- 1 -
بالقطع (على الأقل من بالنسبة لي) كانت رحلة مبهجة وممتعة ومليئة بإعادة اكتشاف إبداعات عربية أصيلة تكونت وتشكلت على مدى عشرات السنين والقرون وتنقلت جغرافيا بين بيئات وثقافات عربية متنوعة من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ومن شمال العالم العربي إلى جنوبه.
هكذا وخلال حلقات مرفأ قراءة في رمضان الكريم تتبعنا شيئا من سيرة "السيرة الشعبية" العربية، متخذين من "سيرة الظاهر بيبرس" أو "السيرة الظاهرية" نموذجا ومثالا على عبقرية الإبداع الجمعي العربي، وعلى عبقرية الإبداع والتخييل الشعبي الذي ألف هذه السيرة الكبيرة الضخمة التي لا تقل في حجمها ولا امتدادها ولا ملحميتها عن أروع ملاحم الأدب العالمي في التراث الإنساني كله.
ولقد لفتني أثناء القراءة والبحث في تاريخ السير الشعبية العربية وأصولها بين الأدبي والتاريخي، المرجعي والمتخيل، المشابهة الكبيرة فيما يسميه النقاد "سيرورة تشكل النصوص"، فالسير الشعبية في إنتاجها وتكونها وتشكلها حتى استقرارها في أشكالها وصورها النهائية التي جمعت في مصر وحفظت فيها أشبه ما يكون في هذه الرحلة بتشكل نصنا السردي الأعظم الذي نباهي به الأمم والثقافات الأخرى أقصد "الليالي العربية" (كما ترجمت إلى الثقافات الأوروبية) أو كما نعرفها نحن في الثقافة العربية بـ ألف ليلة وليلة.
يطول الكلام جدًّا جدًّا حول "ألف ليلة وليلة"؛ هذا المنجم القصصي السردي الخيالي المعجز في تاريخ الإنسانية كلها. لم تكن الليالي مجرد نص جمع في عدة مجلدات في آلاف الصفحات واكتشفناه (بعد أن اكتشفه أنطوان جالان في مطالع القرن الثامن عشر، وترجمه إلى الفرنسية، ومنها إلى كل اللغات الأوروبية والأجنبية الأخرى) نحن متأخرا وظل هذا النص يعاني معاناة كبيرة في سبيل تثبيت حضوره وترسيخ قيمته في الثقافة العربية خلال القرون الثلاثة الأخيرة..
- 2 -
ظلت الليالي مهمشة ومنظورا إليها من منظار التحقير والازدراء والتعامل معها على أنها من الأدب المنبوذ والأدب السري، ولم يبدأ إعادة الاعتبار إلى "الليالي" باعتبارها نصا إنسانيا وعالميا وملهما في الوقت ذاته إلا مع أطروحة الأستاذة الرائدة سهير القلماوي عن "ألف ليلة وليلة" والتي تقدمت بها للحصول على درجة الدكتوراه من الجامعة المصرية بإشراف أستاذها العميد الدكتور طه حسين عام 1943.
وأول ما يصافح عين القارئ لأطروحة سهير القلماوي الكتاب الأول منها، وعنوانه «ألف ليلة وليلة في الشرق والغرب»، وهو دراسة رصينة وضافية، تبذل جهدها في الحصر والاستقصاء، في حدود وقتها لعرض وتقديم نسخ ألف ليلة وليلة المطبوعة والمترجمة ما بين كلكتا وبرسلاو والقاهرة وبيروت وباريس وإسطنبول، ويعرض الكتاب لترجمة أنطوان جالان الشهيرة بإضافاتها، وطبعاتها المتعددة، ثم الترجمات التي أخذت عنها إلى الإنجليزية والإيطالية والإسبانية والبرتغالية والرومانية والهولندية والدنماركية والألمانية والسويدية والروسية والبولندية والمجرية، وغيرها من اللغات الأوروبية.
وقد أدى نجاح هذه الترجمات "الوسيطة" عن الفرنسية إلى ترجمات مباشرة أخرى، كما فعل فون هامر وفيل وهانيج وليتمان في الألمانية، وهنري تورنز وإدوارد وليم لين وجون بين وريتشارد بيرتون في الإنجليزية.
