خلال 400 عام، تحولت اللغة الإنجليزية من لغة محدودة تتحدث بها الجزر البريطانية إلى اللغة الأكثر انتشارًا حول العالم. مع نهاية عهد الملكة إليزابيث الأولى (عام 1600)، كان 4 ملايين شخص يتحدثون الإنجليزية. بحلول 2020، ومع نهاية عهد الملكة إليزابيث الثانية، ارتفع هذا العدد ليقترب من مليارين. واليوم، تُعدُّ اللغة الإنجليزية اللغة الأساسية في المملكة المتحدة وأيرلندا والولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا. وهي لغة التواصل المحلية «intra-national» في المستعمرات البريطانية السابقة مثل الهند وسنغافورة وجنوب إفريقيا ونيجيريا. وهي لغة الأرض المشتركة «lingua franca».

يعد البعض اللغة الإنجليزية أعظم هبات بريطانيا للعالم. في مقابلة لها عبر الإنترنت مع ConservativeHome (مدونة يمينية بريطانية تدعم حزب المحافظين ـ المترجمة) في مايو 2022، قالت سويلا برافرمان (Suella Braverman) - وهي تشغل حاليا منصب وزيرة الداخلية البريطانية - إنها فخورة بمنح الإمبراطورية البريطانية مستعمراتها البنية التحتية، الأنظمة القانونية، القطاع المدني، الجيوش، و«أيضا» وأنا أقتبس هنا «اللغة الإنجليزية بالطبع». على الجانب الآخر من الطيف السياسي، ألقى جوردون براون في 2008 -وكان رئيس الوزراء آنذاك- خطابًا ذكَر فيه أنه يريد «من بريطانيا أن تُقدم هدية جديدة للعالم» عبر دعم أي شخص خارج المملكة المتحدة يرغب في تعلم الإنجليزية. في العام نفسه أعلنت The Times عن مقترحات لمتحف جديد مخصص للغة «للاحتفاء بأعظم هدايا إنجلترا للعالم». ومؤخرا، وصف مارك روبسون (Mark Robson) من المجلس الثقافي البريطاني اللغة الإنجليزية بأنها «أعظم هدية من المملكة المتحدة إلى العالم». إن فكرة اللغة الإنجليزية كهدية من بريطانيا إلى الكوكب من الشيوع بحيث تكاد تكون خارج انتباهنا.

لعل الإنجليزية أصبحت لغة عالمية بالفعل، لكنها ليست هدية، ليس برأي الجميع على أي حال. في الواقع، يحمل الكثيرون وجهات نظر معاكسة تمامًا. في مقال نشرته صحيفة The Guardian عام 2018، وصف الصحفي جاكوب ميكانوفسكي (Jacob Mikanowski) اللغة الإنجليزية بأنها «وحش متنمر، سرّاق، وصاخب»، مشيرًا إلى أن هيمنة اللغة الإنجليزية تهدد الثقافات واللغات المحلية. نظرًا للطريقة التي تواصل بها الإنجليزية اجتياح العالم، فإن العديد من اللغات صارت منقرضة أو مهددة بذلك. لا يمتد هذا الأثر للغات الصغيرة نسبيًا مثل الويلزية أو الأيرلندية، بل ويشمل أيضًا لغات أكبر، مثل اليوروبا في نيجيريا، والتي تُضيق عليها الإنجليزية في الأعمال والتجارة والتعليم والإعلام والتكنولوجيا.

لهذا عد كثير من الباحثين في مجال علم اللسانيات الاجتماعية اللغة الإنجليزية لغة قاتلة، بل ووصفوها بأنها وحش من نوع ما، بأنها هيدرا (تلك القاتلة متعددة الرؤوس في الأساطير اليونانية). هؤلاء الذين يُطالعون اللغة الإنجليزية من هذا المنظور يعتبرون أدوارها العالمية شكلا من أشكال الإمبريالية اللغوية؛ أي نظام راسخ في عدم مساواته بين الإنجليزية واللغات الأخرى، التي يتم سحقها تحت عنف القوة الاستعمارية السابقة (بريطانيا)، والقوة العالمية العظمى الحالية (الولايات المتحدة). في دليل أكسفورد للغة الإنجليزية العالمية (2017)، لاحظ عالما اللغويات الاجتماعية روبرت فيليبسون وتوف سكوتناب-كانجاس (Robert Phillipson and Tove Skutnabb-Kangas) كيف أن «المكانة الدولية والقيمة الأداتية للغة الإنجليزية يمكن أن تؤدي إلى احتلال المناطق اللغوية مُضيقة الخناق على اللغات المحلية، ومؤثرة بذلك على الدور الديمقراطي الواسع الذي تلعبه اللغات الوطنية».

