عتبة..
«سيادتك أنا عايزة أتكلم والنبي.. لا دا سؤال واحد بس مش ح تكلم تاني خالص. سيادتك أنا مش عارفة أما تاخذوا العيال ح تعملوا معاهم إيه. أصل في حاجات تخصهم أنا بس إللي أعرفها. ياسين لو صحي من النوم وما لاقاش لمبه منورة بيتفزع، وبيفضل يومين ما بيعرفش ينام خالص ولو كل ملوخية بطنه بتكركب أوي وما بيحطش حاجه في بقه بقية اليوم وأهم حاجه عنده الكورة لأنه موهوب أوي فيها يعني لو مفيش حتى فلوس نجيب لعبة عادية زي باقيت بتاعت العيال الكورة لازم، لازم نجيبها، وفرح متعبة شوية في النوم فبتحتاج صبر يعني ومناهدة، بعد كده بتنام عادي، مفيش حاجه بتهدي لها المغص في بطنها غير الكراوية اللي بعملها لها. أنا مش عارفة أنا بقول ليه الكلام دا ليه دلوأت، ولا أقوله لمين يعني؟ بس عارفة إن حضراتكم كل إللي بتقولوا مين إللي يبقى واصي، فبقوله كدا يعني عشان تبقوا عارفين وتقولوه للي ح يأخذ باله من العيال. أنا والله حاولت أعمل كل إللي أنا أعرفه، بس هو عادل سابني بدري جوزي ومكنتش عاملة حسابي ولا عمري فكرت في حاجه زي كده. مش عارفه أنا فيا غلط إيه؟ إيه الغلط إللي أنا عملته مش عارفه؟ أنا بس يعني قلت لسيادتكوا الحاجات دي عشان تعرفوها عشان العيال، ح تعملوا معاهم إيه؟ مين ح يعرف الحاجات دي؟»
«شخصية حنان- مسلسل تحت الوصاية»
هل تخطئ دراما المسلسلات أو الأفلام أو المسرحيات عندما تجعل نهاية الأحداث مفتوحة؟
ألا يوجد في الحياة أخطاء يرتكبها البشر كما يرتكبها التاريخ، ولا تزال جراحها مفتوحة حتى اليوم، لاسيما، أخطاء الساسة والمحللين؟
أيهما لدينا أكثر قبولا أو استساغا، خطأُ التاريخ الذي دَوَّنه من يَملك القوة لاستعباد العالم، أم أخطاء سيرورة الحياة الاجتماعية من عادات وتقاليد سلبية؟
ألا تسهم الدّراما بجميع أنواعها في تقديم صورة غير واقعية للحياة المثالية المتخيّلة في النصّ المكتوب، لكنها تأمل أن تكون الحياة الواقعية شبيهة بجمال ما قدمته الدراما؟
أليس مشكلات الواقع أصعب وأعقد حلا من مشكلات الدراما وحلولها؟
هذه الأسئلة تذكرني بمقولة للمسرحي برتولد برخت تقول: إن «كوارث اليوم لا تقع على شكل خطوط مستقيمة، بل على شكل أزمات دورية، والأبطال يتغيرون في كل مرحلة جديدة، ويتبادلون الأدوار، وهكذا الخط البياني للأحداث؛ فإنّه يزداد تعقيدا بسبب الأحداث الخاطئة» إن الوعي المجتمعي بتعقّد العالم وتغيره باتت تلتفت إليه الدراما من خلال سعيها لتناول أحوال الإنسان ووقوعه تحت تأثير المتغيرات العالمية الكبرى. وربما من هذا المنعطف، يسعى الناس إلى الاعتقاد أن الدراما قادرة على حل مشكلات الواقع، أو منح الإنسان وصفة سحرية لمقاومة عنف العالم واضطرابه، بغض النظر عن صدق ذلك الاعتقاد أو ادعاؤه.
ويميل الناس غالبا إلى الاعتقاد بمبدأ الفطرة الإنسانية السليمة، فالحق برأيهم يجب أن ينتصر، والمجرم يجب أن يُسجن ويعاقب، ويعشق الناس النهايات السعيدة لكل ما يجري حولهم. لكن الدراما لها وجهة نظر أخرى؛ فإذا لم تضع المجرم في الزنزانة أو ينال المرتشي عقابه أو يتزوج الحبيب من حبيبته فهي دراما غير واقعية، وكأن الواقع يفعل عكسها.!
