لم تقتصر جوانب الدهشة والمفاجأة في الحرب «اللغز» الدائرة في السودان منذ 15 أبريل الماضي على أنها تجري بين رفقاء سلاح وشركاء مسؤولية في الحفاظ على أمن وسلامة واستقرار السودان الشقيق، حسبما تقتضي طبائع الأشياء، ولكن الأمر تخطى ذلك إلى تحويل الخرطوم ومناطق المواجهة في داخلها وخارجها إلى ساحات قتال مفتوحة تستخدم فيها كل أنواع الأسلحة، ولا تراعى فيها حرمة للمدنيين، ولا احترام لقوانين وتقاليد الحرب وقواعد القانون الدولي، حتى في التعامل مع مقار البعثات الدبلوماسية ومؤسسات الدولة السودانية ومرافقها، وهو ما عرّض عددا منها إلى التدمير والنهب، الذي ينزع أي انتماء سوداني، عن العناصر التي ارتكبت وترتكب هذه الجرائم في حق السودان وعلى نحو لا يمكن تبريره. وهنا أيضا العديد من جوانب الدهشة المصاحبة لهذه الحرب المرشحة لإحداث حجم هائل من الدمار والخسائر والمخاطر الشديدة بالنسبة لحاضر السودان ومستقبله وأمنه ووحدته الوطنية، خاصة إذا استمرت حالة التعامل مع الوضع في السودان على النحو الذي سار عليه حتى الآن عربيا وأفريقيا ودوليا، صحيح أن هناك جهودا لبعض الأطراف، ولكنها لا تزال محدودة التأثير، ويغلب عليها طابع الانتظار بشكل أو بآخر ولو بالتعلل بإجلاء الدبلوماسيين والرعايا، والمخيف هو إغلاق عدد من السفارات، أو تعليق أعمالها في الخرطوم، رغم أن الوضع والمواجهات المسلحة تتطلب العمل والتحرك النشط مع الفرقاء والأطراف المعنية لوقف القتال والبحث عن حلول جادة وعملية، ولكن إلى أي مدى تتوفر إرادة سياسية حقيقية للأخذ بيد السودان وإخراجه من المحنة؟ ومع الوضع في الاعتبار أن عددا كبيرا من الدول والمنظمات الدولية دعت إلى وقف القتال وللدخول في أكثر من هدنة وإلى عقد لقاء بين البرهان وحميدتي بعد إجراء مشاورات تمهيدية بين ممثليهما اللذين دعت حكومة جنوب السودان إلى لقائهما في جوبا، فإن المقترحات التي ترددت لم تتبلور في الواقع في شكل متكامل ومتماسك، ربما انتظارا للوصول إلى نقطة ما، لم يفصح عنها أي طرف حتى الآن على الأقل. والمؤكد أن هذا ليس محض مصادفة، خاصة أن الحرب دخلت أسبوعها الثالث ويرى الجميع ما تسببه من ويلات للشعب السوداني.
الاقتراح الفقاعة! على أن المفاجأة الأخرى، أو بمعنى أدق اقتراح «المهزلة أو الفقاعة» هو ما أعلنه وزير خارجية إسرائيل من استعداد إسرائيل للوساطة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع لوقف القتال والتوصل إلى حل بينهما، وأنه - وزير خارجية إسرائيل - عرض الأمر هاتفيا في اتصاله مع كل من البرهان وحميدتي، كما أنه أجرى اتصالات مع واشنطن ومع عواصم في المنطقة لهذا الغرض. وإذا كانت هذه إشارات مفهومة الهدف والمغزى، إعلاميا وسياسيا، من جانب إسرائيل، فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي: أولا، إن الاهتمام الإسرائيلي بالسودان الشقيق هو اهتمام يعود إلى عدة عقود، سواء في إطار معاداة مصر ومحاولة التأثير عليها عبر العمل ضد مصالحها في السودان، أو في إطار العمل الإسرائيلي في إفريقيا ومحاولة جذب السودان بعيدا عن الدائرة العربية بأي شكل، خاصة وأن الخرطوم هي التي احتضنت القمة العربية بعد نكسة 1967، قمة اللاءات الثلاثة «لا صلح لا اعتراف لا