وضع الفلسفة عجيب في عالمنا العربي: ففي حين أن المسؤولين يستخدمون في خطاباتهم الرسمية كلمة «الفلسفة» لإضفاء العمق والمشروعية على خططهم وبرامجهم كأن يصرحوا على سبيل المثال أن هناك «فلسفة ما» تكمن وراء هذا المشروع أو ذاك؛ فإننا في دنيا الواقع نجد أن عموم الناس لا يُقدِّرون الفلسفة حق قدرها باعتبارها أسمى أنواع المعرفة، بل يستهينون بكلمة «الفلسفة»، وربما يسخرون منها. ذلك أن صورة الفلسفة لدى عموم الناس في واقعنا العربي لا تزال صورة مشوَّهة؛ فهي لا تعدو أن تكون كلامًا أو جدالًا لا طائل من ورائه. يشهد بذلك تلك العبارات المتداولة على ألسنة الناس في الحياة اليومية حينما يجدون شخصًا يتحدث بعمق، من قبيل قولهم: «بلاش فلسفة» (باللغة العامية)!
ولا شك في أن تلك حالة عجيبة؛ لأنها تعكس حالة من الانفصام في التعامل مع مفهوم «الفلسفة» المتداول في الخطاب الرسمي، والتعامل معه في دنيا الواقع؛ وتلك حالة تعكس نكوصًا في الوعي العام. وليست تلك بالحالة الجديدة، بل تجلت من قبل في فترات من النكوص الحضاري الذي عبر عن نفسه حتى في العداء، ليس إزاء الفلسفة وحدها، وإنما أيضًا إزاء «المنطق»؛ ومن ثم شاع القول إن «مَن تمنطق فقد تزندق»!
الفلسفة منذ نشأتها في عصر القدماء وحتى الآن هي كما فهمها أفلاطون البحث عن «الواحد في الأشياء جميعا»، وهو كان يقصد بذلك أنها بحث عن المعنى الكلي الواحد فيما يكون جزئيا ومتغيرا. والواقع أننا لو تأملنا حقيقة المحاورات الأفلاطونية لوجدنا أنها جميعها تجسيد للفلسفة بهذا المعنى، فعادة ما نجد في هذه المحاورات السؤال الأفلاطوني الذي يَرِد على لسان الشخصية الرئيسة التي يصورها أفلاطون (وهي شخصية أستاذه سقراط)، كأن يسأل- على سبيل المثال- عن حقيقة الفن أو معناه، فيجيب المسؤول بأن الفن هو مثل هذا العمل النحتي المصنوع من الرخام أو مثل هذا العمل المعماري المنتصب هناك فوق التل، إلخ. ولكن السائل يعود فيقول للمسؤول: أنا لا أسألك عن هذه الأمثلة الجزئية المتغيرة في هذا أو ذاك، وإنما أسألك عما يجعلنا نصف هذا العمل أو ذاك أو غيره بأنه فن!
هكذا يمتاز البحث في الفلسفة عن البحث في الجزئي والمتغير الذي هو بحث في المفاهيم أو المعاني كما نتداولها في الحياة اليومية وفي السياقات الفكرية، بما في ذلك العلوم الإنسانية. ولذلك فمن الخطأ أن نتصور الفلسفة بوصفها علمًا يشبه العلوم الإنسانية الأخرى؛ لأن موضوع هذه العلوم تظل هي الظواهر الجزئية المتغيرة التي تختلف باختلاف الزمان والمكان، أي كما تقع في زمان ومكان ما، ومن ثم ترتبط بسياق ما. والحقيقة أنه هنا تحديدا تكمن مشكلة العلوم الإنسانية كما تجري في واقعنا الراهن في عالمنا العربي، وذلك حينما يَعمد الباحثون إلى دراسة الظواهر الجزئية المتغيرة بمنأى عن التأصيل الفلسفي لها، أعني أن الباحثين يهتمون بإجراء البحوث الميدانية التي تعتمد على الاستبيانات والإحصائيات من دون فهم حقيقي لمعاني الظواهر التي يتم إجراء البحوث عليها. ولإيضاح المقصود هنا يمكن أن نضرب المثال التالي: لنفترض أن باحثًا أراد أن يدرس سيكولوجية الذوق الجمالي، فتراه يدرس الفروق بين الجنسين في تفضيل الألوان، أو يدرس الفروق بين الريف والحضر في هذا التفضيل في إطار مجتمع ما. ولكننا نجد أن الباحث لم يسأل نفسه السؤال الفلسفي الأساسي، وهو: ما الذوق الجمالي؟ وهل يمكن اختزال الذوق الجمالي في مسألة تفضيل الألوان؟ أعني أن البحث الفلسفي عن المعنى هو ما يمكن أن يضبط ويحدد الفروض التي يريد الباحث أن ينطلق منها أو يمتحنها.