مَن شاهد مؤخرا مسلسل تحت الوصاية على قناة شاهدmbc تأليف خالد وشيرين دياب، وإخراج المخرج محمد شاكر خضير وإنتاج الشركة المتحدة، لم يستسغ في البداية النهاية غير المقبولة للأحداث. فالمتابع كان يبحث عن نهاية أخرى، هناك ملاحظات على معالجة السيناريو، فالسلوك الذي تتعامل به شخصية (حنان) من أجل حماية أبنائها لم يكن سلوكا مقبولا، فهي لا تتردد للقيام بفعل كالسرقة (سرقة المركب من الوصي) ودِهانه بلون آخر لتغير ملامحه، وتلجأ لدفع رشوة للحصول على بطاقة مزورة! كلّ هذا يحدث من وجهة نظر الشخصية أنه فعل اضطراري لتحمي نفسها وأبنائها، دون أن يكون هناك موقف من الشخصيات الأخرى ناقد لسلوكها هذا (هل الحجة القائلة من استطاع أن يحتال فليفعل مبررة هنا؟) هل في الواقع الاجتماعي يُمكن فعل ذلك حقا؟ فهل الحكم بسجن الشخصية نهاية واقعية ومغلقة ونهائية، أم قد يكون لها أجزاء أخرى؟ وفي نهاية المطاف فإنّ القانون لا يحمي المغفلين ولا الغشاشين.
ثم ننتقل إلى مشهد حادثة حرق المركب ودَلالاته البعيدة الغائرة في الذهنية الثقافية؛ فالنساء لا يشتغلن في مهنة البحر، وإثارة موضوع النجاسة وارتباطها بالمرأة ثيمة تاريخية تذكرنا بالأحاديث المنسوبة خطأ إلى الرسول حول النساء، ومن يعود إلى صورة المرأة في السرد العربي القديم يُمكنه الوقوف على الكثير من الصور المغلوطة التي أمعن الشاعر والناثر والمؤرخ العربي القديم في تمجيدها وتخليدها. وكان يُمكن أن يذهب السيناريو بالمسلسل إلى قضايا أخرى، لكن تلك المسألة لم تكن في اهتمام كاتبي السيناريو وليست قضيتهما، وإن كان مشهد الصيادين في الميناء بقيادة (سيد) وهم ينتظرون وصول المركب من أحد أجمل مشاهد الحلقة الأخيرة المؤثرة.
بالنسبة إلى كثيرين كانوا ينطلقون من زاوية رفض النهايات المفتوحة، فنهاية المسلسل كانت غير منطقية! لأنهم كانوا يفكرون بمنطق الفطرة السليمة السوية. المتأمل في نهاية الأحداث سيجدها قد قاربت الواقع مقاربة شديدة، من ذلك أن المحكمة قد حكمت على المتهمة (حنان) بالسجن لمدة عام، ولم يتعاطف القاضي مع مرافعتها الرفيعة جدا (التي لم أتصرف فيها لبلاغتها فجعلتها عتبة المقالة)، كما أن خروجها وسيرها مرّحلة في سيارة رجال الشرطة بينما تحمل أختها (سناء) ابنة أختها الطفلة الصغيرة فيما يضع العم (دياب) يده على كتف الطفل (ياسين) مقدما لحنان وعوده الكاذبة أنه سيكون إلى جانب ابنها، وبقدر ما في وعوده من عدم اطمئنان فهي واقعية أيضا. فهل كان على المشاهدين الانتظار لجزء ثان للمسلسل ليشاهدوا (حنان) والعدالة قد انتصرتا بعد تصدي حملات التوعية بالقانون من قِبل جمعيات المرأة وحقوق الإنسان لتعديل قوانين الوصاية (فمن الناحية القانونية تؤول الوصاية المالية بعد وفاة الأب بالتبعية إلى الجّد ثم إلى العم) في المجتمع العربي في مصر. لقد حدث شيء شبيه بذلك، مع فيلم (أريد حلا) من تأليف حُسن شاه، وكتابة السيناريو والحوار لسعد الدين وهبة، وإخراج المخرج سعيد مرزوق، وإنتاج صلاح ذو الفقار، والفيلم مثلته سيدة الشاشة العربية الفنانة الراحلة فاتن حمامة الذي بسببه نوقش قانون الخُلع، والزمن طويل ما بين شخصية حنان (منى زكي) 2023م التي تريد الوصاية على أولادها حماية لهم من طمع عمهم الجشع، ودرّية (فاتن حمامة) 1975م التي تريد الطلاق بواسطة الخُلع حلًا لإنهاء علاقة زواج غير مستقرة مع زوجها الدبلوماسي (مدحت)، فعندما يرفض زوجها تطليقها تلجأ إلى القضاء فتخسر قضيتها، ليجري تعديل قانون الأحوال الشخصية بعد ذلك في 1978م، وهو ما يُعرف بقانون جيهان الذي تنتصر فيه لإصلاح قوانين الأحوال الشخصية للمرأة المصرية. وعطفا على هذا القياس، نتذكر شخصية (نورا) بطلة مسرحية (بيت الدمية) الاجتماعية لمؤلفها هنريك إبسن والنهاية التي صَفقت بها (نورا) باب شقتها في وجه زوجها (تورفالد هيملر) فيكتب الناقد الراحل الدكتور (سمير سرحان) قائلا: «... فإن قوى الماضي الهدامة في بيت الدمية هي جزء لا ينفصل عن ظروف المجتمع. وعندما ينكشف الماضي، نكتشف أن نورا كانت تكافح من أجل إنقاذ زوجها الذي ينكرها في اللحظة التي يكتشف فيها ما قامت به من أجله. الموقف يمثّل إدانة لمؤسسة اجتماعية بكاملها» ويشير هذا مع الفارق في الثقافتين العربية والأوروبية إلى أن معاناة المرأة في المجتمعات التقليدية المحافظة هي المشكلات نفسها، وأن تغييرها لا يقع على المرأة وحدها. ويتصل بهذا النضال من أجل التغيير مسألة في غاية الطرافة، فجمهور المجتمع الأوروبي المحافظ آنذاك في عام 1879م لم ترق له نهاية المسرحية. يكتب الناقد عبدالحليم البشلاوي حول المسرحية النقاش التالي: «كيف يقدم -أي إبسن- لهم شخصية كهذه الزوجة؟ وكيف يجرؤ على أن يجعلها تبيح لنفسها حق المشاركة في تحمل عبء المتاعب المالية للحياة الزوجية، فتستدين وتتورط في الدَين، وتزوّر إمضاء أبيها؟ وكيف، وهو الأدهى والأمر في نظرهم، تغادر بيت الزوجية في نهاية الأمر غاضبة ثائرة وتصفق خلفها الباب؟».
تبدو شخصية (حنان) صورة أخرى مقاربة لشخصية (نورا) مع اختلاف البيئتين والثقافتين والفعلين، لكن إبسن كما كتب البشلاوي «... لم تعجبهم المسرحية -أي النقاد والمجتمع الأوروبي المحافظ آنذاك- ومن هنا تراءى لإبسن أن يحاول إرضاء الثائرين، فعدل خاتمة المسرحية وجعل نورا، بعد أن صفقت خلفها الباب، تعود إلى البيت لترعى أولادها، وكان هدف إبسن من ذلك أن يقنع النقاد والمخرجون بهذا التعديل ويكتفوا به، فيخرجوا مسرحيته كما هي دون مزيد من التعديل «يختصر قاموس السرديات لمؤلفه جيرالد برنس، ترجمة السيد إمام، شغف المشاهدين بالنهايات غير المفتوحة جاعلا إياها في رتبة «من الاستقرار النسبي» وهي أيضا «تقوم بوظيفة القوة الممغنطة، والمبدأ المنظم للسرد» إن المُشاهد اليوم بات لا يبحث عن شيء في الخيال، بل يريد الواقع بكل ما فيه من تشوهات وتعثرات وخيبات أمل، لذلك تعدّ النهايات المفتوحة بالنسبة إليه غير مُحببة أو مقبولة، فيريدها كشيء طبق الواقع؛ وما أرذله من واقع مبتذل يزداد تعقيدا بسبب تراكم الأحداث الخاطئة.