يأتي مفهوم الإمبريالية اللغوية بمثابة تذكير بأن الجذر التاريخي لسيادة اللغة الإنجليزية يعود إلى أربعة قرون من هيمنة الإمبراطورية البريطانية. يرزح ضمير اللغة الإنجليزية تحت عبء ثقيل. فقد انتشرت الإنجليزية عبر المكان والزمان -من نهاية القرن السادس عشر حتى نهاية الإمبراطورية في النصف الثاني من القرن العشرين- رفقة التوسع الإمبراطوري، الذي انطوى على استيلاء على الأراضي، إبادات جماعية، عبودية، مجاعات، قهر، نهب واستغلال. يجب أن يكون هذا محوريًا في أي نقاش حول اللغة الإنجليزية كلغة عالمية. ليس لكونه دقيقا من الناحية التاريخية فقط، ولكن أيضًا -على حد تعبير الكاتب النيجيري تشينوا أتشيبي (Chinua Achebe) في عام 1965- لأن «اللغة الإنجليزية جاءت كجزء من صفقة شاملة تضمّنت العديد من البنود الأخرى ذات القيم المشكوك فيها، والفظائع التي لا تقبل الجدل للغطرسة والتحيز العنصري».

إذن، لماذا لا تتصدر اللغة الإنجليزية النقاشات الديكلونيالية(1)؟ في أوائل القرن الحادي والعشرين، تمت مناقشة إبطال الاستعمار (الديكلونيالية) -بشكل أساسي- في سياق المتاحف أو [إعادة مساءلة] الشخصيات التاريخية الشهيرة التي لها صلات واضحة بالإمبراطورية. لكن الانتشار العالمي للغة الإنجليزية هو نتاج إمبريالي مثله مثل المتحف البريطاني، أو تمثال سيسيل رودس(2) الذي يزين إحدى الكليات في جامعة أكسفورد.

ماذا أعني بالضبط بـ إبطال الاستعمار (الديكلونيالية)؟ لا أشير هنا إلى العملية السياسية التي حصلت من خلالها المستعمرات على استقلالها في النصف الثاني من القرن العشرين. إحدى الطرق الرئيسية التي نفهم بها الديكلونيالية -في القرن الحادي والعشرين- هو باعتبارها تحديا لنظام المعرفة الذي تم وضعه أثناء الاستعمار، وفرضه المستعمرون بشكل منهجي لتوفير تبرير أخلاقي للاستعمار نفسه. تمحور هذا التبرير حول مبدأ مركزي: كان المستعمِر متفوقًا على المستعمَر، وبالتالي لم يكن استعماره مُبررا فحسب، بل وواجبا أخلاقيا. بناءً على هذا المبدأ، تم وضع المستعمِر والمستعمَر على طرفي نقيض من طيف الحضارة:

مُستعمِر مستعمَر

حضارة وحشية

دين خرافات

ديمقراطية حكم مطلق

أمم قبائل

أدبيات تقاليد شفوية

لغات لهجات

لم يؤدِ إنهاء الاستعمار السياسي في القرن العشرين -عندما حصلت المستعمرات على الاستقلال- تلقائيًا إلى تبديد نظام المعرفة الذي قام عليه الاستعمار، إن كان في شمال الكرة الأرضية أو جنوبها. ما زال ذلك الإرث وما ينطوي عليه من طرق التفكير، يتخلل الطريقة التي نرى ونفهم بها العالم. لذا فإن الديكلونيالية في القرن الحادي والعشرين معنية بتحقيق الهدف الذي

أسماه الكاتب الكيني نجوجي وا تيونجو (Ngugi wa Thiong’o) في عام 1986 «تحرير العقل من الاستعمار». علينا أولا، إدراك ورفض نظام المعرفة الذي رسخه المستعمر، والذي ما زال باقيا حتى اليوم. ومن ثم، استبداله بآخر أكثر توازنا وتنوعا وتعقيدا وذي صلة محليا بالمجتمعات البشرية، وتفهما لها، وللعلاقات بينها. وأخيرًا، تغيير الممارسات نتيجة لذلك. إنها عملية طويلة وشاقة، أعصى بكثير من مجرد استبدال علم بآخر، أو نشيد وطني بغيره.