ومن هنا يمكن أن نفهم رسالة الفينومينولوجيا (أو فلسفة الظواهر) بوصفها إعادة اعتبار لدور الفلسفة الحقة، ولمهمتها بوصفها مهمة أولى أو بحثا أول سابقا على كل بحث غيره، أي بوصفها بحثًا في ماهية أو معنى الظواهر كما نعايشها في الخبرة الإنسانية. هذه هي المهمة الحقيقية للفينومينولوجيا التي تتصدر مشهد البحث في العلوم الإنسانية منذ قرن من الزمان، ولكن أغلب الباحثين في عالمنا العربي ربما لا يعرفون شيئًا عنها. وبطبيعة الحال، فإن البحث في معنى الأشياء أو الظواهر ليس من قبيل البحث النظري المجرد، وإنما هو بحث مستفيض يسعى إلى التعرف على ماهية الأشياء من خلال التعرف على تفاصيلها الدقيقة كما تتبدى لنا في الأشياء نفسها وكما نجدها في الخبرة من خلال أمثلة عيانية، ولكن ما يشغل الفيلسوف دائمًا هو المعنى الكلي، وليس ما هو جزئي وعارض وعابر!
وعلى هذا، فإن الفلسفة الحقة كما أفهمها هي في النهاية فلسفة الحياة. فلا غناء في المذاهب والنظريات الفلسفية إن لم تطلعنا على شيء من فهم الحياة التي نحياها؛ ذلك أن المعنى الكلي الذي يتم اكتشافه لن يكون تصورًا مجردًا، كما أنه في الوقت ذاته لن يكون شيئا شخصيا عارضا يخصني وحدي، بل إنه سيكون معنى يمكن لأي شخص آخر أن يتعرف أيضًا عليه بنفسه. وحينما نقول إن مهمة الفلسفة الحقة تكمن في كونها فلسفة للحياة، فإن هذا يعني أنها فهم لخبرات الحياة المعيشة، سواء كانت في مجال الفن والجمال أو الأخلاق أو الدين أو البيئة أو غير ذلك.
ولا شك في أن تلك حالة عجيبة؛ لأنها تعكس حالة من الانفصام في التعامل مع مفهوم «الفلسفة» المتداول في الخطاب الرسمي، والتعامل معه في دنيا الواقع؛ وتلك حالة تعكس نكوصًا في الوعي العام. وليست تلك بالحالة الجديدة، بل تجلت من قبل في فترات من النكوص الحضاري الذي عبر عن نفسه حتى في العداء، ليس إزاء الفلسفة وحدها، وإنما أيضًا إزاء «المنطق»؛ ومن ثم شاع القول إن «مَن تمنطق فقد تزندق»!
الفلسفة منذ نشأتها في عصر القدماء وحتى الآن هي كما فهمها أفلاطون البحث عن «الواحد في الأشياء جميعا»، وهو كان يقصد بذلك أنها بحث عن المعنى الكلي الواحد فيما يكون جزئيا ومتغيرا. والواقع أننا لو تأملنا حقيقة المحاورات الأفلاطونية لوجدنا أنها جميعها تجسيد للفلسفة بهذا المعنى، فعادة ما نجد في هذه المحاورات السؤال الأفلاطوني الذي يَرِد على لسان الشخصية الرئيسة التي يصورها أفلاطون (وهي شخصية أستاذه سقراط)، كأن يسأل- على سبيل المثال- عن حقيقة الفن أو معناه، فيجيب المسؤول بأن الفن هو مثل هذا العمل النحتي المصنوع من الرخام أو مثل هذا العمل المعماري المنتصب هناك فوق التل، إلخ. ولكن السائل يعود فيقول للمسؤول: أنا لا أسألك عن هذه الأمثلة الجزئية المتغيرة في هذا أو ذاك، وإنما أسألك عما يجعلنا نصف هذا العمل أو ذاك أو غيره بأنه فن!