تفاوض» في ديسمبر 1967. ومن جانب آخر فإن إسرائيل تدرك أهمية وقيمة السودان الاقتصادية والاستراتيجية، ومن هنا عملت وتعمل بإصرار على ضرب وحدة السودان الوطنية منذ بداية المواجهات المسلحة بين شمال السودان وجنوبه في سبعينيات القرن الماضي وساندت جون جارانج زعيم التمرد في جنوب السودان بالسلاح والمستشارين العسكريين، واستمرت في ذلك بعد اغتياله بإسقاط طائرته الهليوكوبتر، وحتى إتمام الانفصال بين جوبا والخرطوم عام 2011، وبعد الاتفاق بين الخرطوم وتل أبيب عام 2020، والذي كان البوابة لرفع اسم السودان من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب، تحسنت العلاقات كثيرا بين تل أبيب وكل من الخرطوم وجوبا. ولكن إسرائيل هي إسرائيل التي تعمل فقط من أجل مصالحها ومطامعها وضرب المصالح العربية بكل السبل الممكنة في الوقت ذاته. ومع عدم إهمال ما تردد حول وجود يد إسرائيلية، ضمن أيد عديدة، لعبت ولا تزال تلعب داخل السودان وما يجري فيه هذه الأيام، خاصة في ظل عدم التكافؤ بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، فإن إعلان إسرائيل استعدادها للوساطة في السودان هو في الواقع مهزلة سياسية وجرأة إسرائيلية محسوبة، فبأي مسوغ، وبأي سند، وعلى أي أساس من الثقة يمكن أن تقوم إسرائيل بدور للوساطة سواء في السودان أو في أية دولة عربية وتحت أية ظروف؟. وإذا كان الاقتراح الإسرائيلي الذي يتسم بالوقاحة قد اختفى سريعا كالفقاعة، حيث لم يجرؤ أي طرف على تبنيه، حتى واشنطن آثرت الابتعاد عنه بعد أن ألمحت إليه في البداية، فإنه يمكن تفسير اقتراح الوساطة الإسرائيلية بأنه محاولة إسرائيلية للتدخل المباشر والعلني أيضا في الشؤون السودانية الداخلية وإيجاد خيوط اتصال ما مع القوى السودانية العسكرية وغيرها إذا أمكن بحجة البحث عن حل للأزمة الراهنة. هذا فضلا عن الترويج لصورة جديدة لإسرائيل في المنطقة، أو على الأقل إيجاد سابقة ما في هذا المجال يمكن لإسرائيل محاولة البناء عليها في المستقبل، كجزء من علاقة جديدة لها تريد إعادة هندستها مع الدول العربية على المدى الطويل وبشكل تدريجي من خلال اتفاقيات إبراهام وتوابعها على حساب الفلسطينيين والمصالح العربية الفردية والجماعية. وفي هذا المقام تحضرني كلمات صدمنا بها أستاذنا المرحوم الدكتور حامد ربيع قبل نحو ستة وخمسين عاما ( بعد عام 1967 ) حول سعي إسرائيل إلى بناء علاقات مع الدول العربية تمكنها من قيادة الأقليات في المنطقة ومحاولة التدخل والعمل لحمايتها وفض الخلافات فيما بينها كسبيل لخدمة مصالحها وترسيخ وجودها في المنطقة ومن سخرية القدر أن تطرح إسرائيل اقتراحها للوساطة بين السودانيين في الظروف الراهنة.
ثانيا، إنه إذا كانت إسرائيل عملت وتعمل على تأجيج الخلافات بين العرب بكل السبل، ولأنها أيضا ليست صديقة للسودان، ولا تخاف عليها إلى حد يدفعها للوساطة، إلا إذا كانت هناك مصلحة ما لها في ذلك، فالمرجح هو أن الاقتراح الإسرائيلي لا يمكن النظر إليه بجدية ولا التعويل عليه على أي نحو، لأن إسرائيل تدرك جيدا أن ذلك أمر بالغ الصعوبة، سواء بالنسبة للسودان أو بالنسبة للدول العربية أو بعضها على الأقل وليس مصادفة أن تحذر مصر أكثر من مرة من أي تدخل خارجي في السودان.
