انتهيت للتو من تصفح تعليقات على تدوينة أحد «المشاهير» على «تويتر» حول موضوع حيوي يمس حركة التنمية في المحافظات، كانت كل الأفكار والآراء التي تُطرح خلف التغريدة تعكس فكرته هو عن القضية ولم يخرج أي رد عن تأطير صاحب التغريدة؛ رغم أن النقاش كان في «تويتر» الذي يحلو للكثيرين وصفه بأنه الساحة الأكثر «حرية» و«تنوعا» للآراء في العالم، وكان يمكن أن تتعدد الأفكار بتعدد المعلقين كما هو منطق الأشياء لا أن يبقى الجميع أسرى الرأي الأول. كانت الفكرة نفسها تدور في أحد مجموعات «الواتسآب» حول القضية نفسها ولم يستطع أحد تقديم طرح مخالف يخرج عن إطار التعليق الذي جاء على صورة لتغريدة منقولة من «تويتر».

وكصحفي مؤمن بتعدد الآراء والأفكار شعرت بالضيق من التحولات التي تحصل على وسائل التواصل الاجتماعي التي يفترض أن تكون منصة لحرية الرأي وتعدد الأفكار فإذا هي تقود الناس، بوعي أو دون وعي، إلى تكريس الرأي الواحد، وهو رأي سلبي في الغالب، وهذا أمر خطير جدا في توجيه آراء الناس وتأطيرها.. وخطورته كبيرة حتى لو كانت الآراء والتعليقات إيجابية فكيف إذا كانت سلبية.. ومع الوقت يمكن لعدوى وسائل التواصل الاجتماعي المأخوذين بها جميعا أن تنتقل للتواصل الاجتماعي الحقيقي وعبر النقاشات المؤسسية.

تذكرت وأنا أخرج من «تويتر» نظرية «غرف الصدى» التي حدثني عنها أحد الأصدقاء عندما كان يفسر سبب غياب آراء مغايرة حول موضوع كان يشغل رأي الناس في عُمان قبل شهر من الآن. وهذه ظاهرة شديدة الخطورة لم تعد حكرا على الأسماء المجهولة والمستعارة في وسائل التواصل الاجتماعي بل دخلت فيها أسماء «مثقفين» و«كتّاب» معروفين لم يستطع الكثير منهم الخروج على إجماع «غرف صدى وسائل التواصل الاجتماعي» مهما كان ذلك الإجماع مخالفا «للنص» ومنطق الأشياء. أمّا سبب ذلك فيعود ربما لأسباب تتعلق برغبة الكثير من الناس أن يكونوا مع «الإجماع»، أو خوفا من تهمة «التطبيل» السائدة اليوم.. وهي تهمة بات يخشاها الكثيرون؛ فيصمتون عن قول أي شيء حتى لو كان حقا في تخل حقيقي عن دور «المثقف» التنويري والإصلاحي.

لقد تحولت الكثير من وسائل التواصل الاجتماعي إلى غرف كبرى يكرّس فيها الرأي الواحد ويعطل العقل النقدي. و«غرف الصدى» مصطلح شائع يستخدم لوصف الظروف التي يكون فيها الأفراد أو المجتمعات معرضين لمعلومات وأفكار تعزز وتؤيد آراءهم الحالية فقط، أو الآراء التي يراد تعزيزها لسبب أو لآخر، بينما تُحجب عنهم الأفكار الأخرى أو يُقلل من شأنها فيبقى الرأي الأول دون أي نقاش حقيقي في غياب العقل النقدي والتفسيري.

وتقوم وسائل التواصل الاجتماعي ومستخدموها بهذا الدور الخطير الآن فلا تتيح إلا الرأي الواحد، بل وتخلق «فوبيا» الاختلاف لمن يتجرأ ويصرح برأي يخالف ذلك الرأي مهما كان معتمدا على الحجج المنطقية وأساليب الاستدلال العلمية.