ما تشترك فيه اللغة الإنجليزية، والمتحف البريطاني، وسيسيل رودس هو الموروث الاستعماري الإشكالي والجدل الدائر حولها باعتبارها «هدايا» أو «وحوشا». قد توفر برونزيات بنين المعروضة في المتحف البريطاني -والتي تضم أكثر من 900 منحوتة زخرفية من مملكة بنين في جنوب نيجيريا اليوم- فرصة للناس لتقدير الأعمال الفنية التاريخية ولكنها أيضًا دليل ملموس على النهب المنهجي الذي حدث خلال فترة الاستعمار. قد يحتفي تمثال رودس في جامعة أكسفورد بكرم هذا السياسي للمؤسسة البريطانية، ولكنه أيضًا تمثيل بصري مثير للجدل لرجل دولة تصرف وفق اعتقاده الراسخ بأن «البيض» هم «العرق الأعلى» خلال فترة حكم بريطانيا لجنوب أفريقيا.

كانت ولا تزال الأعمال الفنية وتماثيل الشخصيات التاريخية موضوع نقاش ساخن بسبب الإرث الاستعماري الإشكالي الذي تمثله. تتعرض المتاحف لضغوط متزايدة للنظر في إعادة القطع الأثرية إلى أماكنها الأصلية، لا سيما عندما يكون «الاستحواذ» على هذه القطع الأثرية قد حدث بشكل واضح من خلال النهب خلال الحقبة الاستعمارية. وبهذا المعنى، فإن إعادة برونزيات بنين المنهوبة إلى نيجيريا لن يصحح الخطأ فحسب، بل سيكتسب أيضًا أهمية رمزية في عملية مواجهة العقيدة الاستعمارية التي سمحت بسرقتها في المقام الأول. بعبارة أخرى، سيكون هذا عملا من أعمال إبطال الاستعمار. وبالمثل، فإن إزالة تمثال رودس من جامعة أكسفورد -كما يعتقد الكثيرون- ضروري إذا كنا جادين في إعادة التوازن إلى النظرة العالمية التي طالما انحرفت بفعل الاستعمار وإرثه الأيديولوجي الممتد.

بالطبع، ثمة أيضًا مقاومة كبيرة لهذه الفكرة. يميل أولئك الذين يشككون في الديكولونيالية إلى اعتبارها شكلا من أشكال الرقابة. بالنسبة لهم، فإن إبطال الاستعمار من شأنه أن يمحو جميع الصلات بالتجربة الاستعمارية. على سبيل المثال، ردا على إسقاط تمثال تاجر الرقيق إدوارد كولستون (Edward Colston) في بريستول في يونيو 2020، قام بوريس جونسون -رئيس وزراء المملكة المتحدة آنذاك- بمشاركة التغريدة التالية على تويتر: «لا يمكننا الآن محاولة تعديل أو فرض الرقابة على ماضينا». في سياق مماثل، ردا على الاقتراح القائل بضرورة إبطال الأثر الاستعماري لمتحف فيكتوريا وألبرت [أي إعادة الآثار إلى بلدانها الأصلية]، علق تريسترام هانت (Tristram Hunt) -مدير المتحف- في فبراير 2020 أن «أصل الآثار في متحف فيكتوريا وألبرت متضمنة في القصص الإمبراطورية والاستعمارية البريطانية›› ولهذا فإن «إبطال استعمار متحف فيكتوريا وألبرت بطرق عديدة لا معنى له، لأنك لا تستطيع [ببساطة] فعل ذلك».

عند فهمه كشكل من أشكال المحو، تُصبح الديكلونيالية بسهولة مهمة مستحيلة أو حتى غير مرغوبة. لكن المشكلة في هذا التفسير أنه يقلب معنى إبطال الاستعمار رأسا على عقب. كما أوضحت أعلاه، تستلزم الديكولونيالية أولا وقبل كل شيء الانخراط النقدي المعمق مع الماضي الاستعماري، وليس محوه.