على أية حال فإن حديث وزير خارجية إسرائيل عن الوساطة يفتقر إلى الجدية ويتسم بالخداع أو بمحاولة إحراج كل الأطراف العربية فضلا عن طرح سابقة، ولو نظرية، يمكن أن تخدم إسرائيل ولو بعد عدة سنوات أخرى إذا تطورت العلاقات العربية الإسرائيلية بشكل أكبر وبألاعيب إسرائيلية وضغوط أمريكية وبضعف وتفكك عربي أكبر مما هو عليه الحال الآن. وأمام هذا التطور الخطر في الأوضاع العربية، والتي كشفت عنها المواجهات السودانية والتطلع الإسرائيلي لتعميق وتوسيع التدخل في الشؤون العربية، والذي سيتسع بالضرورة، فإنه من المهم والضروري ليس فقط العمل بإرادة قوية وجدية وبتعاون يضم عدة أطراف عربية فاعلة لإيقاف القتال والتفاوض للتوصل إلى حل يوقف تداعيات ما حدث والأسباب التي تقف وراءه، فضلا عن قطع الطريق بشكل عملي أمام طموحات إسرائيل أو غيرها من القوى الإقليمية للتدخل في السودان لأن ذلك لن يكون في صالح السودان ولا في صالح حاضر ولا مستقبل العرب في النهاية وهذا تحد حقيقي تقع مسؤولية تحمله على عاتق الدول العربية جميعها والمشكلة أن الفشل في ذلك مخيف بالفعل سودانيا وعربيا وإقليميا، فهل نتمكن؟!
د. عبدالحميد الموافي كاتب وصحفي مصري
الاقتراح الفقاعة! على أن المفاجأة الأخرى، أو بمعنى أدق اقتراح «المهزلة أو الفقاعة» هو ما أعلنه وزير خارجية إسرائيل من استعداد إسرائيل للوساطة بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع لوقف القتال والتوصل إلى حل بينهما، وأنه - وزير خارجية إسرائيل - عرض الأمر هاتفيا في اتصاله مع كل من البرهان وحميدتي، كما أنه أجرى اتصالات مع واشنطن ومع عواصم في المنطقة لهذا الغرض. وإذا كانت هذه إشارات مفهومة الهدف والمغزى، إعلاميا وسياسيا، من جانب إسرائيل، فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي: أولا، إن الاهتمام الإسرائيلي بالسودان الشقيق هو اهتمام يعود إلى عدة عقود، سواء في إطار معاداة مصر ومحاولة التأثير عليها عبر العمل ضد مصالحها في السودان، أو في إطار العمل الإسرائيلي في إفريقيا ومحاولة جذب السودان بعيدا عن الدائرة العربية بأي شكل، خاصة وأن الخرطوم هي التي احتضنت القمة العربية بعد نكسة 1967، قمة اللاءات الثلاثة «لا صلح لا اعتراف لا تفاوض» في ديسمبر 1967. ومن جانب آخر فإن إسرائيل تدرك أهمية وقيمة السودان الاقتصادية والاستراتيجية، ومن هنا عملت وتعمل بإصرار على ضرب وحدة السودان الوطنية منذ بداية المواجهات المسلحة بين شمال السودان وجنوبه في سبعينيات القرن الماضي وساندت جون جارانج زعيم التمرد في جنوب السودان بالسلاح والمستشارين العسكريين، واستمرت في ذلك بعد اغتياله بإسقاط طائرته الهليوكوبتر، وحتى إتمام الانفصال بين جوبا والخرطوم عام 2011، وبعد الاتفاق بين الخرطوم وتل أبيب عام 2020، والذي كان البوابة لرفع اسم السودان من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب، تحسنت العلاقات كثيرا بين تل أبيب وكل من الخرطوم وجوبا. ولكن إسرائيل هي إسرائيل التي تعمل فقط من أجل مصالحها ومطامعها وضرب المصالح العربية بكل السبل الممكنة في الوقت ذاته. ومع عدم إهمال ما تردد حول وجود يد إسرائيلية، ضمن أيد عديدة، لعبت ولا تزال تلعب داخل السودان وما يجري فيه هذه الأيام، خاصة في ظل عدم التكافؤ بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، فإن