لعل من النتائج الملفتة التي خرجت بها آخر نسخة من تقرير مؤشر إيدلمان للثقة Edelman Trust Barometer لعام 2023 أن بعض الحكومات التي تتمتع بقيادة مركزية، وليست من الديمقراطيات التقليدية، تمكنت من جعل حوالي 60% من سكانها يؤمنون برؤيتهم للمستقبل، ورغم أن بعض هذه الحكومات لا ترحب بانتقاد رؤيتها، لكن نجاحها في بلورة رؤية واضحة لدى عموم المواطنين. ونعتقد أن هذه النتيجة ملفتة؛ لكون أن هناك انطباعا عاما بدأ يسود في العقود الأخيرة على معظم التحليلات ذات العلاقة بمسألة «الثقة بالحكومات» بأن هذه الثقة آخذة في التقلص، وأن هناك فجوات تَبين؛ بين مستوى تطلعات المواطنين من الحكومات والأداء الفعلي لها من ناحية، وبين مستوى ما تعد به الحكومات من أجندة عمل، وبين ما يمارس فعليًا ويتحقق على أرض الواقع. لعل أحدث هذه التحليلات التي نشير إليها النتائج التي خرج بها تقرير «الثقة بالحكومات» الذي يُحدّث بشكل دوري عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD والذي تشير نتائجه (عام 2021) أنه في المتوسط، يثق (4 من كل 10) أشخاص في حكومتهم الوطنية، بينما لا يثق (4 من كل 10) أشخاص تمامًا في هذه الحكومات (في دول المنظمة). نعتقد أن النقطة الحاسمة هنا تكمن في القدرة على تطبيق نموذج (القيادة بالرؤية )leading with a vision. ورغم أن هذه المفاهيم في أساسها قادمة من بيئات العمل التجارية؛ إلا أنها أصبحت اليوم في صلب نماذج عمل الحكومات. ذلك أن الحكومات القادرة على بناء رؤية ملهمة لشعوبها وأن تتخلل تلك الرؤية بشكل منهجي ومعنوي أيضًا عمليات قيادة العمل الحكومي هي أقدر ما تكون على بناء جسر متين من الثقة مع المواطنين.

تتفق الأدبيات المرتبطة بموضوع «القيادة بالرؤية» في نماذج عمل الحكومات أن هناك 6 منافع أساسية لتطبيق هذا المفهوم: فهو «يساعد القادة على العمل بكفاءة واستمرار التركيز على أهداف بعينها، ويسهم في بقائهم متحمسين تجاه تلك الأهداف، ويلهم المواطنين بشكل دائم، ويستطيع جذب المواهب الجديدة كقيادات للتحول، ويساعد الناس على التغلب على التحديات في اتجاه الأهداف المنشودة، ويصنع لكل جهد وطني معنى وهدف». إلا أن ما يحكم نجاح إيصال رؤية ما إلى مجتمع بعينه يتصل بأسس وطبيعة ومضامين التواصل الرسمي، والمحددات التي يبنى عليها، وحوامل الرسالة التي يصل بها إلى عموم المجتمع. نعتقد اليوم أن جسر الثقة بين الحكومات والمواطنين يتأثر بثلاث نقاط أساسية:

1- القدرة على القيادة الفاعلة في عالم تؤطره الأزمات.

2- القدرة على الثبات على رؤية واضحة وملهمة في عالم يكسوه عدم اليقين والهشاشة.

3- القدرة على حشد كافة الأطراف للعمل بذات المستوى من الكفاءة الفاعلية.