آمنة الربيع أكاديمية وأديبة عمانية متخصصة في شؤون المسرح
«سيادتك أنا عايزة أتكلم والنبي.. لا دا سؤال واحد بس مش ح تكلم تاني خالص. سيادتك أنا مش عارفة أما تاخذوا العيال ح تعملوا معاهم إيه. أصل في حاجات تخصهم أنا بس إللي أعرفها. ياسين لو صحي من النوم وما لاقاش لمبه منورة بيتفزع، وبيفضل يومين ما بيعرفش ينام خالص ولو كل ملوخية بطنه بتكركب أوي وما بيحطش حاجه في بقه بقية اليوم وأهم حاجه عنده الكورة لأنه موهوب أوي فيها يعني لو مفيش حتى فلوس نجيب لعبة عادية زي باقيت بتاعت العيال الكورة لازم، لازم نجيبها، وفرح متعبة شوية في النوم فبتحتاج صبر يعني ومناهدة، بعد كده بتنام عادي، مفيش حاجه بتهدي لها المغص في بطنها غير الكراوية اللي بعملها لها. أنا مش عارفة أنا بقول ليه الكلام دا ليه دلوأت، ولا أقوله لمين يعني؟ بس عارفة إن حضراتكم كل إللي بتقولوا مين إللي يبقى واصي، فبقوله كدا يعني عشان تبقوا عارفين وتقولوه للي ح يأخذ باله من العيال. أنا والله حاولت أعمل كل إللي أنا أعرفه، بس هو عادل سابني بدري جوزي ومكنتش عاملة حسابي ولا عمري فكرت في حاجه زي كده. مش عارفه أنا فيا غلط إيه؟ إيه الغلط إللي أنا عملته مش عارفه؟ أنا بس يعني قلت لسيادتكوا الحاجات دي عشان تعرفوها عشان العيال، ح تعملوا معاهم إيه؟ مين ح يعرف الحاجات دي؟»
«شخصية حنان- مسلسل تحت الوصاية»
هل تخطئ دراما المسلسلات أو الأفلام أو المسرحيات عندما تجعل نهاية الأحداث مفتوحة؟
ألا يوجد في الحياة أخطاء يرتكبها البشر كما يرتكبها التاريخ، ولا تزال جراحها مفتوحة حتى اليوم، لاسيما، أخطاء الساسة والمحللين؟
أيهما لدينا أكثر قبولا أو استساغا، خطأُ التاريخ الذي دَوَّنه من يَملك القوة لاستعباد العالم، أم أخطاء سيرورة الحياة الاجتماعية من عادات وتقاليد سلبية؟
ألا تسهم الدّراما بجميع أنواعها في تقديم صورة غير واقعية للحياة المثالية المتخيّلة في النصّ المكتوب، لكنها تأمل أن تكون الحياة الواقعية شبيهة بجمال ما قدمته الدراما؟
أليس مشكلات الواقع أصعب وأعقد حلا من مشكلات الدراما وحلولها؟
هذه الأسئلة تذكرني بمقولة للمسرحي برتولد برخت تقول: إن «كوارث اليوم لا تقع على شكل خطوط مستقيمة، بل على شكل أزمات دورية، والأبطال يتغيرون في كل مرحلة جديدة، ويتبادلون الأدوار، وهكذا الخط البياني للأحداث؛ فإنّه يزداد تعقيدا بسبب الأحداث الخاطئة» إن الوعي المجتمعي بتعقّد العالم وتغيره باتت تلتفت إليه الدراما من خلال سعيها لتناول أحوال الإنسان ووقوعه تحت تأثير المتغيرات العالمية الكبرى. وربما من هذا المنعطف، يسعى الناس إلى الاعتقاد أن الدراما قادرة على حل مشكلات الواقع، أو منح الإنسان وصفة سحرية لمقاومة عنف العالم واضطرابه، بغض النظر عن صدق ذلك الاعتقاد أو ادعاؤه.
ويميل الناس غالبا إلى الاعتقاد بمبدأ الفطرة الإنسانية السليمة، فالحق برأيهم يجب أن ينتصر، والمجرم يجب أن يُسجن ويعاقب، ويعشق الناس النهايات السعيدة لكل ما يجري حولهم. لكن الدراما لها وجهة نظر أخرى؛ فإذا لم تضع المجرم في الزنزانة أو ينال المرتشي عقابه أو يتزوج الحبيب من حبيبته فهي دراما غير واقعية، وكأن الواقع يفعل عكسها.!
