ينظر إلى العاطفة الوطنية على أنها تشكل علاقة وجودية بين الوطن وأبنائه؛ أو هكذا يجب أن تُقَيَّمْ؛ والوطن هنا بحمولته الشاملة الكبرى: (الأرض، والإنسان، والتاريخ، والقيم، والعادات والتقاليد، ومجموع التنظيمات للدولة الحديثة) ففي هذه البانوراما المتكاملة والمتداخلة، تتوغل العاطفة الوطنية لتلعب دورا محوريا مهما في تعزيز الدور المحوري الذي تلعبه هذه المكونات كلها ليبقى الوطن مقدسا، مهابا، مصانا، متساميا؛ صحيح؛ أن العاطفة في جميع مناخاتها شعور إنساني، ولكن هذا الشعور يرتقي بصاحبه إلى مصاف تحمل المسؤوليات الجسيمة للوطن في جميع منازل الرخاء والشقاء برضى تام، وبشعور آمن مستقر قادر على بذل المزيد، يقدمه صاحبه تضحية واستبسالا وإيمانا بأهمية الوطن، وكلما تأصلت القناعات لدى هذا الشعور عند الفرد؛ زاد ذلك من قدرته على البذل، وعلى تحمل المسؤولية، وأنه جزء لا يتجزأ من مفردات الوطن الذي يعيش فيه، ومن هنا ينظر إلى أهمية المحافظة؛ قدر الإمكان؛ على العاطفة الوطنية، ومعززاتها بكل ما في الوطن من حمولة، وهي حمولة ثقيلة؛ بلا شك، ومن هنا - وللضرورة القصوى - يجب متابعة ارتفاع أو انخفاض هذا الشعور عند الأفراد، وعدم التلاعب فيه بأي شكل من الأشكال التي يمكن أن تثير حفيظتهم، أو يشعرهم أنهم يعيشون في فراغ لا متناهٍ اسمه الوطن، بينما حقيقته موزعة أشلاؤها بين مصالح ذاتية رخيصة، وكلما تعززت العاطفة الوطنية في الذات الإنسانية بين مكونات الشعب، كان للوطن الأثر الملموس، والأثر المعنوي على كل هذه المكونات؛ نموا؛ واتساعا؛ وبهاء؛ وتعضيدا لقيم الوطن ككل؛ حيث الهوية الكبرى، ولذلك تتعرض العاطفة الوطنية للتشويه بصورة دائمة نتيجة ممارسات بعضها تأتي بغير قصد، وبعضها الآخر تأتي بقصد وهي الأغلب الأعم، والمؤثرة في علاقة الأفراد بأوطانهم، حيث تعمل مجموعة الممارسات الخاطئة في حق الوطن على تأصيل الصورة النمطية؛ وهي الصورة الذاهبة إلى وجود نوع من الخلل في هذه العلاقة الوجودية بين الوطن وأبنائه، وعلى الرغم من حرص القانون على مجابهة ومكافحة ومقاتلة مختلف الممارسات التي تشوه هذه العلاقة إلا أن بعض الأفراد لا يزالون يتجاوزون القوانين، والنظم التي تنظم العلاقة بين طرفي العلاقة (الوطن/ أبنائه)، والمشكلة الأكبر هنا أيضا هو تكرار حالات التشويه لهذه العلاقة، وهي حالات لم تحد منها تجارب الحياة في المكافحة، ولم تحد منها المنازلات المستمرة بين الطرفين، ولم تحد منها مجموعة الأحكام القاسية التي تصدرها الجهات القضائية، وبالتالي فالمعركة مستمرة، والانتصار سيكون حليف الأوطان، لأن الأوطان في حقيقتها تسعى إلى تعضيد العاطفة الوطنية لدى أبنائها، وما يحصل من تشوهات في هذه العلاقة، سيكون استثنائيا، وإن تكررت صوره وتنوعت، فالشاذ عن القاعدة، لن يتجاوز شذوذه، ويكتوي في محيطه وفقط.
