ـ تحليلات مخبرية للعينات أكدت تجاوز تركيزات حمأة نفايات الزيوت 3%
ـ بطء في الاستجابة .. وهيئة البيئة لا ترد على أسئلة "عمان"
ـ توثيق تصاعد ألسنة اللهب والدخان وانتشار روائح كيميائية في 9 مواقع
حدث الأمر صدفة، عندما اكتشف مربو الماشية الذين فجعوا بنفوق ٢٠ رأسا من ماشيتهم، أن الموقع المحاصر بالسواتر الترابية لا يمكن أن يكون مردما عاديا مثله مثل غيره من المرادم، ولا يوجد حوله ما يشير إلى أنه مكان خطر .. كانت الأدخنة المتصاعدة تسبب الاختناق للبشر، أما المواشي فكان مصيرها النفوق جميعا رغم مئات الريالات التي دفعت من أجل علاجات المضادات الحيوية التي قررها الأطباء البيطريون.
في أواخر شهر رمضان وصلت إشارة إلى جريدة عمان من بعض مربي الماشية مفادها أن أدخنة وألسنة لهب تتصاعد من مردم "هصاص" بولاية سمائل تُسبب الاختناق، وأن مواد، تبدو خطرة جدا، تسببت في نفوق الماشية.
بدا واضحا أن الأمر خطر للغاية وأن وراء نفوق تلك الحيوانات العجم قصة تستحق البحث والتقصي، خاصة وأن القصة بدأت في فصولها الأولى في شهر فبراير الماضي ورغم الشكوى التي تقدم بها مربو الماشية لممثلي المجلس البلدي في سمائل وزيارة موظفي إدارة هيئة البيئة بمحافظة الداخلية وبلدية سمائل للموقع وتأكيدهم على خطورة هذه المخلفات، إلا أنه لم يتم التعامل مع هذه المخلفات باستئصالها من التربة واستمر الأمر على ما هو عليه.
تبدأ فصول القصة من فقدان سالم بن راشد المجلبي لـ17 رأسا من ماشيته على دفعتين في فبراير الماضي، وبعد تتبع آثارها تم العثور عليها في مردم "هصاص" وسط مواد تنبعث منها ألسنة اللهب والدخان ورائح كيميائية .. استطاع المجلبي بمساعدة أبنائه إخراج 7 منها على قيد الحياة، رغم خطورة المواد التي وقعت فيها، ولم يكن المجلبي يعلم أن الماشية التي أنقذها ستفارق الحياة رغم الأموال التي دفعها في معالجتها باستخدام كافة الأدوية والمضادات الحيوية المتوفرة، تواصل مالك الماشية مع عضو المجلس البلدي بمحافظة الداخلية ممثل ولاية سمائل خليل بن خلفان القرني لإيصال شكواه حول مشكلة بيئية تسببت في نفوق مجموعة من ماشيته والاستعلام عن الجهات المعنية لتقديم بلاغ حول هذه المخلفات في مردم "هصاص".
وقال سالم بن راشد المجلبي لـ"عمان": بدأت المشكلة في 9 فبراير من العام الجاري بفقدان 17 رأسا على دفعتين وقد تواصل عضو المجلس البلدي بمحافظة الداخلية ممثل ولاية سمائل خليل بن خلفان القرني مع إدارة هيئة البيئة في محافظة الداخلية الذين زاروا موقع المردم ووقفوا على المشكلة، إلا أنه لم يصلنا شيء بخصوص ماهية المشكلة رغم مطالباتنا بالكشف عن الجهة المتسببة في هذه المشكلة البيئية وتعويضنا عما فقدناه من المواشي لنحو شهر ونص الشهر، وتكرر التواصل مع إدارة هيئة البيئة بمحافظة الداخلية مرة أخرى عن طريق أحد الأقارب، تلاه قيام فريق من الإدارة بزيارة الموقع مجددا برفقة مدير بلدية سمائل في أواخر شهر مارس الماضي وكنا برفقتهم، وأكد حينها مدير البلدية بسمائل عدم معرفته بالمشكلة البيئية في هذا الموقع، وطالب بحل عاجل لإزالة هذه النفايات، وبدورنا طالبنا بتسوير المردم للحد من المزيد من الخسائر في الماشية، إلا أنهم أكدوا أن هذا الأمر يحتاج إلى إجراءات عديدة، وللحد من تكرار نفوق المزيد من الماشية قمت بنقلها إلى مكان آخر، مع العلم أن أبنائي أصيبوا بتشققات في أيديهم نتيجة محاولات إزالة المخلفات من أجساد الماشية التي نفقت بعد فترة وجيزة.