مَن شاهد مؤخرا مسلسل تحت الوصاية على قناة شاهدmbc تأليف خالد وشيرين دياب، وإخراج المخرج محمد شاكر خضير وإنتاج الشركة المتحدة، لم يستسغ في البداية النهاية غير المقبولة للأحداث. فالمتابع كان يبحث عن نهاية أخرى، هناك ملاحظات على معالجة السيناريو، فالسلوك الذي تتعامل به شخصية (حنان) من أجل حماية أبنائها لم يكن سلوكا مقبولا، فهي لا تتردد للقيام بفعل كالسرقة (سرقة المركب من الوصي) ودِهانه بلون آخر لتغير ملامحه، وتلجأ لدفع رشوة للحصول على بطاقة مزورة! كلّ هذا يحدث من وجهة نظر الشخصية أنه فعل اضطراري لتحمي نفسها وأبنائها، دون أن يكون هناك موقف من الشخصيات الأخرى ناقد لسلوكها هذا (هل الحجة القائلة من استطاع أن يحتال فليفعل مبررة هنا؟) هل في الواقع الاجتماعي يُمكن فعل ذلك حقا؟ فهل الحكم بسجن الشخصية نهاية واقعية ومغلقة ونهائية، أم قد يكون لها أجزاء أخرى؟ وفي نهاية المطاف فإنّ القانون لا يحمي المغفلين ولا الغشاشين.
ثم ننتقل إلى مشهد حادثة حرق المركب ودَلالاته البعيدة الغائرة في الذهنية الثقافية؛ فالنساء لا يشتغلن في مهنة البحر، وإثارة موضوع النجاسة وارتباطها بالمرأة ثيمة تاريخية تذكرنا بالأحاديث المنسوبة خطأ إلى الرسول حول النساء، ومن يعود إلى صورة المرأة في السرد العربي القديم يُمكنه الوقوف على الكثير من الصور المغلوطة التي أمعن الشاعر والناثر والمؤرخ العربي القديم في تمجيدها وتخليدها. وكان يُمكن أن يذهب السيناريو بالمسلسل إلى قضايا أخرى، لكن تلك المسألة لم تكن في اهتمام كاتبي السيناريو وليست قضيتهما، وإن كان مشهد الصيادين في الميناء بقيادة (سيد) وهم ينتظرون وصول المركب من أحد أجمل مشاهد الحلقة الأخيرة المؤثرة.
بالنسبة إلى كثيرين كانوا ينطلقون من زاوية رفض النهايات المفتوحة، فنهاية المسلسل كانت غير منطقية! لأنهم كانوا يفكرون بمنطق الفطرة السليمة السوية. المتأمل في نهاية الأحداث سيجدها قد قاربت الواقع مقاربة شديدة، من ذلك أن المحكمة قد حكمت على المتهمة (حنان) بالسجن لمدة عام، ولم يتعاطف القاضي مع مرافعتها الرفيعة جدا (التي لم أتصرف فيها لبلاغتها فجعلتها عتبة المقالة)، كما أن خروجها وسيرها مرّحلة في سيارة رجال الشرطة بينما تحمل أختها (سناء) ابنة أختها الطفلة الصغيرة فيما يضع العم (دياب) يده على كتف الطفل (ياسين) مقدما لحنان وعوده الكاذبة أنه سيكون إلى جانب ابنها، وبقدر ما في وعوده من عدم اطمئنان فهي واقعية أيضا. فهل كان على المشاهدين الانتظار لجزء ثان للمسلسل ليشاهدوا (حنان) والعدالة قد انتصرتا بعد تصدي حملات التوعية بالقانون من قِبل جمعيات المرأة وحقوق الإنسان لتعديل قوانين الوصاية (فمن الناحية القانونية تؤول الوصاية المالية بعد وفاة الأب بالتبعية إلى الجّد ثم إلى العم) في المجتمع العربي في مصر. لقد حدث شيء شبيه بذلك، مع فيلم (أريد حلا) من تأليف حُسن شاه، وكتابة السيناريو والحوار لسعد الدين وهبة، وإخراج المخرج سعيد مرزوق، وإنتاج صلاح ذو الفقار، والفيلم مثلته سيدة الشاشة العربية