يحتمل أن تذهب العاطفة الوطنية إلى حيث المناخات الاجتماعية أكثر منها إلى الجيوسياسية، ولذلك يلحظ أن هذه العاطفة لا تنفصل عن الذات الفردية عندما يكون خارج البعد الجغرافي للوطن الأم؛ حيث يظل الحنين إلى العودة مع أقرب فرصة متاحة، ولو كانت هناك منغصات سابقة أو محتملة لهذه العودة، ولهذا الفراق في مرحلته السابقة، كما يحتمل أيضا أن تذهب العاطفة الوطنية إلى تعزيز صور الهوية، ولعلنا نلحظ ذلك في مجموع المفردات التي يتمسك بها المغترب في مغتربه، وهي المفردات المأخوذة من بيئة الوطن الأم، حيث يملأ بها المنزل أو تستعمل في المناسبات التي تذكر المغترب بالوطن؛ كالملابس التقليدية ومجموعة الممارسات، والطقوس التي تمارس في هذه المناسبات الوطنية أو الدينية أو الاجتماعية في الوطن الأم أيضا، ومن هنا يمكن القول: إن العاطفة الوطنية هي الحاضنة للعاطفة الاجتماعية، وهي الحاضنة لكل الهويات التي تجسد علاقة الفرد بوطنه؛ سواء أكان هذا الفرد مقيما في وطنه، أو مغتربا عنه؛ حاضنة لعلاقتها الوجودية بـ: (الأرض، والإنسان، والتاريخ، والقيم، والعادات والتقاليد، ومجموع التنظيمات للدولة الحديثة).
تذهب العاطفة الوطنية في تفاعلاتها اليومية إلى جس نبض هذا الشعور الخفي، وهيجان تفاعله مع الأحداث التي تعيشها الأوطان، سواء أكانت أحداثا جسيمة؛ كالتعرض للمخاطر الأمنية، أو المخاطر الثقافية، أو الاجتماعية؛ حيث يتفاعل أفراد المجتمع مع أي منها؛ تفاعلا تؤججه العاطفة الوطنية؛ أكثر من أي عاطفة أخرى، وتعمل على تحشيد الأفراد «الرأي العام» للوقوف صفا واحدا تجاه خطر ما، من شأنه أن يقض مضجع أي زاوية من زوايا المجتمع أو أي مُقَوِّمِ من مقوماته الحضارية، ولذا نرى ونعيش بصورة؛ تكاد؛ يومية مجموع التفاعلات التي يبديها أبناء المجتمع تجاه قضية ما، حيث تحظى بذلك الاهتمام الواسع بين مختلف شرائح المجتمع، ولا تهدأ النفوس إلا بعد زوال الخطر (حسب التقييم).
هل ثمة علاقة قائمة بين العاطفة الوطنية، والعاطفة الاجتماعية، وأيهما يأخذ أولوية قصوى على الآخر، وأيهما يعاضد الآخر في حالة التوازي، وأي منهما يأخذ بعدا رأسيا، وأيهما يأخذ بعدا أفقيا في سلسلة مكونات الوطن وروافده الأساسية؟ وللإجابة عن هذه الأسئلة؛ يستلزم مجموعة من الرؤى والقناعات، والظروف التي يعيشها أي مكون جغرافي على حدة، فالأوطان تتمايز في مستوى عاطفة أفرادها الوطنية، في ظل مخاطر كثيرة تتعرض لها في كل فترة زمنية وأخرى، وبالتالي يمكن القول إن الأوطان الساكنة سياسيا، تختلف عاطفة أفرادها الوطنية عن تلك الملتهبة سياسيا، فالسياسة هنا لها دور كبير في هذا الجانب، بخلاف العاطفة الاجتماعية التي لا تخضع للظروف الجيوسياسية بصورة مباشرة، حيث تحافظ على مستوياتها في نفوس الأفراد في جميع الظروف، ولذلك نرى أن الشعوب التي تعيش في أوضاع غير مستقرة، تظل عاطفتها الوطنية في حالة من عدم الثبات، انخفاضا وارتفاعا في نفوس شعوبها، ولذلك ففي الضرورات القصوى حيث يغادر الفرد وطنه، كأنه بذلك يعلن انفصاله عن وطنه إلى أجل غير مسمى، ويرى في الوطن الذي لم يستطع أن يحقق له الأمان أنه لا يستحق أن يكون وطنا تتهيج عاطفة الوطنية تجاهه، حيث تذهب الرؤية إلى الوطن البديل الذي قد تنشأ عبره عاطفة وطنية جديدة، خاصة مع المكوث الطويل والاستقرار، وإن كانت حالات الرحيل عن الأوطان قليلة، إلا أنها تسجل منعطفا مهما في حقيقة العاطفة الوطنية، وتنبئ عن حكم معزز للقناعة بأن العاطفة الوطنية ذات بعد أفقي أكثر منه، بعدا رأسي، وما ينطبق على الراحلين عن أوطانهم، ينطبق على المقيمين في أوطانهم؛ وهم المسيئون إلى أوطانهم بمختلف الإساءات، وما أكثرها!، وهم ما ينضمون إلى قوائم الخونة: من مجرمين، و»حرامية»، ولصوص مقدرات الوطن «نُهَّابْ المال العام» والمسيئين إلى أبناء جلدتهم في الوطن الواحد؛ من حيث انتهاك حقوق إنسانيتهم، وظلمهم، وانتهاك أعراضهم، والتعامل المباشر مع الجهات ذات البعد الإجرامي المباشر، وغير المباشر، من خارج أوطانهم للإساءة إلى أوطانهم، بينما ــ في المقابل ــ يعلو سقف مساهمة العاطفة الاجتماعية في مختلف هذه الظروف؛ حيث يتسامى ذلك الشعور النبيل في خدمة الآخر من حوله، فتكثر فيه حالات التضحية، وتتآلف فيه القلوب والأرواح؛ والتناصر، والتآزر، والتكافل؛ فتبرز فيه الإنسانية في أروع صورها، وأسمى مشاهدها، حيث يكون البذل والعطاء؛ بغض النظر عن أي مطمح مادي عارض، وبهذا تسجل العاطفة الاجتماعية سبقا زمنيا وماديا في تأصيل البعد الرأسي في التأثير، وفي تأصيل القناعات بأهمية المجتمعات في قدرتها على الأخذ بيد الأوطان نحو السمو والمعالي، ومن هنا يمكن القول إن العاطفة الاجتماعية هي القادرة على الدفع بالعاطفة الوطنية نحو التأصيل، والنمو والتفاعل، وإن عدت العاطفة الوطنية على أنها هي الحاضنة، ولذلك ستظل العاطفة الاجتماعية القادرة على لثم أية ثغرة يمكن أن تحدثها العاطفة الوطنية في جدار الوطن، مهما علت تكلفتها «فللأوطان دَين مستحق» تعيده إلى نصابه العاطفة الاجتماعية، وإن بخل الوطن على أبنائه في ظروف استثنائية خارجة عن الإرادة.
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني
يحتمل أن تذهب العاطفة الوطنية إلى حيث المناخات الاجتماعية أكثر منها إلى الجيوسياسية، ولذلك يلحظ أن هذه العاطفة لا تنفصل عن الذات الفردية عندما يكون خارج البعد الجغرافي للوطن الأم؛ حيث يظل الحنين إلى العودة مع أقرب فرصة متاحة، ولو كانت هناك منغصات سابقة أو محتملة لهذه العودة، ولهذا الفراق في مرحلته السابقة، كما يحتمل أيضا أن تذهب العاطفة الوطنية إلى تعزيز صور الهوية، ولعلنا نلحظ ذلك في مجموع المفردات التي يتمسك بها المغترب في مغتربه، وهي المفردات المأخوذة من بيئة الوطن الأم، حيث يملأ بها المنزل أو تستعمل في المناسبات التي تذكر المغترب بالوطن؛ كالملابس التقليدية ومجموعة الممارسات، والطقوس التي تمارس في هذه المناسبات الوطنية أو الدينية أو الاجتماعية في الوطن الأم أيضا، ومن هنا يمكن القول: إن العاطفة الوطنية هي الحاضنة للعاطفة الاجتماعية، وهي الحاضنة لكل الهويات التي تجسد علاقة الفرد بوطنه؛ سواء أكان هذا الفرد مقيما في وطنه، أو مغتربا عنه؛ حاضنة لعلاقتها الوجودية بـ: (الأرض، والإنسان، والتاريخ، والقيم، والعادات والتقاليد، ومجموع التنظيمات للدولة الحديثة).
تذهب العاطفة الوطنية في تفاعلاتها اليومية إلى جس نبض هذا الشعور الخفي، وهيجان تفاعله مع الأحداث التي تعيشها الأوطان، سواء أكانت أحداثا جسيمة؛ كالتعرض للمخاطر الأمنية، أو المخاطر الثقافية، أو الاجتماعية؛ حيث يتفاعل أفراد المجتمع مع أي منها؛ تفاعلا تؤججه العاطفة الوطنية؛ أكثر من أي عاطفة أخرى، وتعمل على تحشيد الأفراد «الرأي العام» للوقوف صفا واحدا تجاه خطر ما، من شأنه أن يقض مضجع أي زاوية من زوايا المجتمع أو أي مُقَوِّمِ من مقوماته الحضارية، ولذا نرى ونعيش بصورة؛ تكاد؛ يومية مجموع التفاعلات التي يبديها أبناء المجتمع تجاه قضية ما، حيث تحظى بذلك الاهتمام الواسع بين مختلف شرائح المجتمع، ولا تهدأ النفوس إلا بعد زوال الخطر (حسب التقييم).