لكن السؤال المهم الآن، لماذا نقع فريسة لهذه الغرف فيما الأصل أن نكون مجبولين على تعدد الآراء؟ تكمن الإجابة في تغليب تحيزاتنا المعرفية. يلعب الانحياز ـ وهو الميل إلى البحث عن المعلومات التي تؤكد معتقداتنا الموجودة مسبقا وتفضيلها ـ دورا مهما في هذه العملية. بالإضافة إلى ذلك، فإن الرغبة في الحصول على إجماع حول الرأي الواحد على حساب التفكير النقدي.. يضخم تحيزاتنا الفكرية بشكل مخيف. ولأن الناس تعيش أغلب أوقاتها الآن في وسائل التواصل الاجتماعي فإن هذه الوسائل تعطي الأولوية عبر خوارزميات الذكاء الاصطناعي للمحتوى المتشابه الذي سبق وتعاملنا معه من قبل، أو سبق وفضلناه، والذي سيكون في الغالب داعما لتحيزاتنا الفكرية، الأمر الذي يفاقم المشكلة ويزيدها تعقيدا في ظل ثورة الذكاء الاصطناعي الجديدة التي ما زلنا على عتباتها الأولى أو كما يقول البعض «ما زال الذكاء الاصطناعي وليدا ولم يخطو خطوته الأولى الحقيقة بعد»!.

إذا، نحن أمام عواقب وخيمة جدا لغرف الصدى، فعلاوة على أنها تعطل الجانب النقدي في عقولنا فهي تساهم بشكل كبير في انتشار المعلومات المضللة والأخبار الزائفة والموجهة، ما يؤدي إلى تضليل الجمهور وانقسامه واقتياده، هذا الانقسام يهدد فكرة حرية الرأي التي كان الناس، وما زالوا، مع الأسف، يراهنون على علو سقفها في هذه الوسائل، ويصبح الأفراد أقل استعدادا للانخراط في حوار مفتوح ومنطقي مع من يحمل رأيا مختلفا. وهذا ما أراه يحدث الآن بالضبط في مجتمعاتنا.

ما الذي يمكننا فعله الآن لاستعادة وسائل التواصل الاجتماعي كمنصة حقيقية لتبادل الأفكار الحرة وتعزيز حرية الرأي؟ وجعل عقول الناس تغادر هذه الغرف التي لا تسمع فيها إلا صوتها وما يشابهه لتعود إلى العقل النقدي والتعددي؟

إن الأمر ليس بالسهولة التي نعتقدها، فالناس، أولا، تحب العيش في الأماكن التي تشاركها تحيزاتها أو أفكارها أو تفضيلاتها، وتأنس لذلك كثيرا، إضافة إلى ذلك فالكثير مما يحدث في «غرف الصدى» موجه بالأساس إما من شركات دعائية كبرى أو من منظمات دولية، ولكل مآربه المعروفة. لكن لا بد في وسط كل هذا من التأكيد على أهمية التفكير النقدي للناس، والتثقيف الإعلامي حول كيفية تمييز المعلومات الموثوقة. كما أن تحديد التحيزات في تفكير الأفراد من شأنه مساعدتهم في التحرر من قيود «غرف الصدى» عبر تعزيز ثقافة الشك والاستفسار، وتضمين ذلك في المناهج الدراسية الأمر الذي ينشئ أجيالا أكثر استنارة وانفتاحا؛ ولذلك لا بد أن تتضمن المناهج المدرسية الجديدة تعزيز موضوع تعدد الآراء وحرية الرأي والتفكير واستخدام العقل الناقد والعقل التفسيري، بل وتدريس الطلاب من المراحل الأولى للفلسفة وعلم المنطق، وتطوير الدروس مع تقدم الطالب في الفصول الدراسية.

لكن هذا وحده لا يكفي دون أن تكون هناك قوانين وقواعد أخلاقية تنظم عمل الخوارزميات التي تؤثر الآن على توجيه خيارات الناس وتوجهاتهم المعرفية وتبني مسارات تجاربهم على مواقع الإنترنت.

وهذا وقت مهم جدا لأن تشارك الدول وصانعو السياسات فيها بشكل كبير وحاسم في تعزيز ثقافة الحوار وتعدد الآراء والاحتفاء بالتنوع والتعدد والرأي المخالف وخاصة في وسائل الإعلام التي ستساعد في بناء بعض المضادات التي يمكن عبرها تفكيك «غرف الصدى» الموجودة على وسائل التواصل الاجتماعي وخاصة أن الصحف والصحفيين حاضرون في وسائل التواصل الاجتماعي بشكل كبير وبهوياتهم الحقيقية وليست المستعارة.

عاصم الشيدي رئيس التحرير