وإلى جانب التـرجمـة، يقرأ القارئ في هذا الكتاب، عن دراسات العلماء الألمان والإنجليز والفرنسيين والدانماركيين والأمريكيين عن أصل والليالي، والكيفية التي تركبت بها ومنها، ويقرأ القارئ بعد ذلك عن أبحاث أخرى للموضوعات والتيمات والوظائف، وهناك الدراسات المقارنة التي تصل بين الشعوب والأجناس، ودراسات الموازنة التي تقارن بين ألف ليلة وغيرها من أنواع الأدب العربي وأشكاله.
وينتقل الكتاب إلى الحديث عن أثر «ألف ليلة» في الآداب العالمية والبيئات الأدبية المختلفة، ونشهد طيفًا الألوان من أشكال التأثر الفارسية والتركية والفرنسية والإنجليزية، وتنتقل ما بين فنون الكلمة وفنون اللون والنغمة والحركة.
- 3 -
خلال الفترة من 1943 إلى 2023 (أي حوالي ثمانين سنة) تطورت دراسات الليالي بصورة مذهلة وأصبحت الليالي نصا مركزيا في تراث الإنسانية (شأنها شأن الإلياذة والأدويسا لهوميروس، والإنيادة لفرجيل، والكوميديا الإلهية لدانتي، والفردوس المفقود لميلتون ومسرحيات شكسبير، وغيرها وغيرها.. إلخ) تدور حول هذا النص ما لا نهاية له من الدراسات والبحوث التحليلية والتاريخية والفولكلورية والنقدية والاجتماعية.. لقد صار نصا مفتوحا على ما لا نهاية له من القراءات والتأويلات والتفسيرات.. إلخ.
ومن يراجع الأعداد الخاصة الثلاثة "الممتازة" التي خصصتها مجلة فصول النقدية العريقة في تسعينيات القرن الماضي عن ألف ليلة وليلة يتأكد من الرصد الدقيق الذكي اللماح لرئيس تحريرها آنذاك الناقد الراحل الكبير الدكتور جابر عصفور حينما كشف أن دراسة "ألف ليلة وليلة" في الدوائر الأكاديمية والبحثية، وبعد أن كتبت سهير القلماوي ما كتبته في أطروحتها التي ناقشتها في عام 1943 (كما أشرنا آنفا)، شهدت تطورا مذهلا، و"لقد اتسعت الدائرة الجغرافية للدارسين في الشرق والغرب، واتسعت الدائرة المنهجية لدراسة المصادر والأصول وأشكال التأثر والتأثير".
وتحولت "ألف ليلة وليلة"، مع مرور الوقت والتغير المتدافع للمناهج والإجراءات، إلى مرآة ينعكس عليها التعدد، وتعكس هي لغة الاختلاف والتنوع اللغوي والثقافي واللهجاتي، وما كان يُشار إليه في سطر واحد، أحيانًا، في أطروحة سهير القلماوي، أصبح موضوعا لأطروحة دكتوراه وأكثر. وما كانت تعبر عليه سهير القلماوي عبورًا سريعًا، أصبح منطقة جذب للكثير من الأعين الفاحصة في الشرق والغرب على السواء.
وبعد أن كانت "ألف ليلة وليلة" اكتشافًا غربيا حديثا، بدأه أنطوان جالان -الذي عمل سفيرًا في اسطنبول، وقضى حياته يقتنص التحف الشرقية، إلى أن عثر على "ألف ليلة وليلة"، وتعرف حكاياتها شفاهة على لسان أحد المارونيين من حلب- أقول بعد أن كانت "ألف ليلة وليلة" اكتشافًا غربيًّا حديثًا، بوصفها "طُرفة شرقية"، تحولت إلى فضاء لا نهائي متعدد الأبعاد، يستوعب كل الجنسيات، ابتداء من أصل المولد وانتهاء بروافد التأثير، ويجذب إليه أنظار المتـرجمـين والدارسين والقراء من الباحثين عن المتعة الأدبية في كل لغات العالم.
- 4 -
ولكن ما السر في ذلك كله؟
لم يكن هذا التساؤل تساؤل جابر عصفور وحده أو تساؤل الباحثين والنقاد ومؤرخي الأدب. لا لم يكن هذا التساؤل مقصورا على دارسي الأدب والفولكلور فقط لقد اتسعت الدائرة اتساعا مذهلا وأصبح النص موضوعا حقيقيا وأصيلا لما يمكن أن نطلق عليه "علم ألف ليلة وليلة".