ماذا عن اللغة الإنجليزية؟ كيف سيبدو إبطال استعمار اللغة الإنجليزية؟ في هذا الصدد، ثمة رأيان رئيسيان. يعتبر الأول اللغة الإنجليزية نوعًا من «الهدية غير المرغوب فيها» والتي -نظرًا لمكانتها كلغة عالمية- يمكن قبولها -وإن على مضض- عمليًا، طالما أنه يمكن تكييفها وإعادة صياغتها وتطويعها لاتخاذ أشكال مختلفة. ستتحول من لغة إنجليزية في النهاية إلى لغة لامركزية (3) أفريقية وآسيوية. بعبارة أخرى، تتوقف اللغة الإنجليزية عن كونها ملكية حصرية للبريطانيين والأمريكيين، وتصبح مملوكة في أماكن أخرى من العالم.

كثير من الكتاب الأفارقة والآسيويين يؤيدون هذه الفكرة، من أتشيبي في الستينيات، إلى سلمان رشدي في الثمانينيات، وصولًا إلى شيماماندا نغوزي أديتشي مؤخرًا. ومع ذلك، فقد انتُقد هذا الموقف أيضًا لكونه مفرطًا في التفاؤل ولأنه يتسق مع نخبة محدودة ومتمتعة بالامتيازات إلى حد ما، كالروائيين الناطقين بالإنجليزية المشهورين عالميًا. من وجهة النظر هذه -يقول النقاد- فإن حق إعادة تشكيل الإنجليزية باعتبارها لغة لامركزية يبقى امتيازًا لعدد قليل، ويظل بعيدًا عن متناول الكثيرين، الذين ما زالوا يعانون من تآكل لغاتهم وثقافاتهم وهوياتهم.

يتخذ الموقف الثاني نهجا أكثر راديكالية. وفقا لهذا المنظور فإن اللغة الإنجليزية لم تجتح العالم مع التوسع الامبراطوري فحسب، ولكنها تستمر في ذلك، وهذا لا مفر منه، نظرا لطبيعتها الإمبريالية. وهكذا فإن إعادة تشكيل الإنجليزية باعتبارها لغة لامركزية، هو مجرد وهم يعمل على تشتيت الانتباه عن المشاكل الحقيقية. إذ تستمر اللغة الإنجليزية في التأثير على حياة مئات الملايين من الناس، غازية مجتمعاتهم، دافعة باللغات المحلية خارج مجالات التعليم والإعلام والثقافة. وعليه فإن إبطال استعمار اللغة الإنجليزية يستلزم صناعة توازن صحي بينها وبين اللغات المحلية، حيث تزدهر الأخيرة وتستعيد المكانة والأدوار التي فقدتها بسبب الطاغوت الإنجليزي.

بالطبع لا يرى البعض أي علاقة ذات مغزى بين اللغة الإنجليزية والديكلونيالية. وصف جوردون براون في الخطاب نفسه -المذكور أعلاه- اللغة الإنجليزية بأنها: «سبيل الاتصال العالمي والوصول إلى المعرفة»، «وسيلة لمئات الملايين من الناس من جميع البلدان للتواصل مع بعضهم البعض»، «جسر عبر الحدود والثقافات»، و«مصدر الوحدة في عالم سريع التغير». بالنسبة لبراون، فإن اللغة الإنجليزية أبعد ما تكون عن الحاجة إلى إبطال الاستعمار. فهو يُصرح بأن انتشار اللغة الإنجليزية يأتي نتيجة «لمصادفة تاريخية». وبالمثل، وفي أحد إصدارات المجلس الثقافي البريطاني العديدة The English Effect المنشورة في عام (2013)، تم وصف الإنجليزية بأنها شيء «يقود النمو والتنمية الدولية» و«يغير الحياة». الخلاصة، بما أن الإنجليزية هي «هدية» فهي إذا تستحق الاحتفاء لا التشكيك بمكانتها.

هل يجب إبطال استعمار الإنجليزية أم لا؟ للإحاطة بالتفاصيل الدقيقة لهذه القضية، يجدر التفكير في القاسم المشترك للطريقة التي يتحدث بها طرفا النقاش ويتخيلان اللغة الإنجليزية: كلاهما يصف اللغة من خلال الاستعارة: «هبة»، «وحش»، «متنمر»، «جسر»، وغيرها من الأشياء التي لا تُشير للغة بالمعنى الحرفي. وبالفعل، هذا ما تفعله الاستعارة في أبسط مستوياتها: إنها تتحدث عن (س) كما لو كان (ص).

