لا يمكن لأحد أن يتنبأ بالحرب، لكن يمكن أن يبدأ بها فالحرب من الكوارث الإنسانية التي يوشك جميع الناس الجزم أنها من حيث عنفها المادي المباشر ورزاياها الكثيرة، لا تنطوي على خيرٍ أبدا.

ففي الحرب -ذلك الجنون الجماعي للبشر- تتعرى الكثير من الغرائز وتعكس النفوس أسوأ ما فيها، لأن إكراهات الحرب تشتغل على نحو شبكي، فبما أن الحرب هي فوضى، فإن منطقها الخاص في صناعة الفوضى هو منطق يعمل على نحو شبكي، خصوصا في الحياة الحديثة التي وصلت فيها تشبيكات المجتمع البشري نحوًا بالغ الحساسية والتعقيد.

لهذا فإن أكثر ما يناسب الأوقات التي تسبق الحرب هو الحذر، خصوصا أن ترف التنظير في قضايا مثل الحرب من قبل بعض المثقفين والمفكرين قد لا يعني سوى انعكاس مضلل للرأي.

لم يكن أحد من السودانيين في الخرطوم قبل يوم 15 أبريل الماضي بساعات يتوقع حدوث الحرب بذلك العنف غير المسبوق في المدينة.

كانت أواخر رمضان قد شغلت الناس بالعيد والاستعداد له فيما كانت الحرب تعد المفاجآت الحزينة للجميع.

إذا ما تأملنا اليوم في قياسات البعض حيال توقع ردود فعل لقضايا مثل الثورة والعنف والتغيير فإن غالب ما يضمره المثقف من تحليل عادة ما يتصل بقوالب سابقة يسقطها على وعيه، لا على واقعه، فالوعي بحسبانه تصورات ذهنية قد يتردد باحتمالات كثيرة من صور وتمثيلات الواقع المنعكسة فيه، فيما الواقع الحقيقي هو واقع مستقل بقوانينه التي لها قابلية لأن تفاجئ الجميع.

وكذلك يمكن القول إن من أسوأ نماذج القياس التي يستخدمها بعض المثقفين ومنظري الشأن العام، هو قياس الغائب على الشاهد، فليس معنى كون شخص ما مثقفا يقتضي ذلك منه أن ينظر للواقع من دائرة داخل محيطه ومحيط دائرة المثقفين الذين يشبهونه، إلى جانب عالم الثقافة الذي يعيش فيه.

عادة ما يتوهم المثقف تحليلاته للواقع من خلال ما يفترضه، لكن لا يعني ذلك البتة أن ما يفترضه المثقف أو ما يحلم به هو مطابق للواقع الذي يضطرب من حوله، أو حتى قريبا منه. ففي الواقع فضاء للبشر مزدحم بإكراهات حياة وشروط عيش وأنماط تفكير أبعد ما تكون عن افتراضاته التي يفترضها.

نرى اليوم كثيرين يخوضون في تأويلات سيناريو الحرب السودانية، ولأنها حرب غير مسبوقة على هذا النحو، سواءً في سياقاتها، أو أطرافها، أو مكانها الذي بطبيعته المدنية هو مكان نابذ للحرب، فإن قدرة التنبؤ بمآلاتها ستبدو أكثر استعصاء حيال النهايات المفتوحة للحرب.

إن ما يبتعد عن الواقع من افتراضات المثقف وإسقاطاته حيال الحرب سيجعله أكثر اغترابا حتى إذا استخدم الفكر والنظر في تحليل وقائع حرب تحكمها سنن وقوانين، وإن بدا ظاهرها فوضويا.

في الحرب تبدو قوانين حكم الواقع على تاريخ المجتمع السياسي والعسكري أكثر سيولة وتسخينا من كل الثوابت النظرية الجامدة في ذهن المثقف وقوالبه الجاهزة.

فحين نرى نتائج حرب ما في زمن آخر، قياسا بوقتها وما كان ينطوي عليه من قسوة وعنف ومصائر معذبة للكثيرين من مجندي الحرب، فإننا سنجد أن ظاهرة الحرب وإن بدت جنونا جماعيا، فإن منطقها ليس عبثيا بالضرورة، بل الحرب ككل ظاهرة إنسانية لها وجهان بحيث يمكننا القول إن الذي يتحكم في وجه الحرب ليس هو ظاهر العنف الذي تطلقه الحرب، وإنما الذي يتحكم فيها هو الرؤية التي ترى النظام من وراء الفوضى الظاهرة.

فلم تكن الحرب الأهلية في الولايات المتحدة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر رغم عنفها والموت الذي ملأ ساحتها، سببا فقط في تحرير الرقيق، وإنما كذلك سببا في وحدة متينة للولايات المتحدة.

اليوم تبدو الحرب العالمية الثانية أكبر مسرح من مسارح الجنون البشري، لكن ما حدث بعدها -رغم فظاعتها- أفرز واقعا جديدا لمصائر البلدان المستعمرة، التي لولا ظرف الحرب العالمية الثانية في تغيير قواعد اللعبة الاستعمارية وظهور قوى جديدة للعالم (الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي) لما أمكن لشعوب آسيا وإفريقيا أن تنال استقلالاتها، ولو قاتلت لعشرات السنين بمعزل عن حدوث ظاهرة الحرب العالمية الثانية.

ومع ذلك ليس المطلوب أن نكون مثاليين تجاه الحرب بقدر ما علينا أن نكون أكثر واقعيةً واكتراثا للوقائع.