وأتصور -كما حاول الكثيرون إيجاز الإجابة عن التساؤل قبل التفصيل في عشرات بل مئات المقالات والدراسات والكتب- أن هذا السر بالتأكيد ليس سحر الشرق وحده كما تصوره المتخيلون، ليس عالم المحرمات والتابوهات كما كان يبحث عن الخارجون عن الثقافة الرسمية والمفروضة والمؤطرة، ليست الدهاليز الجذابة التي يفتحها الحكي للخيال، ليس الجنس الذي يجتذب المحرومين كما تجتذب النار الفراشات، ليست التحولات والغرائب والعجائب، ليست حكايات الحيوان أو السحر، إن كل ذلك موجود، ومثير، يفتن القلوب والعقول، لكن ما يكمن وراءه أعمق من ذلك كله، كما يتقصى جابر عصفور، إنها رمزية المعرفة وسحرها، المعرفة التي تتحول بها شهرزاد إلى نمط من الأنماط العتيقة المجسدة لحضورها، والتي تتحول شخصيات كثيرة في الليالي إلى تجليات لها.
- 5 -
ما الذي فعلته شهرزاد -إذن-؟ مارست سحر الحكي، واقترفت فعل القص. لكن حكي ماذا؟ والقص عن أي شيء؟ إنها الصورة الأنثوية لبيدبا الحكيم، في "كليلة ودمنة"، بيدبا الفيلسوف الذي نقل، بالمعرفة، دبشليم الطاغية من مستوى الضرورة إلى أفق الحرية الإنساني،
بيدبا الحكيم وشهرزاد الراوية صانعا معرفة، يقودان من يقترب منهما إلى قارات مجهولة من المعرفة اللا محدودة واللا نهائية واللا ثابتة. وكما تتنقل الرحلة معهما عبر صوى التمثيلات والكنايات والاستعارات والمجازات التي تسمى حكايات، ونرى من صنوف البشر والحيوان ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ونشهد من المغزى والمعنى ما يستحق أن يكتب على آماق البصر ليكون عبرة لمن اعتبر ومن لم يعتبر، يتحول القارئ المضمن والمروي عليه، في دنيا الليالي، وينتقل من حال اللا معرفة إلى المعرفة، من الوعي التجريبي الفج إلى الوعي الممكن الواعد، من خشونة الحس وحوشية الرغبات إلى رهافة الشعور وشفافية النزعات...
(وللحديث بقية)
بالقطع (على الأقل من بالنسبة لي) كانت رحلة مبهجة وممتعة ومليئة بإعادة اكتشاف إبداعات عربية أصيلة تكونت وتشكلت على مدى عشرات السنين والقرون وتنقلت جغرافيا بين بيئات وثقافات عربية متنوعة من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ومن شمال العالم العربي إلى جنوبه.
هكذا وخلال حلقات مرفأ قراءة في رمضان الكريم تتبعنا شيئا من سيرة "السيرة الشعبية" العربية، متخذين من "سيرة الظاهر بيبرس" أو "السيرة الظاهرية" نموذجا ومثالا على عبقرية الإبداع الجمعي العربي، وعلى عبقرية الإبداع والتخييل الشعبي الذي ألف هذه السيرة الكبيرة الضخمة التي لا تقل في حجمها ولا امتدادها ولا ملحميتها عن أروع ملاحم الأدب العالمي في التراث الإنساني كله.
ولقد لفتني أثناء القراءة والبحث في تاريخ السير الشعبية العربية وأصولها بين الأدبي والتاريخي، المرجعي والمتخيل، المشابهة الكبيرة فيما يسميه النقاد "سيرورة تشكل النصوص"، فالسير الشعبية في إنتاجها وتكونها وتشكلها حتى استقرارها في أشكالها وصورها النهائية التي جمعت في مصر وحفظت فيها أشبه ما يكون في هذه الرحلة بتشكل نصنا السردي الأعظم الذي نباهي به الأمم والثقافات الأخرى أقصد "الليالي العربية" (كما ترجمت إلى الثقافات الأوروبية) أو كما نعرفها نحن في الثقافة العربية بـ ألف ليلة وليلة.
يطول الكلام جدًّا جدًّا حول "ألف ليلة وليلة"؛ هذا المنجم القصصي السردي الخيالي المعجز في تاريخ الإنسانية كلها. لم تكن الليالي مجرد نص جمع في عدة مجلدات في آلاف الصفحات واكتشفناه (بعد أن اكتشفه أنطوان جالان في مطالع القرن الثامن عشر، وترجمه إلى الفرنسية، ومنها إلى كل اللغات الأوروبية والأجنبية الأخرى) نحن متأخرا وظل هذا النص يعاني معاناة كبيرة في سبيل تثبيت حضوره وترسيخ قيمته في الثقافة العربية خلال القرون الثلاثة الأخيرة..
- 2 -
ظلت الليالي مهمشة ومنظورا إليها من منظار التحقير والازدراء والتعامل معها على أنها من الأدب المنبوذ والأدب السري، ولم يبدأ إعادة الاعتبار إلى "الليالي" باعتبارها نصا إنسانيا وعالميا وملهما في الوقت ذاته إلا مع أطروحة الأستاذة الرائدة سهير القلماوي عن "ألف ليلة وليلة" والتي تقدمت بها للحصول على درجة الدكتوراه من الجامعة المصرية بإشراف أستاذها العميد الدكتور طه حسين عام 1943.
وأول ما يصافح عين القارئ لأطروحة سهير القلماوي الكتاب الأول منها، وعنوانه «ألف ليلة وليلة في الشرق والغرب»، وهو دراسة رصينة وضافية، تبذل جهدها في الحصر والاستقصاء، في حدود وقتها لعرض وتقديم نسخ ألف ليلة وليلة المطبوعة والمترجمة ما بين كلكتا وبرسلاو والقاهرة وبيروت وباريس وإسطنبول، ويعرض الكتاب لترجمة أنطوان جالان الشهيرة بإضافاتها، وطبعاتها المتعددة، ثم الترجمات التي أخذت عنها إلى الإنجليزية والإيطالية والإسبانية والبرتغالية والرومانية والهولندية والدنماركية والألمانية والسويدية والروسية والبولندية والمجرية، وغيرها من اللغات الأوروبية.
وقد أدى نجاح هذه الترجمات "الوسيطة" عن الفرنسية إلى ترجمات مباشرة أخرى، كما فعل فون هامر وفيل وهانيج وليتمان في الألمانية، وهنري تورنز وإدوارد وليم لين وجون بين وريتشارد بيرتون في الإنجليزية.
وإلى جانب التـرجمـة، يقرأ القارئ في هذا الكتاب، عن دراسات العلماء الألمان والإنجليز والفرنسيين والدانماركيين والأمريكيين عن أصل والليالي، والكيفية التي تركبت بها ومنها، ويقرأ القارئ بعد ذلك عن أبحاث أخرى للموضوعات والتيمات والوظائف، وهناك الدراسات المقارنة التي تصل بين الشعوب والأجناس، ودراسات الموازنة التي تقارن بين ألف ليلة وغيرها من أنواع الأدب العربي وأشكاله.
وينتقل الكتاب إلى الحديث عن أثر «ألف ليلة» في الآداب العالمية والبيئات الأدبية المختلفة، ونشهد طيفًا الألوان من أشكال التأثر الفارسية والتركية والفرنسية والإنجليزية، وتنتقل ما بين فنون الكلمة وفنون اللون والنغمة والحركة.
- 3 -
خلال الفترة من 1943 إلى 2023 (أي حوالي ثمانين سنة) تطورت دراسات الليالي بصورة مذهلة وأصبحت الليالي نصا مركزيا في تراث الإنسانية (شأنها شأن الإلياذة والأدويسا لهوميروس، والإنيادة لفرجيل، والكوميديا الإلهية لدانتي، والفردوس المفقود لميلتون ومسرحيات شكسبير، وغيرها وغيرها.. إلخ) تدور حول هذا النص ما لا نهاية له من الدراسات والبحوث التحليلية والتاريخية والفولكلورية والنقدية والاجتماعية.. لقد صار نصا مفتوحا على ما لا نهاية له من القراءات والتأويلات والتفسيرات.. إلخ.
ومن يراجع الأعداد الخاصة الثلاثة "الممتازة" التي خصصتها مجلة فصول النقدية العريقة في تسعينيات القرن الماضي عن ألف ليلة وليلة يتأكد من الرصد الدقيق الذكي اللماح لرئيس تحريرها آنذاك الناقد الراحل الكبير الدكتور جابر عصفور حينما كشف أن دراسة "ألف ليلة وليلة" في الدوائر الأكاديمية والبحثية، وبعد أن كتبت سهير القلماوي ما كتبته في أطروحتها التي ناقشتها في عام 1943 (كما أشرنا آنفا)، شهدت تطورا مذهلا، و"لقد اتسعت الدائرة الجغرافية للدارسين في الشرق والغرب، واتسعت الدائرة المنهجية لدراسة المصادر والأصول وأشكال التأثر والتأثير".
وتحولت "ألف ليلة وليلة"، مع مرور الوقت والتغير المتدافع للمناهج والإجراءات، إلى مرآة ينعكس عليها التعدد، وتعكس هي لغة الاختلاف والتنوع اللغوي والثقافي واللهجاتي، وما كان يُشار إليه في سطر واحد، أحيانًا، في أطروحة سهير القلماوي، أصبح موضوعا لأطروحة دكتوراه وأكثر. وما كانت تعبر عليه سهير القلماوي عبورًا سريعًا، أصبح منطقة جذب للكثير من الأعين الفاحصة في الشرق والغرب على السواء.
وبعد أن كانت "ألف ليلة وليلة" اكتشافًا غربيا حديثا، بدأه أنطوان جالان -الذي عمل سفيرًا في اسطنبول، وقضى حياته يقتنص التحف الشرقية، إلى أن عثر على "ألف ليلة وليلة"، وتعرف حكاياتها شفاهة على لسان أحد المارونيين من حلب- أقول بعد أن كانت "ألف ليلة وليلة" اكتشافًا غربيًّا حديثًا، بوصفها "طُرفة شرقية"، تحولت إلى فضاء لا نهائي متعدد الأبعاد، يستوعب كل الجنسيات، ابتداء من أصل المولد وانتهاء بروافد التأثير، ويجذب إليه أنظار المتـرجمـين والدارسين والقراء من الباحثين عن المتعة الأدبية في كل لغات العالم.
- 4 -
ولكن ما السر في ذلك كله؟
لم يكن هذا التساؤل تساؤل جابر عصفور وحده أو تساؤل الباحثين والنقاد ومؤرخي الأدب. لا لم يكن هذا التساؤل مقصورا على دارسي الأدب والفولكلور فقط لقد اتسعت الدائرة اتساعا مذهلا وأصبح النص موضوعا حقيقيا وأصيلا لما يمكن أن نطلق عليه "علم ألف ليلة وليلة".
وأتصور -كما حاول الكثيرون إيجاز الإجابة عن التساؤل قبل التفصيل في عشرات بل مئات المقالات والدراسات والكتب- أن هذا السر بالتأكيد ليس سحر الشرق وحده كما تصوره المتخيلون، ليس عالم المحرمات والتابوهات كما كان يبحث عن الخارجون عن الثقافة الرسمية والمفروضة والمؤطرة، ليست الدهاليز الجذابة التي يفتحها الحكي للخيال، ليس الجنس الذي يجتذب المحرومين كما تجتذب النار الفراشات، ليست التحولات والغرائب والعجائب، ليست حكايات الحيوان أو السحر، إن كل ذلك موجود، ومثير، يفتن القلوب والعقول، لكن ما يكمن وراءه أعمق من ذلك كله، كما يتقصى جابر عصفور، إنها رمزية المعرفة وسحرها، المعرفة التي تتحول بها شهرزاد إلى نمط من الأنماط العتيقة المجسدة لحضورها، والتي تتحول شخصيات كثيرة في الليالي إلى تجليات لها.
- 5 -
ما الذي فعلته شهرزاد -إذن-؟ مارست سحر الحكي، واقترفت فعل القص. لكن حكي ماذا؟ والقص عن أي شيء؟ إنها الصورة الأنثوية لبيدبا الحكيم، في "كليلة ودمنة"، بيدبا الفيلسوف الذي نقل، بالمعرفة، دبشليم الطاغية من مستوى الضرورة إلى أفق الحرية الإنساني،
بيدبا الحكيم وشهرزاد الراوية صانعا معرفة، يقودان من يقترب منهما إلى قارات مجهولة من المعرفة اللا محدودة واللا نهائية واللا ثابتة. وكما تتنقل الرحلة معهما عبر صوى التمثيلات والكنايات والاستعارات والمجازات التي تسمى حكايات، ونرى من صنوف البشر والحيوان ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ونشهد من المغزى والمعنى ما يستحق أن يكتب على آماق البصر ليكون عبرة لمن اعتبر ومن لم يعتبر، يتحول القارئ المضمن والمروي عليه، في دنيا الليالي، وينتقل من حال اللا معرفة إلى المعرفة، من الوعي التجريبي الفج إلى الوعي الممكن الواعد، من خشونة الحس وحوشية الرغبات إلى رهافة الشعور وشفافية النزعات...
(وللحديث بقية)