لماذا تتوقف المجلات الثقافية العربية إذا كان سؤال الثقافة وجوهره مستمرا؟ لماذا تتوقف المجلات إذا كان الكُتاب والمفكرون يولدون كل يوم، وحيوية الأسئلة تتكاثر كحقلٍ لا مُتناهٍ؟ لماذا تتوقف المجلات والعالم العربي يمضي إلى القضاء على الأمية، لرفع مستوى القراءة؟ لماذا تتوقف المجلات الثقافية وهي صنو التجدد والتبدل والتقاطع الأبدي مع العلوم والفنون التي تنمو وتزدهر؟ لماذا تتوقف بعد أن تمضي عقودا بين قرائها، وتختزن بذور تدفقها في معارف شتى، فتضمن ألا يكون لها تاريخ انتهاء؟ لكنها وعلى غفلة منا تنتهي!

***

بحسب الدراسات، نستطيع أن نقول بأنّ المجلات الثقافية رافقت التجربة العربية منذ أواخر القرن التاسع عشر، لتقوم بمهمتها التنويرية والمعرفية في المجتمعات، ولكي تتجاوز أوقاتها العصيبة أمام موجات من الردة الظلامية، ولطالما كانت هذه المجلات أرضا خصبة لظهور الكثير من الأسماء من الكتاب والأدباء والمفكرين المؤثرين، إلا أنّ واقعنا اليوم بات يقترح علينا صنوفا أخرى من التأثير!

لذا لم نعد نتعجبُ كثيرا من قراءة خبر عن إغلاق صحيفة أو مجلة، ربما لأننا نُدرك في صميم ذواتنا أنّ ظروفا عدّة في وطننا العربي باتت تهيئ نتيجة حتمية كهذه، ابتداء من الأوضاع الاقتصادية التي تسحق «المجلات» تحت أقدامها الطاحنة كأول قربان في خذلان المرحلة، وليس انتهاء بتراجع الورق أمام إبهار البدائل التقنية الجديدة، أو تراجع القراء وفعل القراءة عموما! ومن يدري ربما تتحكم بالأمر أسباب أبعد من تلك التي نراها ظاهريا، من قبيل تلك النظرة الضيقة والمستخفة بأدوار الثقافة والوعي في صميم المجتمعات!

كل هذه الهواجس نتكهن بها من الواقع المرير الذي عبرت فيه المجلات، وكان آخرها مجلة الدوحة التي قرأنا منذ فترة قصيرة على صفحتها الرسمية على الفيس بوك هذا الخبر: «أعلنت إدارة مجلة الدوحة عن توقف صدورها اعتبارًا من العدد 183 (فبراير 2023) حتى إشعار آخر»، لتلتحق بسابقاتها اللائي ترجلنّ عن صهوة الأدب والفن والتنوير والمعرفة!

***

لطالما بذرت المجلات بذور السجال الأولى، لخلق حالة نقدية تُحرك السطح الساكن لمستنقعات الأفكار التي أرادتها السُلطة المؤدلجة أن تبقى دون مساءلة أو نبش، فالثقافة ليست الشعر والقصص والروايات وإن كانت جزءا أصيلا منها، وإنّما ذلك التدافع الحر للأفكار التي تتماس بحيوية مع يومنا وأفعالنا.

ولعل التقليل من أهمية هذا الدور للمجلات الثقافية هو ما يخلق هذا التحول العبثي، في فهمنا لمن هو «المؤثر»، المؤثر الذي كان بعلمه وأفكاره ورؤاه - اتفقنا معه أو اختلفنا- هو من يصنع الفارق الجوهري في المجتمعات، بينما يتحول المؤثر الآن -دون إفراط في التعميم- لمن زاد مقدار تفاهته وقدرته على تعرية هامش خصوصيته!

***

ثمّة العديد من المجلات التي ولدت وطواها الغيب مما لا يمكن إحصاؤها في مقال قصير كهذا. إلا أنّه لا يمكننا ذكر المجلات الثقافية دون أن نتذكر مجلات من قبيل «الهلال» و«الآداب» و«العربي» و«شعر» و«مواقف» و«الموقف الأدبي» و«فصول» ومجلة «نزوى» و«البحرين» و«الفيصل» وغيرها.. منها ما اختفى ومنها ما يزال يُناضل للبقاء في وجه مستقبل معتم وغامض!