في بعض الأحيان -كما هو الحال في الأمثلة المذكورة أعلاه- تكون الآلية واضحة للغاية. لكن معظم التعبيرات المجازية التي نستخدمها لوصف اللغة تمر دون ملاحظة. هذا لأنها لا تتضمن صيغة واضحة من نوع «س هي ص»، كما في «اللغة الإنجليزية هي طريق النجاح»، كما أنها أيضًا صيغة تقليدية لدرجة أننا لا نميل إلى التفكير فيها على أنها تنطوي على استعارة أو إبداع على الإطلاق. على سبيل المثال، عندما نتحدث عن اللغات، غالبًا ما نستخدم كلمات مثل «الولادة»، «الحياة»، «النمو»، «التطور»، «الموت» - كما لو كانت اللغة كائنًا حيًا. لا يبدو تعبير مثل «اللغة تتطور طوال الوقت» مجازيًا على الفور، حيث لا يتم وصف اللغة صراحةً على أنها شيء آخر. الحديث عن اللغة كما لو كانت كائنًا حيًا هو أمر متعارف عليه لدرجة أنها الطريقة التي عادة ما نفكر فيها باللغة.

إننا نستخدم الاستعارات طوال الوقت، خاصة عند وصف الظواهر المعقدة، واضعين مكانها مفاهيم أبسط، أكثر ألفة، وأقرب للفهم. واللغة -باعتبارها ممارسة اجتماعية معقدة ومدمجة على نحو ملتبس في الثقافة والمجتمع- هي مرشح مثالي ليتم التعبير عنها عبر الاستعارات. لكن الاستعارة ليست مجرد أداة بلاغية تُستخدم لتسهيل الفهم. من خلال التعامل مع شيء ما كما لو كان شيئًا آخر، يمكن أن تكون الاستعارة أداة قوية جدًا لتضمين الأيديولوجيا. حسب «الشيء الآخر» الذي نختاره، يمكننا تطويع الاستعارة للتعبير -بجلاء- عن موقف أيديولوجي معين. وصف اللغة الإنجليزية بأنها «هدية» يصور اللغة على أنها في غاية النفع: وسيلة لتحسين التواصل العالمي وتعزيز آفاق الناس في الحياة. وصفها بأنها «وحش» يصور اللغة على أنها تهديد للتنوع الثقافي واللغوي: سلاح يخدم المصالح الأنجلو-أمريكية الإمبريالية الجديدة.

ومع ذلك، تصبح الأشياء أكثر إثارة للاهتمام عند التعبير عنها عبر الاستعارات، التي متى ما أصبحت مألوفة بما يكفي، صارت أيضا غير ملاحظة. عندما يقول المجلس الثقافي البريطاني أن اللغة الإنجليزية «تقود النمو والتنمية الدولية» و«تغير الحياة»، علينا أن نفكر جيدًا في القواعد والمعنى لتحليل الجوهر المجازي. إن القول بأن اللغة الإنجليزية تقود النمو وتغير الحياة هو التعامل مع اللغة الإنجليزية ككيان قادر بطريقة ما على أداء الأفعال. يتضمن هذا تحولًا نحويًا ودلاليًا، من اعتبار الإنجليزية عنصرا يتم تعلمه وتحدثه واستخدامه من قبل الناس، إلى كونها «فاعلا» يتصرف بالأشياء والأشخاص. لذا حتى وإن خفي المجاز أول الأمر، فإن ما تقوله استعارات من قبيل «اللغة الإنجليزية تغير الحياة» هو أن «اللغة الإنجليزية فاعلة». وبمجرد أن يكون للغة الإنجليزية أهليتها، يمكنها أيضًا التصرف من تلقاء نفسها، بشكل مستقل عن الناس. لهذه الفكرة قوة أيديولوجية.

في «اللغة الإنجليزية كلغة عالمية» (الطبعة الثانية، 2003) -يضم الكتاب أحد أشهر السرديات عن اللغة الإنجليزية كلغة عالمية من قبل أحد أشهر علمائها- يقدم اللغوي البريطاني ديفيد كريستال (David Crystal) مثالًا نموذجيا يوضح القوة الأيديولوجية للاستعارة. نتعلم في كتابه أن «الموضوع المشترك الذي يمكن أن يساعدنا في تفسير النمو الملحوظ لهذه اللغة» هو حقيقة أنها «وجدت نفسها مرارًا وتكرارًا في المكان المناسب في الوقت المناسب». ظاهريًا، قد يبدو تصريح مثل هذا عاديًا، لكنه مليء بالأيديولوجيا. بصرف النظر عن استعارة «الكائن الحي» الواردة في كلمة «النمو»، فإن هذا البيان يعامل اللغة الإنجليزية كما لو كانت مسافرًا صادف وجوده في أماكن معينة في أوقات معينة في رحلته حول العالم. تصور استعارة المسافر أيضًا اللغة الإنجليزية على أنها تمتلك صفات شبيهة بالإنسان بما في ذلك إرادتها الخاصة، مما يشير إلى أن اللغة توسعت في جميع أنحاء العالم بسبب القرارات التي اتخذتها في مراحل مختلفة من «حياتها». وفقا لمنطق هذه الاستعارة، فإن انتشار الإنجليزية يعود إليها، لا إلى الاستعمار. كون اللغة الإنجليزية مسافرًا، يمحو الإمبراطورية. ماذا عن انتشارها؟ إنه مجرد «مصادفة تاريخية» كما قال براون.

إخراج الإمبريالية من المعادلة، يُطهر التوسع العالمي للغة الإنجليزية، وبمجرد حدوث هذا فيمكن التركيز على مدى روعة هذا التوسع، ومدى فائدة وجود اللغة الإنجليزية على مستوى العالم، وما إلى ذلك. بعبارة أخرى، يمكن التحدث عن اللغة الإنجليزية على أنها «هبة» حقيقية للعالم، دون الاضطرار إلى التعامل مع الظروف غير المريحة التي جاءت مع هذه «الهبة». يرى نقاد من أمثال روبرت فيليبسون أن وَصف كريستال للغة الإنجليزية -كلغة عالمية «وجدت نفسها مرارًا وتكرارًا في المكان المناسب في الوقت المناسب»- نابع من «مركزية أوروبية» للنظر في الأمور، وبأنه «مفاخرة بالنصر»، وبأنه قطعا بحاجة إلى معالجة ديكولينيالية.

على الجانب الآخر من الجدال، يتم وصف اللغة الإنجليزية أيضًا من خلال الاستعارات. مثال على ذلك مجموعة من المقالات بعنوان «اللغة الإنجليزية باعتبارها هايدرا» (2012)، تهدف المقالات إلى مناقشة «القوة الهائلة التي تمارسها اللغة الإنجليزية في جميع أنحاء العالم». في هذا المجلد، لا تُوصف اللغة الإنجليزية بأنها «هبة». بدلا من ذلك، يشار إليها باعتبارها لصا، متنمرا، أو وحشا، وما إلى ذلك. نقرأ في مقدمة المحررين (Vaughan Rapatahana و Pauline Bunce) ما يلي:

«أينما ذهبت [الإنجليزية] ومهما بدا ظاهريا أن هذا الانتشار مفيد، فإنها تأخذ معها (عبر خطاباتها، وتراكيبها) مجموعة كاملة من الضوابط، والتوقعات، والمواقف، والمعتقدات المتأصلة، التي غالبًا ما تتعارض مع تلك الخاصة بمن تُفرض عليهم».

وأيضًا:

«تمكنت هيدرا اللغة الإنجليزية اليوم من زيادة نطاقها الجغرافي ليشمل الكوكب بأسره. تكيفت اللغة الإنجليزية مع مجموعة واسعة من البيئات من خلال تطوير رؤوس مختلفة في أماكن مختلفة وأحيانًا رؤوس عدة في نفس المكان. كما طورت علاقاتها التكافلية مع المجتمعات والشركات والحكومات وأنظمة التعليم».

رغم تعاطفي مع هذا الموقف، إلا أني أعتقد أن هذه الطريقة في تصوير اللغة الإنجليزية لا تنصف تمامًا هدف الخطاب الداعي إلى ديكولنيالية اللغة الإنجليزية. فهي لا تزال توصف بأنها كيان قادر على اتخاذ قراراته الخاصة والتحرك بشكل مستقل عن الأشخاص. تُصور الاقتباسات أعلاه الإنجليزية كمسافر وكنوع من الكائنات الأسطورية القادرة بشكل خارق وخفي على التحول في خضم توسعها عبر العالم. تمامًا مثل مسافر كريستال -الذي صادف وجوده في المكان المناسب في الوقت المناسب- فإن هذه التمثيلات تصرف الانتباه بعيدًا عن القضية الأساسية: أي عن النظام العالمي الذي تم تشكيله ولا يزال يتحدد بشدة من خلال 400 عام من الإمبريالية الأوروبية.

تصوير الإنجليزية بأنها هدية، هو تصوير باهر. لكن محاولة مواجهته باستعارات الوحوش تجذب الأصوات الناقدة إلى معركة خطابية وضع فيها خصومهم قواعد الاشتباك. أقصى ما يمكن تحقيقه في مثل هذا الجدل، هو التوصل لخلاصة مفادها أن الواقع معقد. ضمن إطار التفكير هذا، ليست الإنجليزية «سيئة» بالكامل، ولا «جيدة». في غضون ذلك، يظل السيناريو المثالي -حيث تتراجع اللغة الإنجليزية إلى دور أقل هيمنة، وتستعيد اللغات الأخرى أرضها المفقودة- مجرد طموح نظري دون خطة عمل ملموسة وقابلة للتنفيذ.

يجب مقاربة ديكولينالية اللغة الإنجليزية بشكل أكثر راديكالية من خلال تغيير طريقة فهمنا وتعبيرنا عن المسألة. اللغة ليست عنصرا أو شيئًا، مثل قطعة أثرية في متحف أو تمثال في مدينة. وهي بالتأكيد ليست كائنًا ذو قدرة على «فتح الأبواب»، «تغيير الحياة»، أو «قتل» لغات أخرى. إنها -عوضا عن ذلك- جزء لا يتجزأ من الممارسة الاجتماعية ومتشابك معها. جميعنا يستخدم اللغة -وغالبا أكثر من لغة- بينما نمضي في يومنا العادي. لا توجد لغة -بما في ذلك اللغة الإنجليزية- «جيدة» أو «سيئة» بطبيعتها، ولا هي «غنية» أو «قوية» أو «متعجرفة». ليس ثمة لغة «تفعل» أي شيء. إنها لا تتوسع، لا تتكيف، لا تتطور، ولا تهيمن. كل هذه مجرد اختصارات تحجب العلاقات بين الناس واللغة.

إنهم الناس -وليس اللغات- أقوياء، مهددين، جشعين أو أسخياء، وأكثر من ذلك. إنهم الناس -وليس اللغات- من يوسعون نفوذهم، يتكيفون مع المواقف، ويغيرون ممارساتهم (بما في ذلك طرق استخدامهم للغة)، ويسيطرون على الآخرين، ويخضعون من قبل الآخرين، وما إلى ذلك.

إن «هيمنة» اللغة الإنجليزية على العالم وما يصاحبها من فقدان للغات وهويات وثقافات أخرى هي عواقب مباشرة لعدم المساواة الموجودة في العالم، والتي هي نتيجة مباشرة للاستعمار وآثاره طويلة الأمد. «الوحش» الإنجليزي هو عرض من أعراض مرض خطير، وليس سببًا له.

لا ينطوي إبطال استعمار اللغة الإنجليزية على إزالة أو استعادة. بل ينطوي على إعادة تقييم ما تكونه اللغة الإنجليزية -والأهم من ذلك- ما لا يُمكن أن تكونه.

هوامش المترجمة:

1- نترجم (Decolonization) إلى الديكلونيالية لممايزتها عن (Postcolonialism) والتي تُترجم إلى ما بعد الكلونيالية. وهو التعريب الذي اعتمده فريد الزاهي لدى ترجمة كتاب «إفريقيا أفقًا للفكر: في مساءلة الكونية وما بعد الكولونيالية» الصادر (2021) عن دار معنى. أُترجمها أيضا إلى إبطال الاستعمار متى ما دعا تركيب الجملة إلى ذلك. (م)

2- رودس (Cecil Rhodes) هو أحد أكثر الشخصيات الإمبريالية حماسة لمشروع التوسع البريطاني، وقد خدم كرئيس لوزراء مستعمرة الكاب. يُعد وجود تماثيل رودس جدليا (خصوصا في البلدان المستعمرَة)، وتُواجه مطالبات بالإزالة. (م)

3- جاءت في الأصل (de-anglicised) لكن اللامركزية أقرب للفهم. (م)

• ماريو ساراسيني قارئ في اللغة الإنجليزية واللغويات بجامعة بورتسموث في المملكة المتحدة.

نوف السعيدية كاتبة وباحثة عمانية في مجال فلسفة العلوم