مثلما حضر المطرب الكبير عبدالكريم عبدالقادر في وجدان شعوب الخليج من الكويت إلى عُمان، فإنه يحضر بكثافة كذلك في أدب مبدعيها، بل لعلني لا أبالغ إن قلتُ إنه وطلال مداح أكثر مطربَيْن في الخليج مّثَّل حضورهما في الأدب الخليجي نوعًا من النوستالجيا لزمن جميل يحنّ إليه بطل العمل الأدبي ولسان حاله عبارة «الصوت الجريح» في إحدى أغانيه: «غريب كيف الزمن يرحل». إنه المطرب الذي يُشعِرك وأنت تستمع إليه أنه يغني لك وحدك، إذا ما استعرنا تعبير أحد شخوص رواية «فئران أمي حصة» للروائي الكويتي سعود السنعوسي.

في هذه الرواية - «فئران أمي حصة» - أضحى عبدالكريم عبدالقادر، بحضوره الطاغي، وأغانيه المعبّرة، أحد أبطال الرواية الحقيقيين، بحيث إن صوته في خلفية الأحداث استطاع قول ما لم يقله النص بشكل مباشر. ما من حدث أو مناسبة سياسية أو اجتماعية أو وطنية أو حتى رياضية إلا وكانت أغنية عبدالكريم حاضرة، ولا يكتفي السنعوسي بتوظيف الأغاني، بل حتى صورة لِحية عبدالكريم الكثة في أحد «كاسيتاته» جعلها تنطق شاهدة على المزاج العام في كويت التسعينيات.

وإذن، لا يحضر «الصوت الجريح» في رواية السنعوسي من خلال حاسة السمع فقط، بل حاسة البصر أيضًا، كما رأينا، ليضيف إليها القاص العُماني عبدالعزيز الفارسي حاسة الشَمّ في قصته البديعة: «الرائحة» المنشورة ضمن مجموعته الأخيرة «رجل الشرفة صياد السحب». في تلك القصة تمكّن العالِم الهندي الشاب من تطوير جهاز «سميل3» الذي صار بمقدوره إعادة تكوين الرائحة الأصلية في أي تسجيل للفيديو مهما كان عمره. وقد أدى ذلك إلى خيبة أمل فيما يسميها السارد «الأفلام العظيمة التي عشقناها» فقد صارت غير مقنعة أبدًا لأن الروائح خالفت حقيقة المَشاهد المعروضة، مثلاً المشاهد التي تصور البطلة في حالة فقر مدقع ناقضت رائحة عطرها خيالي السعر الذي تسلل إلينا من الجهاز. لكن حين يأتي دور الحديث عن المطربين فإن عبدالكريم عبدالقادر هو ثاني اثنين استثناهما السارد من الرائحة الكريهة التي تنبعث منهم: «كرهنا عددا كبيرًا من المطربين بسبب روائحهم في أغنيات الفيديو كليب. بقي عبدالكريم عبدالقادر وكاظم الساهر- طيّب الله ثراهما- جميلَيْ الصوت والمعنى والرائحة»، والسارد يدعو هنا لهما بطيب الثرى لأنه يسرد لنا هذه القصة سنة 2076م، كما سنكتشف في نهايتها، أي أن رائحة عبدالكريم ستظل زكية بعد أكثر من نصف قرن على رحيله.

وإذا كانت قصة الفارسي عابقة بالسخرية، فإن عبدالكريم عبدالقادر لم يحضر فيها إلا بهيبته التي عهدناه بها، وكأن مؤلف «الرائحة» الذي كان بإمكانه اختيار أي مطرب آخر غير عبدالكريم، أراد من خلال هذه القصة توجيه التحية له ولكاظم. ولكن هل يعني هذا أن عبدالكريم لا يمكن أن يحضر في الأعمال الأدبية إلا بهذه الصورة المبجلة؟. الإجابة العَملية تأتينا من قصة القاص العُماني مازن حبيب «لن يحدث لي مكروه» المنشورة ضمن كتابه «قوانين الفقد». في أحد مواقف هذه القصة تغضب الأم وتخاطب ابنها وأباه قائلة: «غيبوا! كلكم من نفس الطينة» وتنصرف، فيما يضحك الأب مستمتعًا بردة فعلها المكررة وقدرته على توقعها وهو يدندن أغنية عبدالكريم: «غيب وأنا أغِيب، ونشوف من هو اللي يتأثر». يعلق الابن- سارد القصة- على ذلك بالقول: إن أباه دندن الأغنية بنشاز بارز على نحو إن استمع له عبدالكريم عبدالقادر شخصيًّا لَتألم للتشوّه الذي حاق بأغنيته!. ومع ذلك؛ فمن المؤكد أن الأب لم يختر أغنية عبدالكريم في ذلك الموقف الساخر إلا لأنه يحبه، ومن يدري، فلعله أيضًا ممن يرددون عبارة فهد في «فئران» السنعوسي: «عبدالكريم يغني لي الآن، وحدي».

هذه العبارة الأخيرة التقطتْها الكاتبة العُمانية منى حبراس ونسجتْ منها نصًّا جميلًا في كتابها «ظل يسقط على الجدار» عنونتْه: «الصوت الجريح يغني لي». تقول منى: إنها مع عبد الكريم اكتشفت أن «المواساة ليست في القدرة على التخفيف عن الحزين، وإنما في القدرة على الحزن معه. وعبد الكريم جريح بما يكفي لأن يشاركنا أحزاننا جميعا»، وتستدعي من ذاكرتها صورة طفلة تحرص على سماع الفنان وهو يغني: «بيني وبينك غربة كنها الليل»، مؤكِّدةً أنه «لم يكن حزن عبد الكريم ما يشدها لصوته في طفولتها تلك، ولكن شيئا خفيا تحاول اكتشافه في كل مرة تسمع فيها أغانيه». لذلك ظلت مُداوِمة على الاستماع إلى القناة الإذاعية الخاصة به «أحوال العاشقين»، التي تذكرها في هذا النص، وستكرر ذكرها، وإنْ في سياق مختلف، في نص آخر نشرتْه في جريدة عُمان بعنوان «في بيت محمد نظام». في هذا النص، وهي تستقل سيارتها إلى بيت الفنان التشكيلي العُماني الراحل الذي تزوره للمرة الأولى لغرض يتعلق بعملها في مؤسسة «بيت الزبير»؛ كان طبيعيًّا أن تعتمد على خريطة جوجل التي بعثها لها زميلها فهد. لكنها تقرر شيئًا آخر: «قررتُ أن أتبع فهد الذي بدأتْ سيارته تتحرك هو الآخر، وتركتُ عبدالكريم عبدالقادر يغني لي وحده عبر إذاعته أحوال العاشقين من دون مقاطعات من تطبيق جوجل ماب». المضمر في هذه العبارة أنك لن تحتاج إلى خريطة أو بوصلة ما دام فنانًا يقودك في الطريق، فكيف إذا كان هذا الطريق يقودك إلى فنان آخر!، وكيف إذا كان هذا الفنان الذي يسير بك في الدروب ومنعرجاتها هو عبدالكريم عبدالقادر الذي ظل أكثر من ستين عامًا اللسان الفنّي الناطق بهموم شعوب الخليج، والحاضر الكبير في وجدانها.