هكذا يمتاز البحث في الفلسفة عن البحث في الجزئي والمتغير الذي هو بحث في المفاهيم أو المعاني كما نتداولها في الحياة اليومية وفي السياقات الفكرية، بما في ذلك العلوم الإنسانية. ولذلك فمن الخطأ أن نتصور الفلسفة بوصفها علمًا يشبه العلوم الإنسانية الأخرى؛ لأن موضوع هذه العلوم تظل هي الظواهر الجزئية المتغيرة التي تختلف باختلاف الزمان والمكان، أي كما تقع في زمان ومكان ما، ومن ثم ترتبط بسياق ما. والحقيقة أنه هنا تحديدا تكمن مشكلة العلوم الإنسانية كما تجري في واقعنا الراهن في عالمنا العربي، وذلك حينما يَعمد الباحثون إلى دراسة الظواهر الجزئية المتغيرة بمنأى عن التأصيل الفلسفي لها، أعني أن الباحثين يهتمون بإجراء البحوث الميدانية التي تعتمد على الاستبيانات والإحصائيات من دون فهم حقيقي لمعاني الظواهر التي يتم إجراء البحوث عليها. ولإيضاح المقصود هنا يمكن أن نضرب المثال التالي: لنفترض أن باحثًا أراد أن يدرس سيكولوجية الذوق الجمالي، فتراه يدرس الفروق بين الجنسين في تفضيل الألوان، أو يدرس الفروق بين الريف والحضر في هذا التفضيل في إطار مجتمع ما. ولكننا نجد أن الباحث لم يسأل نفسه السؤال الفلسفي الأساسي، وهو: ما الذوق الجمالي؟ وهل يمكن اختزال الذوق الجمالي في مسألة تفضيل الألوان؟ أعني أن البحث الفلسفي عن المعنى هو ما يمكن أن يضبط ويحدد الفروض التي يريد الباحث أن ينطلق منها أو يمتحنها.
ومن هنا يمكن أن نفهم رسالة الفينومينولوجيا (أو فلسفة الظواهر) بوصفها إعادة اعتبار لدور الفلسفة الحقة، ولمهمتها بوصفها مهمة أولى أو بحثا أول سابقا على كل بحث غيره، أي بوصفها بحثًا في ماهية أو معنى الظواهر كما نعايشها في الخبرة الإنسانية. هذه هي المهمة الحقيقية للفينومينولوجيا التي تتصدر مشهد البحث في العلوم الإنسانية منذ قرن من الزمان، ولكن أغلب الباحثين في عالمنا العربي ربما لا يعرفون شيئًا عنها. وبطبيعة الحال، فإن البحث في معنى الأشياء أو الظواهر ليس من قبيل البحث النظري المجرد، وإنما هو بحث مستفيض يسعى إلى التعرف على ماهية الأشياء من خلال التعرف على تفاصيلها الدقيقة كما تتبدى لنا في الأشياء نفسها وكما نجدها في الخبرة من خلال أمثلة عيانية، ولكن ما يشغل الفيلسوف دائمًا هو المعنى الكلي، وليس ما هو جزئي وعارض وعابر!
وعلى هذا، فإن الفلسفة الحقة كما أفهمها هي في النهاية فلسفة الحياة. فلا غناء في المذاهب والنظريات الفلسفية إن لم تطلعنا على شيء من فهم الحياة التي نحياها؛ ذلك أن المعنى الكلي الذي يتم اكتشافه لن يكون تصورًا مجردًا، كما أنه في الوقت ذاته لن يكون شيئا شخصيا عارضا يخصني وحدي، بل إنه سيكون معنى يمكن لأي شخص آخر أن يتعرف أيضًا عليه بنفسه. وحينما نقول إن مهمة الفلسفة الحقة تكمن في كونها فلسفة للحياة، فإن هذا يعني أنها فهم لخبرات الحياة المعيشة، سواء كانت في مجال الفن والجمال أو الأخلاق أو الدين أو البيئة أو غير ذلك.