هل ثمة علاقة قائمة بين العاطفة الوطنية، والعاطفة الاجتماعية، وأيهما يأخذ أولوية قصوى على الآخر، وأيهما يعاضد الآخر في حالة التوازي، وأي منهما يأخذ بعدا رأسيا، وأيهما يأخذ بعدا أفقيا في سلسلة مكونات الوطن وروافده الأساسية؟ وللإجابة عن هذه الأسئلة؛ يستلزم مجموعة من الرؤى والقناعات، والظروف التي يعيشها أي مكون جغرافي على حدة، فالأوطان تتمايز في مستوى عاطفة أفرادها الوطنية، في ظل مخاطر كثيرة تتعرض لها في كل فترة زمنية وأخرى، وبالتالي يمكن القول إن الأوطان الساكنة سياسيا، تختلف عاطفة أفرادها الوطنية عن تلك الملتهبة سياسيا، فالسياسة هنا لها دور كبير في هذا الجانب، بخلاف العاطفة الاجتماعية التي لا تخضع للظروف الجيوسياسية بصورة مباشرة، حيث تحافظ على مستوياتها في نفوس الأفراد في جميع الظروف، ولذلك نرى أن الشعوب التي تعيش في أوضاع غير مستقرة، تظل عاطفتها الوطنية في حالة من عدم الثبات، انخفاضا وارتفاعا في نفوس شعوبها، ولذلك ففي الضرورات القصوى حيث يغادر الفرد وطنه، كأنه بذلك يعلن انفصاله عن وطنه إلى أجل غير مسمى، ويرى في الوطن الذي لم يستطع أن يحقق له الأمان أنه لا يستحق أن يكون وطنا تتهيج عاطفة الوطنية تجاهه، حيث تذهب الرؤية إلى الوطن البديل الذي قد تنشأ عبره عاطفة وطنية جديدة، خاصة مع المكوث الطويل والاستقرار، وإن كانت حالات الرحيل عن الأوطان قليلة، إلا أنها تسجل منعطفا مهما في حقيقة العاطفة الوطنية، وتنبئ عن حكم معزز للقناعة بأن العاطفة الوطنية ذات بعد أفقي أكثر منه، بعدا رأسي، وما ينطبق على الراحلين عن أوطانهم، ينطبق على المقيمين في أوطانهم؛ وهم المسيئون إلى أوطانهم بمختلف الإساءات، وما أكثرها!، وهم ما ينضمون إلى قوائم الخونة: من مجرمين، و»حرامية»، ولصوص مقدرات الوطن «نُهَّابْ المال العام» والمسيئين إلى أبناء جلدتهم في الوطن الواحد؛ من حيث انتهاك حقوق إنسانيتهم، وظلمهم، وانتهاك أعراضهم، والتعامل المباشر مع الجهات ذات البعد الإجرامي المباشر، وغير المباشر، من خارج أوطانهم للإساءة إلى أوطانهم، بينما ــ في المقابل ــ يعلو سقف مساهمة العاطفة الاجتماعية في مختلف هذه الظروف؛ حيث يتسامى ذلك الشعور النبيل في خدمة الآخر من حوله، فتكثر فيه حالات التضحية، وتتآلف فيه القلوب والأرواح؛ والتناصر، والتآزر، والتكافل؛ فتبرز فيه الإنسانية في أروع صورها، وأسمى مشاهدها، حيث يكون البذل والعطاء؛ بغض النظر عن أي مطمح مادي عارض، وبهذا تسجل العاطفة الاجتماعية سبقا زمنيا وماديا في تأصيل البعد الرأسي في التأثير، وفي تأصيل القناعات بأهمية المجتمعات في قدرتها على الأخذ بيد الأوطان نحو السمو والمعالي، ومن هنا يمكن القول إن العاطفة الاجتماعية هي القادرة على الدفع بالعاطفة الوطنية نحو التأصيل، والنمو والتفاعل، وإن عدت العاطفة الوطنية على أنها هي الحاضنة، ولذلك ستظل العاطفة الاجتماعية القادرة على لثم أية ثغرة يمكن أن تحدثها العاطفة الوطنية في جدار الوطن، مهما علت تكلفتها «فللأوطان دَين مستحق» تعيده إلى نصابه العاطفة الاجتماعية، وإن بخل الوطن على أبنائه في ظروف استثنائية خارجة عن الإرادة.
أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني