تنطلق الحكايات من كونها مفهوما عاما، فيكون كل ما حولنا من أحداث حكاية، الى اعتبارها محصورة ما بين السرد والكتابة، فلا تصبح الحكاية حكاية الا بسرد من الروائي والحكواتي أو من عابر حتى، لنقول بذلك بأن ما يجعل الحكاية حكاية هو كونها تصبح أحداثا مرويّة يمسك بها الروائي فيحتجزها ما بين دفتي كتاب، أو يمسك بها الحكواتي ليصل ما بين خطي البداية والنهاية عبر سلسلة من الأحداث المروية.

تدوّن الحكايات فأصبح لها عوالم وأنواع تتحدّد بحجم كلماتها ونوعية أحداثها، وما إذا كانت أحداثا مفتوحة أم أنها بأقفال النهاية محفوظة، فنقول تلك أسطورة وتلك قصة قصيرة وأخرى رواية عبر تصنيفات يعرفها الكاتب والقارئ جيدا.

الا أن الحكاية بين يدي الحكواتي قد تأخذ مفارقات ممتدّة عن تلك الحكاية المحصورة ما بين الصفحات، فهو حكواتي للحكاية ساردا لأحداثها وفق منظومة قد لا تتماثل مع خط سير الحكاية أو الرواية في داخل الكتاب، فما بين الكاتب والحكواتي هناك تختبئ أحجية أوجد الفروقات.

فالحكاية على لسان الحكواتي يصبح لها صوت ورائحة ومذاق، وتستطيع أن ترى الأحداث على نحو تصوري، بينما هو يسردها لك بحرفيّة وفنّ، بحيث تتّقد فيها الحواس، فيصبح كأن الحكاية قد تم تصويرها بفيلم سنيمائي.

فإذا كانت الحكاية بمدخل محدد الا أن الحكواتي يلتقيك عبر مدخل آخر، وإن كانت الأحداث لها من التشويق والإثارة والخيال أضعاف ما تمتلكه الحبكة من دهشة، وإن كانت الحكاية بمعاني رمزية مختبئة خلف الأحداث وخلف السطور؛ الا أنه يظل يطرق المعنى بسندان التساؤل لينبثق المعنى واضحا جليا، وإن كانت النهاية مفتوحة فهو سيسير معك الى مساراتها اللانهائية، وإن كانت بنهاية مغلقة فإنه لا يتركك الا وقد ارتاحت نفسك للنهاية، فتعرف أنك أخذت حصتك جيدا من تلك الحكاية.

كما أن تلك الروايات والحكايات التي تتضمن خطأ مبطنا أو غموضا يستحيل فكّه مع القراءة السريعة المسترسلة؛ الا أن الراوي يقف عليها ليضيف فوق الغموض غموضا، ويملأها سردا لتنبلج الحقيقة بعدها ساطعة واضحة لا لبس فيها ولا تشويش، فوحده الامتلاء ما يجعلك تفيض بالمعنى.

فإن كان الحكواتي وكما يبدو ظاهريا أنه يختصر الحكايات الطويلة، فتسقط منه إسهابات الوصف والأحداث العابرة والأحاديث المطولة؛ الا أنه يُثقل الحكاية بتلك الأحداث التي تصلك الى طريق النهاية محمّلا بجواهر المعنى والدهشة، فالتماعات الدهشة لا يتجاوزها الحكواتي، فهي كمتفرق طرق يعبر بها من درب الى آخر للوصول الى الهدف، حيث المحطة التي تستريح عليها الحكاية.

وبمقاربات تجاوز المدى فإن الحكواتي يحلّق بالحكاية معك بينما الكاتب يساعدها على الهبوط الآمن على مدرجات الصفحات البيضاء، وإن كان الكاتب قد طعّم روايته بجواهر من دهشة ومعان ومجاز فإن الحكواتي يلبسك حلية الحكاية لتتوّج بها سماء المعنى.

وإن كان الكاتب يستحثّ حواسك لترسم خيالا مصورا في ذهنه فيمتلئ خيالك لتلك الأحداث والشخصيات في الرواية، الا أن الحكواتي يجسدها خيالا أمامك لتمتلئ بالحكاية وحدها، فتصل بذلك الى ما هو أبعد من الفهم العادي الى آفاق جوهرية أكثر عمقا، وإن كان الكاتب يُعلي من شأن شخصيات القصة فيحمّلها أكثر مما تحتمل فإن الحكواتي يُسقطها على الواقع فتتجرّد من ذلك التفخيم ليبقى المر أكثر إقترابا للحقيقة.

وإن كان الكاتب يخبئ المعنى عبر رمزية اللفظ بين سطور الرواية فإن الحكواتي يفتح تلك الصناديق المغلقة واحدا تلو الآخر وبحرفيّة تامة، فيكون بذلك للحكاية حكاية أخرى، ومع الدهشة دهشة خرى، وخلف المعنى معانٍ لا تنتهي.

وفي حين يرى البعض أن على الحكواتي عدم المساس بقدسيّة الحكاية بأحداثها ومضمونها الا أن للحكاية ما أن تبدأ بالسرد على لسان ذلك الحكواتي حتى تتحول الى كائن حي له من المتطلبات ما تحقق له العيش والإستمرارية في الحياة، فتصبح الأحداث في سرد متوال وبحيوية أكبر لا يخلو فيه التشويق وسبك الأحداث من جعلها حكاية مطواعة بين يدي الحكواتي فيحوّلها الى حكاية قابلة للسرد الشفهي.

وبمقاربات تجاوز المدى وتخرج من المألوف فهل سيكون الحكواتي ذات يوم من أركان صناعة الكتب الحكائية بأنواعها، فرحلة طباعة الكتاب ترتحل من الكاتب الى المدقق اللغوي والمراجع الفني والتصميم الداخلي وتصميم الغلاف الى أن يصل الى الطباعة ومن ثم النشر والتوزيع، ولربما هي رحلة تمتد الى ما هو أبعد من ذلك الى أبعد من الكاتب حيث تراكمات الكتب وتنامي الخبرات السابقة والى ما هو يمتد مداه الى أكثر من قراءة الكتاب ووصوله للقراء الى الحد يستمر فيه الأثر ويكتمل مسيره، ويبقى الفرق الجوهري ما بين الكاتب والحكواتي في أن الكاتب كتب الحكاية بناد على خيال مسبق وخبرات متنامية، الا أن الحكواتي يسرد الحكاية باندا على خبرتها المختزلة، فيفجّرها من مكامنها.

هل بات من الضروري أن يكون للحكواتي دور في خط مسار صناعة الكتب الحكائية؟

فمع الحكواتي يكتمل مسار الحكاية بأحداثها، وعلى الكاتب أن يترك زمام الحكاية للحكواتي، فللحكواتي من الفنّيات ما تمكنه من إيصال الحكاية الى مستوى الفهم، الذي يعدّ بر الأمان لكل من القارئ والحكاية ذاتها، فإن كان سرده يتجاوز بعض الإسهاب والإطالات لتدارك تلك الأحداث الفارقة، التي يتوجّب عليه أن يقف قليلا ويبطئ السرد ليستخدم أدواته من التشويق، التي يتقنها كأداة السؤال وصناعة الدهشة والتقليد وتغير نبرة الصوت، أو حتى يصل الأمر الى التفاعل الملحمي الحي مع الأحداث، ليكتمل بذلك مسار الحكاية ويتعدى كونها محصورة ما بين القارئ والكاتب، فيمتهن الحكواتي السرد المخاتل؛ والذي تتكشّف بعده الأحداث على نحو مفاجئ، وينتقل عبر بؤرة السرد الى ما يجعل الحكاية تصل للمستمع، فيحكي الحكواتي بثيمة تقترب من الواقع، فالكاتب يسرد الأحداث تباعا وبطابع تواتري، الا أن الحكواتي يعرف جيدا أين يضعها، ولا يكشف الحكواتي أكثر من الكاتب الا أنه يسهل على المستمع إدراكها، فيخلّص الحكاية من غموضها.

فوزية الفهدية كاتبة وقاصة عمانية