وأوضح أن موظفي إدارة البيئة بمحافظة الداخلية وبلدية سمائل خلال مرافقتنا لهم بموقع المردم الذي تنتشر فيها المخلفات اعترفوا بوجود مشكلة بيئية، وطالبوا منا مراقبة المكان! إلا أننا لسنا موظفين في الإدارة، وتوقف الأمر مع هذه الجهات عند هذا الحد إذ لم يتم إفادتنا حول البلاغ وكذلك تعويض خسائرنا أو تحديد المتسبب في هذه الكارثة البيئية .. مؤكدا: لاحظنا دخول إحدى الشاحنات للموقع في فبراير من العام الجاري في حدود الساعة العاشرة مساء عندما كنتُ في طريقي من "العزبة" إلى المنزل.
طيلة عام
وقال خلفان بن مسعود البدوي من سكان منطقة لزغ لـ"عمان": لديّ عزبة للمواشي في "هصاص" بسيح البسيتين ونفقت 3 رؤوس من الماشية في هذا المردم واستطعنا إنقاذ 5 رؤوس أخرى لا تزال على قيد الحياة، إلا أننا لم نستطع إزالة ما لحق بها من تلك البرك السوداء بمردم "هصاص"، وقد لجأتُ إلى بلدية سمائل لتقديم شكوى حول هذه المخلفات التي لها نحو عام يتم تفريغها في هذا الموقع، وقام عدد من موظفي البلدية بالولاية برفقة موظفي إدارة هيئة البيئة بمحافظة الداخلية بزيارة المردم والوقوف على المشكلة ومن ضمن الحلول الأولية إغلاق مداخل المردم بساتر ترابي، إلا أننا طالبنا بإزالة هذه المخلفات لخطورة وصولها إلى المياه الجوفية وتأثيرها على الآبار القريبة منها.
وأشار إلى أن الجهات المعنية قامت بردم بعض مواقع تلك المخلفات فيما لا يزال البعض منها مكشوفا وهذا الأمر ليس حلا وإنما قد تنتج عنه مشكلة بيئية خطيرة تصيب الإنسان والحيوان والبيئة المحيطة بالمردم وربما يمتد أثرها أكثر من ذلك، وليس هناك حل أكثر استدامة من استئصال هذه المخلفات من المردم والتأكد من عدم وصول هذه المخلفات إلى المياه الجوفية.
وقد تواصلت جريدة "عمان" بعدها مع خليل بن خلفان القرني عضو المجلس البلدي ممثل ولاية سمائل ورحب بالتحدث مع الجريدة حول تفاصيل ما حدث لكننا تفاجأنا لاحقا بطلبه التريث حتى تتضح بعض الأمور لتداخل بعض الجهات في القضية.
"عمان" في مردم هصاص
كانت الخطوة التالية أن يقف فريق من جريدة عمان على المشهد الحقيقي في المردم وتوثيق ما يحدث فيه، ورغم مضي قرابة شهرين على اكتشاف المشكلة من قبل أصحاب الماشية، إلا أن المفاجأة أن شيئا لم يحدث في الموقع ينقذ ولو جزءا من الأمر .. كانت زيارة فريق الجريدة للموقع في أواخر شهر رمضان المبارك، وكانت درجات الحرارة قد بدأت في الارتفاع، ولم يكن الوصول للموقع سهلا .. بلغنا منطقة شاسعة المساحة تنتشر فيها مخلفات مواد البناء، ويقطعها من المنتصف طريق ترابي إلا أن الوصول لتلك المواد الخطرة التي تحدث عنها مربو الماشية يحتاج إلى بحث عبر السير على الأقدام، إذ لاحظنا وجود آثار لطريق ترابي تم طمسه، وفي نهاية مساره وجدنا ساترا ترابيا يغلق الطريق، هذه الإشارات المتضاربة وتعمد التمويه دفعنا إلى مواصلة السير والمضي قدما، تجاوزنا الساتر الترابي لتظهر لنا مساحة واسعة أخرى تتكدس فيها مخلفات البناء والإنشاءات بشتى أشكالها، إلا أن ما لفت انتباهنا تصاعد الدخان من عدة مواقع، وبعد استمرارنا بالمشي لعشرات الأمتار بلغنا أول موقع يتصاعد منه الدخان ويصاحبه ارتفاع ملحوظ في درجات الحرارة كلما اقتربنا منه ويلحظ الناظر تغير لون التربة وانبعاث روائح كيميائية، فيما اكتشفنا بعدها وجود نحو 8 مواقع أخرى تنتشر فيها هذه المخلفات، البعض منها تتصاعد منه ألسنة اللهب مع التأكيد أن هذه المواد لم يتم ردمها وإنما تم إلقاؤها في المردم وبشكل عشوائي، وربما ثمة مواقع تم ردمها تحت التربة لإخفاء حجم المشكلة الخطيرة في هذا المردم، كان المشهد مخيفا، ومؤسفا أيضا، وحضرت لحظتها الكثير من الأسئلة تتعلق بقيمة الإنسان الذي ترمى هذه المواد الخطرة بالقرب من مكان سكناه دون أن يرمش جفن للفاعل.
عدسة "عمان" وثقت هذه المواقع، ورغم خطورة المشهد، إلا أننا أخذنا عينات من المواد المنتشرة في المواقع التسعة، وخلال رصدنا للبيئة المحيطة بالمردم وتجولنا في المنطقة لاحظنا قرب الأحياء السكنية من هذا الموقع بحيث إن أقرب كثافة سكنية تقع على بعد أقل من كيلومتر واحد! كما يمر بالقرب من المردم مجرى لأحد الأودية، إضافة إلى ذلك وجود عدد من الآبار الارتوازية في المناطق المحاذية للمردم.
بعد عودتنا من "هصاص" أصيب فريق التوثيق بوعكة صحية نتج عنها فقدان حاستي الشم والتذوق والإصابة بالحمى والسعال نتيجة الروائح الكيميائية التي كانت تتطاير من المردم.
جريدة "عمان" تواصلت هاتفيا مع هيئة البيئة في 20 أبريل 2023 للتعليق على الموضوع، ومن ثم تم إرسال خطاب رسمي لهيئة البيئة بشأن عزم جريدة "عمان" نشر تحقيق استقصائي حول مشكلة بيئية في أحد المرادم بسمائل مؤرخ بتاريخ 26 من ذات الشهر، إلا أننا لم نتلق ردا من هيئة البيئة حتى تاريخ النشر، رغم تواصلنا الهاتفي المستمر للاستفسار عن موعد تلقي الرد من قبل الهيئة، لكنّ الجريدة علمت من مصادرها أن الهيئة اتخذت إجراءات لبدء تحقيق حول القضية.
النتائج المخبرية
استعان الفريق الاستقصائي بالجريدة بمختبر مرخص لإجراء تحليل مختبري لتقييم تركيزات العناصر المختلفة في حمأة زيت النفايات الذي تبين أنها "مخلفات نفطية" والتي أخذها الفريق من المردم لتحديد مدى تلوث التربة الناجم عن وجود نفايات الزيوت، وكشفت النتائج المتحصل عليها عن تراكيز تتجاوز الحدود المسموح بها في التربة مما يدل على وجود تلوث كيميائي حقيقي في التربة وضرورة تنفيذ التدابير المناسبة للتخفيف من المخاطر البيئية المرتبطة بتلوث نفايات الحمأة النفطية.
وأسفر تحليل حمأة نفايات الزيت عن تركيزات الكربون العضوي "TOC" بنسبة 46.83%، والهيدروكربونات البترولية "TPH" بنسبة 3.16%، والكبريت بنسبة 1.14%، والألمنيوم "AI" بمعدل 3303 ملغم/كغم، والزرنيخ 6.1 ملغم/كغم، والرصاص 40 ملغم/كغم، والنحاس 59 ملغم/كغم، إذ تتجاوز التركيزات التي تم الحصول عليها لجميع العناصر التي تم تحليلها في حمأة نفايات الزيت الحدود المسموح بها في التربة، ووفقا لتصنيف هيئة البيئة فإن وجود مخلفات الزيوت في التربة يعتبر خطرًا عندما يزيد التركيز عن 1%، ومع ذلك تشير نتائج هذا التحليل إلى تركيز يتجاوز 3%، مما يؤكد تلوث التربة في مردم "هصاص" بولاية سمائل، وأوصى التحليل المختبري بضرورة اتخاذ التدابير المناسبة للمعالجة والتخفيف من المخاطر المحتملة التي تشكلها البيئة، وسيساعد تنفيذ تدابير المعالجة على الفور في استعادة التربة المصابة وتقليل التأثير البيئي طويل المدى.
النفايات الخطرة
وقال الدكتور جمال بن ناصر الصباحي، مدير محطة التجارب الزراعية بكلية العلوم الزراعية والبحرية بجامعة السلطان قابوس: تعرف المخلفات الخطرة حسب وكالة الحماية البيئية بأنها نفايات يمكن أن يكون لها تأثير مباشر أو غير مباشر على صحة الإنسان أو البيئة، وقد يكون هذا التأثير لحظي مثل انبعاث بعض الغازات السامة مثل كبريتيد الهيدروجين (H2S) أو طويل المدى مثل رمي هذه المخلفات على الترب والتي تأخذ دورها في تلويث المياه الجوفية آجلا وتستخدم في أغراض الري والشرب، وكثرة تعرض الإنسان أو الحيوانات لهذه المخلفات الخطرة يعمل على نظام غير متوازن أو تثبيط عمل بعض الوظائف الحيوية في الجسم أو عمل الطفرات الجينية أو الأورام بأنواعها، وتم تعريف هذه المخلفات حسب المرسوم السلطاني رقم 114 لعام 2001 بأنها النفايات التي تحتفظ بسميتها أو بقابليتها للانفجار أو الاشتعال أو بقدرتها على إحداث تآكل أو لها نشاط إشعاعي وتكون بحكم طبيعتها وتكوينها وكمياتها أو نتيجة لأي سبب آخر خطرة على حياة الإنسان وصحته أو على البيئة، سواء بذاتها أو نتيجة اتصالها بنفايات أخرى، ويمكن إيجاز المخلفات إلى 4 أنواع منها نفايات قابلة للاشتعال ونفايات مسببة للتآكل ونفايات تفاعلية مع أجسام حية أو مركبات أخرى والنفايات السامة.
وأشار إلى أن سلطنة عمان تصنف على أنها من ضمن الدول الرائدة في موضوع الحماية البيئية والأوجه ذات العلاقة بالبيئة تمثلت في سن أول قانون شامل لحماية البيئة، وكانت سلطنة عمان من أوائل الدول العربية في إنشاء وزارة للبيئة كما صنفت من ضمن الدول الرائدة في الحفاظ على البيئة .. مشيرا إلى أن هناك عدة أنواع من هذه المخلفات منها ما هو متعلق بشكل مباشر بالإنسان أو من خلال الأنشطة البشرية والتوسع في النشاط الصناعي وعمليات إنتاج النفط والغاز أو حدوث الأعاصير والزلازل والحوادث أو التسريبات الطبيعية التي تسمح بانتقال الملوثات النفطية إلى المياه الجوفية ومياه البحار والمحيطات.
أسئلة تبحث عن إجابة
من خلال نتائج التحليل المخبري يبدو واضحا الخطر الكبير الذي تسببت به تلك المواد الكيميائية على صحة الإنسان وغيره من الكائنات الحية، لكن في المقابل كان واضحا البطء الكبير في تحرك الجهات المعنية لإيقافه .. فإذا كانت أول إشارة وصلت للجهات المعنية حول التلوث في مطلع شهر فبراير الماضي ونحن الآن في النصف الثاني من شهر مايو (أكثر من ثلاثة أشهر) ولم يحدث أي تدخل لوقف تلك الأدخنة أو ألسنة اللهب الناتجة عن تفاعل المواد الكيميائية أو محاولة حماية المياه الجوفية من أن تتسرب لها هذه السموم.
على أن هناك أسئلة كبيرة أخرى تبحث عن إجابة تدور حول آليات مراقبة الطرق التي تتخذها الشركات في التخلص من المواد الخطرة الناتجة عن عملها، وهل هناك أجهزة ترصد التلوث في الهواء وفي التربة وإن كانت موجودة فأين هي مما حدث في مردم "هصاص"؟ وهل غير "هصاص" مرادم أخرى ظاهرة أم مخفية تلوث بيئتنا بمثل هذه المواد السامة التي تقتلنا رويدا رويدا ؟!! أسئلة كبيرة ولكنها جديرة أن تطرح في هذه اللحظة الحاسمة.
ـ بطء في الاستجابة .. وهيئة البيئة لا ترد على أسئلة "عمان"
ـ توثيق تصاعد ألسنة اللهب والدخان وانتشار روائح كيميائية في 9 مواقع
حدث الأمر صدفة، عندما اكتشف مربو الماشية الذين فجعوا بنفوق ٢٠ رأسا من ماشيتهم، أن الموقع المحاصر بالسواتر الترابية لا يمكن أن يكون مردما عاديا مثله مثل غيره من المرادم، ولا يوجد حوله ما يشير إلى أنه مكان خطر .. كانت الأدخنة المتصاعدة تسبب الاختناق للبشر، أما المواشي فكان مصيرها النفوق جميعا رغم مئات الريالات التي دفعت من أجل علاجات المضادات الحيوية التي قررها الأطباء البيطريون.
في أواخر شهر رمضان وصلت إشارة إلى جريدة عمان من بعض مربي الماشية مفادها أن أدخنة وألسنة لهب تتصاعد من مردم "هصاص" بولاية سمائل تُسبب الاختناق، وأن مواد، تبدو خطرة جدا، تسببت في نفوق الماشية.
بدا واضحا أن الأمر خطر للغاية وأن وراء نفوق تلك الحيوانات العجم قصة تستحق البحث والتقصي، خاصة وأن القصة بدأت في فصولها الأولى في شهر فبراير الماضي ورغم الشكوى التي تقدم بها مربو الماشية لممثلي المجلس البلدي في سمائل وزيارة موظفي إدارة هيئة البيئة بمحافظة الداخلية وبلدية سمائل للموقع وتأكيدهم على خطورة هذه المخلفات، إلا أنه لم يتم التعامل مع هذه المخلفات باستئصالها من التربة واستمر الأمر على ما هو عليه.
تبدأ فصول القصة من فقدان سالم بن راشد المجلبي لـ17 رأسا من ماشيته على دفعتين في فبراير الماضي، وبعد تتبع آثارها تم العثور عليها في مردم "هصاص" وسط مواد تنبعث منها ألسنة اللهب والدخان ورائح كيميائية .. استطاع المجلبي بمساعدة أبنائه إخراج 7 منها على قيد الحياة، رغم خطورة المواد التي وقعت فيها، ولم يكن المجلبي يعلم أن الماشية التي أنقذها ستفارق الحياة رغم الأموال التي دفعها في معالجتها باستخدام كافة الأدوية والمضادات الحيوية المتوفرة، تواصل مالك الماشية مع عضو المجلس البلدي بمحافظة الداخلية ممثل ولاية سمائل خليل بن خلفان القرني لإيصال شكواه حول مشكلة بيئية تسببت في نفوق مجموعة من ماشيته والاستعلام عن الجهات المعنية لتقديم بلاغ حول هذه المخلفات في مردم "هصاص".
وقال سالم بن راشد المجلبي لـ"عمان": بدأت المشكلة في 9 فبراير من العام الجاري بفقدان 17 رأسا على دفعتين وقد تواصل عضو المجلس البلدي بمحافظة الداخلية ممثل ولاية سمائل خليل بن خلفان القرني مع إدارة هيئة البيئة في محافظة الداخلية الذين زاروا موقع المردم ووقفوا على المشكلة، إلا أنه لم يصلنا شيء بخصوص ماهية المشكلة رغم مطالباتنا بالكشف عن الجهة المتسببة في هذه المشكلة البيئية وتعويضنا عما فقدناه من المواشي لنحو شهر ونص الشهر، وتكرر التواصل مع إدارة هيئة البيئة بمحافظة الداخلية مرة أخرى عن طريق أحد الأقارب، تلاه قيام فريق من الإدارة بزيارة الموقع مجددا برفقة مدير بلدية سمائل في أواخر شهر مارس الماضي وكنا برفقتهم، وأكد حينها مدير البلدية بسمائل عدم معرفته بالمشكلة البيئية في هذا الموقع، وطالب بحل عاجل لإزالة هذه النفايات، وبدورنا طالبنا بتسوير المردم للحد من المزيد من الخسائر في الماشية، إلا أنهم أكدوا أن هذا الأمر يحتاج إلى إجراءات عديدة، وللحد من تكرار نفوق المزيد من الماشية قمت بنقلها إلى مكان آخر، مع العلم أن أبنائي أصيبوا بتشققات في أيديهم نتيجة محاولات إزالة المخلفات من أجساد الماشية التي نفقت بعد فترة وجيزة.