تعدُّ مجلة (الهلال) لجرجي زيدان أول مجلة عربية صدرت عام 1892، بينما مجلة «الرسالة» لأحمد حسن الزيات، بدأت الصدور في عام 1933، ورغم أنّها تمكنت من تقديم جيل من الكتاب والكاتبات من جهة، وانفتحت على كتابات من العالم عبر الترجمة من جهة أخرى، إلا أنها توقفت في عام 1953، وهو للمصادفة البحتة، العام الذي صدرت فيه مجلة (الآداب) في بيروت على يد سهيل إدريس، لكنها هي الأخرى توقفت عن الصدور في عام 2012، وقد كتب إدريس بيانا يصف فيه الظروف المادية الصعبة التي أجبرتهم على التوقف، يرد هذا في كتاب «المجلات الثقافية في العالم العربي» لمؤلفه محمود قاسم، والذي يُعرج أيضا على فكرة مهمة وهي: «انتقال صناعة الصحافة الثقافية من مراكزها الأساسية من القاهرة إلى بيروت ومن ثم إلى الخليج».

***

تُشكل المجلات ذاكرة جمعية للمتغيرات التي تعصف براهننا. الراهن الآن سيغدو ماضيا بعد بُرهة من الزمن بكل الدلالات التي يختزنها. إذ يمكن للمجلات أن تتحول إلى أرشيف حي لتاريخ من الأسئلة والأفكار والسجالات، كما يمكن -لاسيما بإعادة استقرائها- أن تُعطي معنى جديدا للتحولات التي عصفت بالمجتمعات العربية.

يقول الباحث والناقد سعيد يقطين في مقال له بعنوان: «لماذا تتوقف المجلات الثقافية العربية.. وتبقى المجلات الغربية؟»: «ما دمنا لا نرى في المجلات التي تطبع، حقبا من تطور الثقافة العربية ومعالم ومآثر، نعمل على استمرارها، وصيانتها، والحفاظ عليها في حال زوالها، عبر أرشفتها وجعلها حاضرة أبدا، ورقيا ورقميا، فإننا نُعرض ذاكرتنا الثقافية للنسيان والتلاشي، وبدون ربط مستقبلنا بماضينا، نخلق أجيالا لا علاقة لها بالتاريخ والمستقبل!».

ولا أدري حقا إلى أي مدى نجحت الدول العربية في جعل أرشيف مجلاتها القديمة متاحا للباحثين المستعينين بثورة التقنية الحديثة كما يفعل الغرب مع أرشيف مجلاته العريقة! وذلك كجزء من خطة أكبر لربط الأجيال الجديدة من المشتغلين في الثقافة والأبحاث الرصينة بأرشيف حقيقي وممتد وجدير بالفحص.

***

إنّ أكثر الشرور عبثا، هو عزل الثقافة عن المتن العام للمجتمعات، بل جعل الثقافة في منأى عن الحياة اليومية. تنطلق هذه التصورات القاصرة من مبدأ البرج العاجي والنخبوي الذي ينطوي عليه مضمون بعض المجلات الثقافية دون أن تُشرع نافذة صغيرة على الشارع والحياة واليومي، ليُطرح السؤال الأكثر ديمومة: أتنزل الثقافة إلى العامّة أم يصعد العامّة للثقافة!

أظن أنّه ينبغي علينا خلق مواءمة ومصالحة بينهما -الثقافة والحياة- وذلك عبر أن تكون هنالك مجلات «بينية» لا تذهب إلى البساطة التافهة ولا تتزنر بصلابة النخوبية، وإنّما تقع بينهما كخيار وسيط، لتخاطب شريحة عريضة من قراء اليوم.

ورغم أنّه ليس بحوزتنا دراسات مثبتة بالأرقام تؤكد أو تنفي تراجع فعل القراءة! إلا أننا نلحظ ورغم اشتغال الوطن العربي الجاد للقضاء على الأمية، بأنّ فعل القراءة يُعاني. فعل القراءة يُكابد التكلس والتشرنق منذ مقاعد المدرسة وحتى الجامعة وما بعدها، دون أن نُدرك لمن ينبغي أن ترفع سبابة الاتهام!

