ميتا»، إذ ما توافرت لديها الإرادة والإمكانات القانونية.

صحيح أن شركات التقنية العملاقة قادرة بما يتوافر لها من قوة تكنولوجية ومالية على فعل ما تريد، خاصة إذا تعلق الأمر بالمستخدمين الصامتين في دول العالم الثالث، والذين ليس لهم من الأمر شيء للدفاع عن بياناتهم، ويقومون بدور الشاهد الذي لم يشاهد شيئا.

علينا، إذن، أن نحاول أن نُلقي حجرًا في الماء الراكد، لعل وعسى أن تنتبه هذه الشركات ومن يديرونها إلى أن مواطني الدول النامية ليسوا أقل من المواطنين الأوروبيين. فكلنا في استخدام التكنولوجيا وفي التهديدات التي تمثلها تلك الشركات لخصوصياتنا سواء. الفارق فقط أن المواطن الأوروبي يقف خلفه اتحاد قوي ولجان تشريعية وقانونية قوية، تدافع عنه وعن مصالحه، وقادرة على إجبار الآخرين على احترام قوانينها.