وأوضح أن موظفي إدارة البيئة بمحافظة الداخلية وبلدية سمائل خلال مرافقتنا لهم بموقع المردم الذي تنتشر فيها المخلفات اعترفوا بوجود مشكلة بيئية، وطالبوا منا مراقبة المكان! إلا أننا لسنا موظفين في الإدارة، وتوقف الأمر مع هذه الجهات عند هذا الحد إذ لم يتم إفادتنا حول البلاغ وكذلك تعويض خسائرنا أو تحديد المتسبب في هذه الكارثة البيئية .. مؤكدا: لاحظنا دخول إحدى الشاحنات للموقع في فبراير من العام الجاري في حدود الساعة العاشرة مساء عندما كنتُ في طريقي من "العزبة" إلى المنزل.
طيلة عام
وقال خلفان بن مسعود البدوي من سكان منطقة لزغ لـ"عمان": لديّ عزبة للمواشي في "هصاص" بسيح البسيتين ونفقت 3 رؤوس من الماشية في هذا المردم واستطعنا إنقاذ 5 رؤوس أخرى لا تزال على قيد الحياة، إلا أننا لم نستطع إزالة ما لحق بها من تلك البرك السوداء بمردم "هصاص"، وقد لجأتُ إلى بلدية سمائل لتقديم شكوى حول هذه المخلفات التي لها نحو عام يتم تفريغها في هذا الموقع، وقام عدد من موظفي البلدية بالولاية برفقة موظفي إدارة هيئة البيئة بمحافظة الداخلية بزيارة المردم والوقوف على المشكلة ومن ضمن الحلول الأولية إغلاق مداخل المردم بساتر ترابي، إلا أننا طالبنا بإزالة هذه المخلفات لخطورة وصولها إلى المياه الجوفية وتأثيرها على الآبار القريبة منها.
وأشار إلى أن الجهات المعنية قامت بردم بعض مواقع تلك المخلفات فيما لا يزال البعض منها مكشوفا وهذا الأمر ليس حلا وإنما قد تنتج عنه مشكلة بيئية خطيرة تصيب الإنسان والحيوان والبيئة المحيطة بالمردم وربما يمتد أثرها أكثر من ذلك، وليس هناك حل أكثر استدامة من استئصال هذه المخلفات من المردم والتأكد من عدم وصول هذه المخلفات إلى المياه الجوفية.
وقد تواصلت جريدة "عمان" بعدها مع خليل بن خلفان القرني عضو المجلس البلدي ممثل ولاية سمائل ورحب بالتحدث مع الجريدة حول تفاصيل ما حدث لكننا تفاجأنا لاحقا بطلبه التريث حتى تتضح بعض الأمور لتداخل بعض الجهات في القضية.
"عمان" في مردم هصاص
كانت الخطوة التالية أن يقف فريق من جريدة عمان على المشهد الحقيقي في المردم وتوثيق ما يحدث فيه، ورغم مضي قرابة شهرين على اكتشاف المشكلة من قبل أصحاب الماشية، إلا أن المفاجأة أن شيئا لم يحدث في الموقع ينقذ ولو جزءا من الأمر .. كانت زيارة فريق الجريدة للموقع في أواخر شهر رمضان المبارك، وكانت درجات الحرارة قد بدأت في الارتفاع، ولم يكن الوصول للموقع سهلا .. بلغنا منطقة شاسعة المساحة تنتشر فيها مخلفات مواد البناء، ويقطعها من المنتصف طريق ترابي إلا أن الوصول لتلك المواد الخطرة التي تحدث عنها مربو الماشية يحتاج إلى بحث عبر السير على الأقدام، إذ لاحظنا وجود آثار لطريق ترابي تم طمسه، وفي نهاية مساره وجدنا ساترا ترابيا يغلق الطريق، هذه الإشارات المتضاربة وتعمد التمويه دفعنا إلى مواصلة السير والمضي قدما، تجاوزنا الساتر الترابي لتظهر لنا مساحة واسعة أخرى تتكدس فيها مخلفات البناء والإنشاءات بشتى أشكالها، إلا أن ما لفت انتباهنا تصاعد الدخان من عدة مواقع، وبعد استمرارنا بالمشي لعشرات الأمتار بلغنا أول موقع يتصاعد منه الدخان ويصاحبه ارتفاع ملحوظ في درجات الحرارة كلما اقتربنا منه ويلحظ الناظر تغير لون التربة وانبعاث روائح كيميائية، فيما اكتشفنا بعدها وجود نحو 8 مواقع أخرى تنتشر فيها هذه المخلفات، البعض منها تتصاعد منه ألسنة اللهب مع التأكيد أن هذه المواد لم يتم ردمها وإنما تم إلقاؤها في المردم وبشكل عشوائي، وربما ثمة مواقع تم ردمها تحت التربة لإخفاء حجم المشكلة الخطيرة في هذا المردم، كان المشهد مخيفا، ومؤسفا أيضا، وحضرت لحظتها الكثير من الأسئلة تتعلق بقيمة الإنسان الذي ترمى هذه المواد الخطرة بالقرب من مكان سكناه دون أن يرمش جفن للفاعل.
عدسة "عمان" وثقت هذه المواقع، ورغم خطورة المشهد، إلا أننا أخذنا عينات من المواد المنتشرة في المواقع التسعة، وخلال رصدنا للبيئة المحيطة بالمردم وتجولنا في المنطقة لاحظنا قرب الأحياء السكنية من هذا الموقع بحيث إن أقرب كثافة سكنية تقع على بعد أقل من كيلومتر واحد! كما يمر بالقرب من المردم مجرى لأحد الأودية، إضافة إلى ذلك وجود عدد من الآبار الارتوازية في المناطق المحاذية للمردم.
بعد عودتنا من "هصاص" أصيب فريق التوثيق بوعكة صحية نتج عنها فقدان حاستي الشم والتذوق والإصابة بالحمى والسعال نتيجة الروائح الكيميائية التي كانت تتطاير من المردم.
جريدة "عمان" تواصلت هاتفيا مع هيئة البيئة في 20 أبريل 2023 للتعليق على الموضوع، ومن ثم تم إرسال خطاب رسمي لهيئة البيئة بشأن عزم جريدة "عمان" نشر تحقيق استقصائي حول مشكلة بيئية في أحد المرادم بسمائل مؤرخ بتاريخ 26 من ذات الشهر، إلا أننا لم نتلق ردا من هيئة البيئة حتى تاريخ النشر، رغم تواصلنا الهاتفي المستمر للاستفسار عن موعد تلقي الرد من قبل الهيئة، لكنّ الجريدة علمت من مصادرها أن الهيئة اتخذت إجراءات لبدء تحقيق حول القضية.
النتائج المخبرية
استعان الفريق الاستقصائي بالجريدة بمختبر مرخص لإجراء تحليل مختبري لتقييم تركيزات العناصر المختلفة في حمأة زيت النفايات الذي تبين أنها "مخلفات نفطية" والتي أخذها الفريق من المردم لتحديد مدى تلوث التربة الناجم عن وجود نفايات الزيوت، وكشفت النتائج المتحصل عليها عن تراكيز تتجاوز الحدود المسموح بها في التربة مما يدل على وجود تلوث كيميائي حقيقي في التربة وضرورة تنفيذ التدابير المناسبة للتخفيف من المخاطر البيئية المرتبطة بتلوث نفايات الحمأة النفطية.
وأسفر تحليل حمأة نفايات الزيت عن تركيزات الكربون العضوي "TOC" بنسبة 46.83%، والهيدروكربونات البترولية "TPH" بنسبة 3.16%، والكبريت بنسبة 1.14%، والألمنيوم "AI" بمعدل 3303 ملغم/كغم، والزرنيخ 6.1 ملغم/كغم، والرصاص 40 ملغم/كغم، والنحاس 59 ملغم/كغم، إذ تتجاوز التركيزات التي تم الحصول عليها لجميع العناصر التي تم تحليلها في حمأة نفايات الزيت الحدود المسموح بها في التربة، ووفقا لتصنيف هيئة البيئة فإن وجود مخلفات الزيوت في التربة يعتبر خطرًا عندما يزيد التركيز عن 1%، ومع ذلك تشير نتائج هذا التحليل إلى تركيز يتجاوز 3%، مما يؤكد تلوث التربة في مردم "هصاص" بولاية سمائل، وأوصى التحليل المختبري بضرورة اتخاذ التدابير المناسبة للمعالجة والتخفيف من المخاطر المحتملة التي تشكلها البيئة، وسيساعد تنفيذ تدابير المعالجة على الفور في استعادة التربة المصابة وتقليل التأثير البيئي طويل المدى.