الفنانة الراحلة فاتن حمامة الذي بسببه نوقش قانون الخُلع، والزمن طويل ما بين شخصية حنان (منى زكي) 2023م التي تريد الوصاية على أولادها حماية لهم من طمع عمهم الجشع، ودرّية (فاتن حمامة) 1975م التي تريد الطلاق بواسطة الخُلع حلًا لإنهاء علاقة زواج غير مستقرة مع زوجها الدبلوماسي (مدحت)، فعندما يرفض زوجها تطليقها تلجأ إلى القضاء فتخسر قضيتها، ليجري تعديل قانون الأحوال الشخصية بعد ذلك في 1978م، وهو ما يُعرف بقانون جيهان الذي تنتصر فيه لإصلاح قوانين الأحوال الشخصية للمرأة المصرية. وعطفا على هذا القياس، نتذكر شخصية (نورا) بطلة مسرحية (بيت الدمية) الاجتماعية لمؤلفها هنريك إبسن والنهاية التي صَفقت بها (نورا) باب شقتها في وجه زوجها (تورفالد هيملر) فيكتب الناقد الراحل الدكتور (سمير سرحان) قائلا: «... فإن قوى الماضي الهدامة في بيت الدمية هي جزء لا ينفصل عن ظروف المجتمع. وعندما ينكشف الماضي، نكتشف أن نورا كانت تكافح من أجل إنقاذ زوجها الذي ينكرها في اللحظة التي يكتشف فيها ما قامت به من أجله. الموقف يمثّل إدانة لمؤسسة اجتماعية بكاملها» ويشير هذا مع الفارق في الثقافتين العربية والأوروبية إلى أن معاناة المرأة في المجتمعات التقليدية المحافظة هي المشكلات نفسها، وأن تغييرها لا يقع على المرأة وحدها. ويتصل بهذا النضال من أجل التغيير مسألة في غاية الطرافة، فجمهور المجتمع الأوروبي المحافظ آنذاك في عام 1879م لم ترق له نهاية المسرحية. يكتب الناقد عبدالحليم البشلاوي حول المسرحية النقاش التالي: «كيف يقدم -أي إبسن- لهم شخصية كهذه الزوجة؟ وكيف يجرؤ على أن يجعلها تبيح لنفسها حق المشاركة في تحمل عبء المتاعب المالية للحياة الزوجية، فتستدين وتتورط في الدَين، وتزوّر إمضاء أبيها؟ وكيف، وهو الأدهى والأمر في نظرهم، تغادر بيت الزوجية في نهاية الأمر غاضبة ثائرة وتصفق خلفها الباب؟».
تبدو شخصية (حنان) صورة أخرى مقاربة لشخصية (نورا) مع اختلاف البيئتين والثقافتين والفعلين، لكن إبسن كما كتب البشلاوي «... لم تعجبهم المسرحية -أي النقاد والمجتمع الأوروبي المحافظ آنذاك- ومن هنا تراءى لإبسن أن يحاول إرضاء الثائرين، فعدل خاتمة المسرحية وجعل نورا، بعد أن صفقت خلفها الباب، تعود إلى البيت لترعى أولادها، وكان هدف إبسن من ذلك أن يقنع النقاد والمخرجون بهذا التعديل ويكتفوا به، فيخرجوا مسرحيته كما هي دون مزيد من التعديل «يختصر قاموس السرديات لمؤلفه جيرالد برنس، ترجمة السيد إمام، شغف المشاهدين بالنهايات غير المفتوحة جاعلا إياها في رتبة «من الاستقرار النسبي» وهي أيضا «تقوم بوظيفة القوة الممغنطة، والمبدأ المنظم للسرد» إن المُشاهد اليوم بات لا يبحث عن شيء في الخيال، بل يريد الواقع بكل ما فيه من تشوهات وتعثرات وخيبات أمل، لذلك تعدّ النهايات المفتوحة بالنسبة إليه غير مُحببة أو مقبولة، فيريدها كشيء طبق الواقع؛ وما أرذله من واقع مبتذل يزداد تعقيدا بسبب تراكم الأحداث الخاطئة.
آمنة الربيع أكاديمية وأديبة عمانية متخصصة في شؤون المسرح