وهذه الثلاث نقاط أيضًا كلها تدور حول عنصر (التواصل). ولكن ما الذي يحكم فاعلية هذا التواصل في سياق تلقي المجتمع له؟ بمعنى: ما هي الجوانب التي يجب التنبه اجتماعيًا لجعل تلقي هذا التواصل أكثر فاعلية؟. أحد أهم الجوانب التي يجب التنبه لها هو تأثير ما يُعرف بـ (الأحمال المعرفية Cognitive load)؛ وهي تنطلق من فرضية أن دماغ الكائن البشري لديه قدرة محدودة في حجم المعلومات التي يستطيع معالجتها عقليًا خلال الثانية، وأنه كلما كانت هناك كمية كبيرة من المعلومات التي يتعرض لها الدماغ فإن ذلك يجعل من الصعب عليه معالجتها واستيعابها، وصولًا إلى إمكانية (النفور) منها. الأفراد عمومًا أيما كان سياقهم الثقافي هم أكثر ميلًا لقبول وتلقي المعلومات المبسطة، لأنها تتيح لهم المساحة للفهم، ولا تدفعهم بشكل معقد للاستدلال، أو محاولة خلق صور نمطية أو استجلاب مجموعة من الاختصارات لفهم محتوى (الرسالة/ التواصل).

هناك دراسات كثيرة طبقت في العلوم السلوكية حول أثر الحمل المعرفي الزائد على قدرة الرسالة الاتصالية على تغيير السلوك، خاصة في مجالات التعلم واستهلاك الطاقة والسلوكيات الصحية، والواقع أن الرسالة الإعلامية التي لا تحمل عبئًا معرفيًا معقدًا سواء من ناحية (تعقيد المعلومات - الحاجة إلى الربط والاستدلال الثانوي - الحشو بالأرقام والمؤشرات - الخلو من الأمثلة الملموسة - الحاجة إلى اختصارات ذهنية لفهمها - اللغة المتخصصة...) هي أكثر ما تكون قادرة على تغيير السلوك وإيصال الرؤية وحفز المتلقي للتغيير أو الاستجابة. إن الحمل المعرفي الزائد في الرسالة الاتصالية من شأنه أن يحفز ثلاث مشكلات أساسية لدى الرأي العام في المجتمعات وهي (الجدل - التأويلات النسبية - المقاومة). عوضًا عن كونه من الممكن أن ينشئ سلوكيات غير مقصودة/ مرغوبة/ مضادة داخل السياق المجتمعي المتلقي للرسالة. على سبيل المثال أثناء جائحة كورونا COVID-19 نشرت دراسة بعنوان « Unusual purchasing behavior during the early stages of the COVID-19 pandemic: The stimulus-organism-response approach»، وأجريت على نحو 211 مشاركا فنلنديا عبر الانترنت. وجدت الدراسة أن أثر التعرض لحمل زائد من المعلومات عبر الانترنت حول الجائحة كانت له علاقة بظهور سلوكيات استهلاكية غير اعتيادية لدى المشاركين مثل تخزين ورق التواليت، عوضًا عن انتشار كبير بين المشاركين لمتلازمة cyberchondria ويقصد بها كثرة البحث عن المعلومات الصحية المباشرة والسريعة عبر مواقع مختلفة على الإنترنت. وفي دراسات أخرى بينت أثر المعلومات (غير المنضبطة المصدر) والتي تحتوي على أحمال معرفية كبيرة في فترة الجائحة وتنشيط ما يُعرف بسلوكيات (شراء الذعر) وتكديس المنتجات والمشتريات الزائدة عن الحاجة.

إن جزءا من مهمة التواصل الرسمي (الحكومي) - إن صحت التسمية - اليوم تتركز في محاربة ما يُعرف بـ«الدِوار الإلكتروني»، والأحمال المعرفية التي يولدها، والقدرة على تبسيط الرسالة إلى أقصى حد ممكن. هذا التبسيط يقتضي لغة جديدة وتركيزًا أكبر على الصورة والمشهد والرموز أكثر من الكتل النصية السردية، ولغة سرد استراتيجي قريبة من المجتمع، واستدلالات بالأمثلة الملموسة والمباشرة، وتوضيح الروابط بين (الرسالة الحالية) وعلاقتها بكل ما يتصل بها من رسائل سابقة. التبسيط هو رهان الثقة اليوم بين الحكومات والأفراد فيما يتعلق بالتواصل. ونحن أحوج ما نكون اليوم إلى (مهندسي التبسيط).

مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان