عندما كنا صغارا كنا نتزاحم من منا يستند على ركبة والده أمام مائدة الغداء وكان الملك منا من يحالفه الحظ بالجلوس بين الاثنين معا أبي وأمي. هكذا كانت طريقتنا نحن، أما في هذه الرواية الصغيرة فكما ذكر في افتتاحيتها « أنا أكتب لأن أبي كان يقرأ » رغم ترددي أمام عنوان الرواية «قصتي الحقيقية» لخوسيه مياس إلا أن هذه العلاقة بين الابن ووالده تحديدا دفعتني لاختيارها. كان يتوقف الطفل الصغير عن ممارسة طقوسه كطفل من اللعب والصراخ فقط لأن والده يقرأ وقد كان الأب يقرأ طوال حياة هذا الطفل الصغير. ورغم قسوة الأمر بالنسبة لنا إلا أن هذا الطفل اعتبر والده مبجلا لدرجة تمنيه أن يكون صاحب الكتاب الذي يتمعن فيه هذا الأب طوال الوقت.

لم يفكر أن يصبح قارئا كوالده ولا كاتبا معروفا، فقط كاتبا يقرأ له والده بتمعن هكذا ويشيد بكتابته في برنامجه التلفزيوني كما يفعل الآن مع كتاب آخرين.

ورغم أنه لم يقرأ كتابا واحدا قط إلا أنه تأثر ببعض عناوين الكتب في مكتبة والده مثل رواية الأبله التي اعتقد وقتها أنه الأبله في حياته. ورواية الجريمة والعقاب التي أشعرته بالخوف والترقب من أنه سيعاقب على جريمته.

أفكر في الآونة الأخيرة ماذا كنت سأفعل لو تسببت بحادث ما لسيارة أحدهم ولم يكن صاحب السيارة موجودا، هل سأهرب استغلالا للموقف أم سأواجه غضب صاحب السيارة ؟ هل سيصدق أنني لم أقصد فعل ما فعلت بسيارته ؟ في الموقف هذا بطل القصة لم يتسبب بحادث سيارة بل مصيبة أكبر بكثير، أكبر من أن يتحملها شخص بالغ. كان الهرب هو الحل الوارد مع صدمته. هل كان سيسأله أحد إن كان فعلها عمدا ؟ أليست المصائب التي تحدث للمرء دون قصد منه تجعله الضحية الأخرى في الموقف ؟ ينتصر خوسيه مياس بالوصول لقلقنا الدفين إذ إن لا أحد منا يريد ولو في حلم أن يكون المجرم الضحية.

يفر الفتى من مسرح الجريمة ليحملها معه طوال سنوات أخرى دون أن يتمكن من مصارحة أحد بها أو التصالح مع نفسه. والدته التي شك منذ البداية بأنها تعرف المجرم الحقيقي لكنها لا تتكلم مما دفعه ليحاول صياغة شخصيته من جديد ليتمكن من تمويه الحقيقة عنها. طفل يحاول ألا يرفض طلبا كما يفعل عادة جميع الأطفال، جميع أجوبته تبدأ بحاضر، وجه حيادي حتى لا يتمكن أحد من قراءته. محاولة أن يصبح شفافا لا يراه أحد ولا يتوقع منه أحد أي شيء، ليس أكثر من شخص عادي.

من الالتقاطات المثيرة في القصة حين يسرح الفتى وهو جالس على الطعام مع والديه فيعتقد الوالدان بأن ابنهما مصاب بما سماها الأب أزمة غياب. أعجبت الفكرة الفتى الصغير أن يكون مصابا بعلة ما تجعل الوالدين مهمومين مما دفعه للادعاء بها عدة مرات أخرى. سبب آخر يجعله دون فائدة، شخص معطوب لا يمكن أن يفعل شيئا لافتا مثل حادثة كبيرة كفعلته.

تسير الرواية بدهشات صغيرة متواصلة لا يمكنك توقعها حتى تلك اللحظة التي ينفجر فيها هذا الطفل الصغير ويقرر مصارحة والدته بما فعل.

«لكل منا أسراره» هذا ما ردت عليه والدته قبل أن يتكلم حتى. اتفاق ضمني على ألا نواجه الحقيقة حتى لو كنا ندركها جيدا. حتى الأم لا تستطيع أن تسمع وقع هذه الحقيقة. يتشارك الاثنان خوفا ما من الجريمة ويحملانها معا حتى لو لم يصرحا بها لبعضهما، هما الاثنان دفعهما الحمل الثقيل لتدمير حياتهما.

حين تخطئ في حق أحدهم عادة يدفعك تأنيب الضمير بأن تتعامل معه بطيبة أكبر أو تقدم له خدمة لكن إذا كان هذا الذنب هو قتل الحياة في شخص ما وانتزاع عائلته منه ماذا ستفعل؟

كيف يمكن للشعور بالذنب أن يشعرك بالحب تجاه ضحيتك وأن ترى جميع تشوهاتها التي تسببت بها بنفسك جمالا أخاذا. ثم ما يحدث لهذا الحب حين تنكشف الحقيقة وكأن هذا السر جهاز تحكم عن بعد يحول الفتى لشخص آخر ويدفعه للادعاء بالعلة ثم يدخله في حب غير طبيعي ويخرجه منه متى شاء.

تسير الرواية بخطى متسارعة لن تلتقط أنفاسك إلا وتجد نفسك في الخاتمة.

«اكتشفت أن أبي بدأ يحبني منذ رآني كابن خيالي، على عكس أمي تماما، التي حلمت دوما أن أكون ابنا واقعيا» حيث كان الابن مأخوذا بوالده الذي لم يعره أي اهتمام طوال حياته ها هو يحقق ما تمناه منذ كان طفلا، يحاول الجلوس على كرسي القراءة الخاص بوالده ممسكا بأحد كتبه بالمقلوب.

تبدو القصة طبيعية جدا حين تغوص بعمق فيها، ربما تغرق دون أن تنتبه لأن الذنب سيصبح ذنبك والقصة الحقيقية هي قصتك لو لم يحالفك الحظ هذه المرة.