إعلان إسرائيل استعدادها للوساطة في السودان هو في الواقع مهزلة سياسية وجرأة إسرائيلية محسوبة، فبأي مسوغ، وبأي سند، وعلى أي أساس من الثقة يمكن أن تقوم إسرائيل بدور للوساطة سواء في السودان أو في أية دولة عربية وتحت أية ظروف؟. وإذا كان الاقتراح الإسرائيلي الذي يتسم بالوقاحة قد اختفى سريعا كالفقاعة، حيث لم يجرؤ أي طرف على تبنيه، حتى واشنطن آثرت الابتعاد عنه بعد أن ألمحت إليه في البداية، فإنه يمكن تفسير اقتراح الوساطة الإسرائيلية بأنه محاولة إسرائيلية للتدخل المباشر والعلني أيضا في الشؤون السودانية الداخلية وإيجاد خيوط اتصال ما مع القوى السودانية العسكرية وغيرها إذا أمكن بحجة البحث عن حل للأزمة الراهنة. هذا فضلا عن الترويج لصورة جديدة لإسرائيل في المنطقة، أو على الأقل إيجاد سابقة ما في هذا المجال يمكن لإسرائيل محاولة البناء عليها في المستقبل، كجزء من علاقة جديدة لها تريد إعادة هندستها مع الدول العربية على المدى الطويل وبشكل تدريجي من خلال اتفاقيات إبراهام وتوابعها على حساب الفلسطينيين والمصالح العربية الفردية والجماعية. وفي هذا المقام تحضرني كلمات صدمنا بها أستاذنا المرحوم الدكتور حامد ربيع قبل نحو ستة وخمسين عاما ( بعد عام 1967 ) حول سعي إسرائيل إلى بناء علاقات مع الدول العربية تمكنها من قيادة الأقليات في المنطقة ومحاولة التدخل والعمل لحمايتها وفض الخلافات فيما بينها كسبيل لخدمة مصالحها وترسيخ وجودها في المنطقة ومن سخرية القدر أن تطرح إسرائيل اقتراحها للوساطة بين السودانيين في الظروف الراهنة.
ثانيا، إنه إذا كانت إسرائيل عملت وتعمل على تأجيج الخلافات بين العرب بكل السبل، ولأنها أيضا ليست صديقة للسودان، ولا تخاف عليها إلى حد يدفعها للوساطة، إلا إذا كانت هناك مصلحة ما لها في ذلك، فالمرجح هو أن الاقتراح الإسرائيلي لا يمكن النظر إليه بجدية ولا التعويل عليه على أي نحو، لأن إسرائيل تدرك جيدا أن ذلك أمر بالغ الصعوبة، سواء بالنسبة للسودان أو بالنسبة للدول العربية أو بعضها على الأقل وليس مصادفة أن تحذر مصر أكثر من مرة من أي تدخل خارجي في السودان.
على أية حال فإن حديث وزير خارجية إسرائيل عن الوساطة يفتقر إلى الجدية ويتسم بالخداع أو بمحاولة إحراج كل الأطراف العربية فضلا عن طرح سابقة، ولو نظرية، يمكن أن تخدم إسرائيل ولو بعد عدة سنوات أخرى إذا تطورت العلاقات العربية الإسرائيلية بشكل أكبر وبألاعيب إسرائيلية وضغوط أمريكية وبضعف وتفكك عربي أكبر مما هو عليه الحال الآن. وأمام هذا التطور الخطر في الأوضاع العربية، والتي كشفت عنها المواجهات السودانية والتطلع الإسرائيلي لتعميق وتوسيع التدخل في الشؤون العربية، والذي سيتسع بالضرورة، فإنه من المهم والضروري ليس فقط العمل بإرادة قوية وجدية وبتعاون يضم عدة أطراف عربية فاعلة لإيقاف القتال والتفاوض للتوصل إلى حل يوقف تداعيات ما حدث والأسباب التي تقف وراءه، فضلا عن قطع الطريق بشكل عملي أمام طموحات إسرائيل أو غيرها من القوى الإقليمية للتدخل في السودان لأن ذلك لن يكون في صالح السودان ولا في صالح حاضر ولا مستقبل العرب في النهاية وهذا تحد حقيقي تقع مسؤولية تحمله على عاتق الدول العربية جميعها والمشكلة أن الفشل في ذلك مخيف بالفعل سودانيا وعربيا وإقليميا، فهل نتمكن؟!
د. عبدالحميد الموافي كاتب وصحفي مصري