***

ولو تتبعنا تاريخ المجلات التي أُغلِقت، سنجد أنّ غياب التمويل واحد من أهم الأسباب التي دفعت الدوريات الثقافية إلى التوقف، إذ لا يمكنها أن تستمر مستقلة بذاتها، وبمعزل عن أي دعم مؤسسي، فالمسؤولون في المؤسسات الرسمية يجدون كلفة المجلات باهظة قياسا بمردودها المادي الضئيل، مُتغافلين أو متناسين مردودها المعرفي والتنويري الأبعد من الفوائد الآنية، تلك التي تصب في خزان الوعي العام للمجتمعات وصمّامات أمانها.

والسؤال: إن افترضنا جدلا أنّ الكلفة المادية أو تراجع الحضور الورقي، هما العاملان الأساسيان لانطفاء المجلات، فلماذا لا تتحول إلى مجلات إلكترونية عوض الذهاب الحاد إلى خيار الإغلاق؟!

من الملاحظ بصورة لافتة أنّ هيئات التحرير ورؤسائها، في غالبها الأعم، مكونة من مثقفين مُطلعين، ممن هم على تماس مباشر مع فعل الكتابة والقراءة وعملية النشر، وقد ساهمت هذه الأسماء في تقديم رؤية مغايرة ومحتوى فاعل في بنية الثقافة، فعلى سبيل المثال لا الحصر، ترأس عقلة عرسان تحرير مجلة الموقف الأدبي، وترأس أدونيس تحرير مجلة «مواقف»، وترأس سيف الرحبي مجلة «نزوى» وأسس محمود درويش مجلة «الكرمل»، كما أسس يوسف الخال مجلة «شعر»..إلخ، إذ ليس من اليسير أن يضطلع بهذا الدور من هم خارج هذا السياق وهذا الهم.

لكن هيئات التحرير من النخب المثقفة، ليس بمقدورها في الغالب الأعم أن تحتفظ باستقلالية مجلاتها، الأمر الذي يدفعها عادة لأن تلتحق بمؤسسات حكومية تُهيمن عليها ضمن أطر وشروط قد لا تتناسب مع روحها الوثابة، وهو أحد الأسباب التي تحد من نطاق حريتها بسبب تدخلات رقابية تودي بها أحيانا إلى التهلكة!

وفي حوار أجريته مع الشاعر سيف الرحبي رئيس تحرير مجلة نزوى أشار إلى أن المجلات الثقافية اليوم بحاجة إلى: «المغامرة والمجازفة والتحمل والصبر لأنّ الوعي العام المسؤول ليس بالضرورة أن يكون على تماس مع هذا المستوى من الطرح بل ربما يقمع المساحات المتاحة»، فأدوار المجلات يتجاوز راهنية القراءة والإمتاع، لتصب في نهر الحماية: «من الانزلاقات الخطيرة التي تحيق بكل المجتمعات أمام هذا التدفق القاسي للمعلوماتية ولتسويق الجهل».

***

من المؤكد ديمومة حاجتنا للمجلات الثقافية، لارتباطها بحاجتنا للتفكير والسجال والكتابة. لكن المسألة الآن رهن المؤسسات التي تديرها، إلى أي حد هي مؤمنة بها بوصفها مكونا أساسيا من مكونات حياتنا؟ وإلى أي حد تحفرُ مواضيع المجلات ومضامينها في بنية المجتمعات العربية لتؤسس صوتا جديدا، بمعنى أنها: لا تتكلس عند خطاب مكرور أو معلب، بل تستجيب بمرونة مع معطيات العصر!

ومن جهة أخرى إلى أي مدى تكفل حرية هذا الصوت، والذي نفترض جدلا بأنّه يسمو فوق الأصوات الملوثة بالطائفية والمحتقنة بالأيديولوجيات القاتلة! والمواقف السياسية المريضة؟ إلى أي حد أيضا يمكن أن تواكب المجلات المُتغيرات التي ستقلب العالم رأسا على عقب.

لقد قال غوته بأنّ: «الكائن الذي لا يتحول مصيره الزوال»، فقبل أن نلوم الظروف المحيطة والقراء، علينا أن ننظر بموضوعية في قدرة المجلات على مسايرة قفزة التغيرات التي بدأت بتغيير وجه العالم كل يوم!

هدى حمد كاتبة وروائية عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى