يستمتع بعض الشعراء بترديد عبارة مفادها أن الزمن يجري لصالح الرواية كلما تورطوا في الإجابة عن السؤال حول أزمة الشعر العربي، أو أزمة الشعر المتأزم بـ«حداثته» الحائرة التي -هم مرةً أخرى- أكثر من يستمتع بإعلان انتمائه إليها في وجه «سلفية الوزن ورجعية القافية». لكن الموقف من أزمة الشعر العربي المعاصر (مهما كان هؤلاء الشعراء أنفسهم من بين أهم أسبابها) لا يمكن أن يُبنى اعتماداً على مقارنة فاسدة تضع تطور الرواية العربية منذ منتصف القرن العشرين مقابلاً لتقهقر القصيدة على سلم التطور الفني وفي المواكبة الحيوية لروح العصر وحساسيته الجديدة. فأزمة القصيدة العربية في هذه اللحظة من تاريخها هي في الواقع نتيجة وامتداد لأزمة الفكر العربي التي تلقي بظلالها على فنون اللغة العربية بلا استثناء، بما فيها الرواية نفسها التي تدور هي الأخرى داخل حيرة الحداثة وما بعدها، وإن بدرجة أقل سفوراً بالنظر إلى حيرة الاتجاهات الشعرية. ولكن ما زالت الرواية العربية تتمتع بالقدرة على إخفاء أزماتها عن عيون قرائها، كما تتمتع بالزمن الكافي لمواراة الآثار الجانبية لتلك الأزمات الخفية لكونها جنساً أدبياً جديداً على الأدب العربي، قابلاً للتجريب بلا تحفظات لعدم اعتماده في تطوره على تراث مرجعي طويل وثقيل يمكن مقارنته به. بخلاف الشعر العربي الذي لا يمكن أن نستوعب تحولاته على صعيد الشكل والمضمون دون أن نتلفَّت إلى ماضيه من المعلقات حتى قصيدة النثر. إن فساد هذه المقارنة بين الرواية والقصيدة عائد قبل كل شيء إلى جوهرها الذي يمايز الكتابة الأدبية بين نثر وشعر، ويوجه المسار الزمن إلى سجال يقول: إما الشعر وإما الرواية... والزمن طويل! من جهة أخرى تسعى قصيدة النثر إلى المزواجة بين الخطاب النثري والخطاب الشعري في نص واحد، تجسِّر المسافة بين الضفتين أو تلغيها أحياناً. وهذا ما حدا ببعض نماذج قصيدة النثر لتكون محض محاولات تصالحية بائسة بين الشعر والنثر، في سجال لا معنى له من الأساس، فضلاً عن كونه منطلقاً خائب المسعى لـ «حداثة» مارقة ضلت الطريق إلى الفِكر واستسلمت لهذه المقاربة الفنية الضيقة التي تحصر حداثة الشعر في مدى اقترابه من هوية النثر. إن الأزمة الفكرية التي يعيشها الشعر العربي يوم تبدأ برأيي من سوء فهم قديم تلبَّس بمعنى الحداثة، سوء فهم يعود إلى خمسينات القرن الماضي إلا أنه ما زال يتفاقم بين أجيال من الشعراء العرب الذين ورثوا المصطلحات على علاتها ومارسوا إسقاطاتهم النقدية من خلالها. فهل الحداثة الشعرية معيار أم قناع؟ أهي قيمة فنية أم وهم؟ كم تأخر هذا السؤال كثيراً في المشهد الثقافي العربي!

النقاش حول صور الحداثة الشعرية العربية، بين الشكل والمضمون، هو محور الكتاب النقدي «ثياب الإمبراطور: الشعر ومرايا الحداثة الخادعة» الذي يتعرض فيه الشاعر والناقد العراقي الراحل فوزي كريم لمفهوم الحداثة كصفة تاريخية لمرحلة من مراحل الحضارة الغربية، لا كمعيار فني دليل على تفوق النص، فكل ما نكتبه وننشره من الشعر اليوم حديث بالضرورة لأنه ينتمي إلى عصره الحديث (بالمعنى الزمني). ولكن ما يثير الشفقة حقاً، كما يعبر فوزي كريم، هي التجارب العربية التي لم تتوقف عن محاولة الانتساب إلى هذه الصفة في وقت تتخلف فيه الحياة العربية على المستويين الثقافي والسياسي «ولذلك نسعى جاهدين، كشعراء ونقَّاد، إلى الاعتقاد أن هذا الانتساب يمكن أن يتحقق على مستوى فردي، أو بفعل الموهبة الفردية. وهو اعتقاد لا يخلو من جذر ديني. فالإنسان يمكن أن ينصرف وحده إلى الله، وفي عزلة عن محيطه الفاسد». في الوقت ذاته نتذكر الشاعر الإنجليزي ت. س. إليوت شاعر قصيدة «الأرض اليباب» التي مثلت لعدد من الشعراء الرواد، كالسيَّاب، إشراقة الحداثة الأولى، إلى جانب الدور الذي لعبه إليوت في نقل الشعر الإنجليزي من إيقاعه الكلاسيكي إلى «ظلال الوزن» التي عثر عليها شعراء مجلة شعر في «قصيدة النثر» وطفقوا يبحثون عن جذروها الأولى في القرآن. نتذكر إليوت إذن في سياق حداثة الشعر العربي لنسأل: ألم يكن الشاعر الإنجليزي نفسه يعيش انقساماً حاداً بين حداثة نصه الشعري وخياره الفكري الرجعي وتجربته الروحية المحافظة، ما قاده لإعلان مقولته الشهيرة: «مَلَكي في السياسة، أنجلو ـ كاثوليكي في الدين، كلاسيكي في الأدب»؟!

سالم الرحبي شاعر وكاتب