النفايات الخطرة
وقال الدكتور جمال بن ناصر الصباحي، مدير محطة التجارب الزراعية بكلية العلوم الزراعية والبحرية بجامعة السلطان قابوس: تعرف المخلفات الخطرة حسب وكالة الحماية البيئية بأنها نفايات يمكن أن يكون لها تأثير مباشر أو غير مباشر على صحة الإنسان أو البيئة، وقد يكون هذا التأثير لحظي مثل انبعاث بعض الغازات السامة مثل كبريتيد الهيدروجين (H2S) أو طويل المدى مثل رمي هذه المخلفات على الترب والتي تأخذ دورها في تلويث المياه الجوفية آجلا وتستخدم في أغراض الري والشرب، وكثرة تعرض الإنسان أو الحيوانات لهذه المخلفات الخطرة يعمل على نظام غير متوازن أو تثبيط عمل بعض الوظائف الحيوية في الجسم أو عمل الطفرات الجينية أو الأورام بأنواعها، وتم تعريف هذه المخلفات حسب المرسوم السلطاني رقم 114 لعام 2001 بأنها النفايات التي تحتفظ بسميتها أو بقابليتها للانفجار أو الاشتعال أو بقدرتها على إحداث تآكل أو لها نشاط إشعاعي وتكون بحكم طبيعتها وتكوينها وكمياتها أو نتيجة لأي سبب آخر خطرة على حياة الإنسان وصحته أو على البيئة، سواء بذاتها أو نتيجة اتصالها بنفايات أخرى، ويمكن إيجاز المخلفات إلى 4 أنواع منها نفايات قابلة للاشتعال ونفايات مسببة للتآكل ونفايات تفاعلية مع أجسام حية أو مركبات أخرى والنفايات السامة.
وأشار إلى أن سلطنة عمان تصنف على أنها من ضمن الدول الرائدة في موضوع الحماية البيئية والأوجه ذات العلاقة بالبيئة تمثلت في سن أول قانون شامل لحماية البيئة، وكانت سلطنة عمان من أوائل الدول العربية في إنشاء وزارة للبيئة كما صنفت من ضمن الدول الرائدة في الحفاظ على البيئة .. مشيرا إلى أن هناك عدة أنواع من هذه المخلفات منها ما هو متعلق بشكل مباشر بالإنسان أو من خلال الأنشطة البشرية والتوسع في النشاط الصناعي وعمليات إنتاج النفط والغاز أو حدوث الأعاصير والزلازل والحوادث أو التسريبات الطبيعية التي تسمح بانتقال الملوثات النفطية إلى المياه الجوفية ومياه البحار والمحيطات.
أسئلة تبحث عن إجابة
من خلال نتائج التحليل المخبري يبدو واضحا الخطر الكبير الذي تسببت به تلك المواد الكيميائية على صحة الإنسان وغيره من الكائنات الحية، لكن في المقابل كان واضحا البطء الكبير في تحرك الجهات المعنية لإيقافه .. فإذا كانت أول إشارة وصلت للجهات المعنية حول التلوث في مطلع شهر فبراير الماضي ونحن الآن في النصف الثاني من شهر مايو (أكثر من ثلاثة أشهر) ولم يحدث أي تدخل لوقف تلك الأدخنة أو ألسنة اللهب الناتجة عن تفاعل المواد الكيميائية أو محاولة حماية المياه الجوفية من أن تتسرب لها هذه السموم.
على أن هناك أسئلة كبيرة أخرى تبحث عن إجابة تدور حول آليات مراقبة الطرق التي تتخذها الشركات في التخلص من المواد الخطرة الناتجة عن عملها، وهل هناك أجهزة ترصد التلوث في الهواء وفي التربة وإن كانت موجودة فأين هي مما حدث في مردم "هصاص"؟ وهل غير "هصاص" مرادم أخرى ظاهرة أم مخفية تلوث بيئتنا بمثل هذه المواد السامة التي تقتلنا رويدا رويدا ؟!! أسئلة كبيرة ولكنها جديرة أن تطرح في هذه اللحظة الحاسمة.