كتب سترندبرج هذا التصدير في مسرحية الآنسة جوليا:
«إن شخصياتي هي كيانات تلتقي فيها شقاقات الماضي والحاضر، اسكتشات من الصحف والكتب، قطع صغيرة من الإنسانية، قصاصات ممزقة من ثوب كان ذات يوم فخما، وأصبح أسمالا بالية، بالطريقة نفسها التي تتشكّل بها الروح الإنسانية»
نظريًا بين الشخصية الدرامية والفكرة أو العقدة اتصال كبير وعميق بدأ منذ الإغريق إلى صموئيل بيكيت. ولأهميتهما يطرح المُدَربون السؤال التالي على المتدربين: أيهما يبدأ التفكير أولا عندما تقرر أن تكتب مسرحية مثلا، الفكرة أم الشخصية التي ستدور حولها الفكرة؟
وفي سياق مسلسلات رمضان وعروض ما تقدمه المنصات من أعمال درامية 2023م يتجدد السؤال بعد المشاهدة والمناقشة وإبداء الآراء والانطباعات والتعليقات على وسائط التواصل الافتراضي: يا تُرى مَن الذي خطر في ذهن المؤلفين (محمد سامي ومهاب طارق) أولا، شخصية جعفر العُمدة التي يقدمها الممثل محمد رمضان أم فكرة الصراع الدائر حول الرجل المتزوج من أربع نساء بحثا عن ولد يأتي من صُلبه؟ وفي السياق نفسه مَن جاء أولا هل شخصية (حنان أم فرح وياسين) في مسلسل (تحت الوصاية) أم فكرة قانون الأسرة الذي ينظم حَياة الأرملة وأولادها مع وكلاء الوصاية على حياتها وأبنائها بعد وفاة الزوج وتسلّط أهله؟ وعطفا على ذلك، هل تبلور الصراع الفقهي والجدل الفكري الديني في ذهن المؤلف نزولا على ما يجري في عالمنا وواقعنا العربي المعاصر من معارك حول فهم الإسلام والتطبيق السليم له فسعى القائمون في مسلسل (رسالة الإمام) إلى اختيار شخصية الإمام الشافعي على وجه التحديد؟ ومن ناحية أخرى ماذا عن الفكرة الدرامية في مسلسل (الهرشة السابعة) هل تبلور أولا في ذهن مؤلفات ورشة سرد بقيادة السيناريست مريم نعوم مناقشة أوجه الحياة الزوجية المختلفة في المُطلق، أم سبقت شخصية (نادين) بمكوناتها النفسية والاجتماعية؟ وأيهما لمع أولا في (منزل 12) تقديم فكرة ملغزة في حياة أسرة تقليدية أم أن الشخصيّة لمعت أولا في ذهن السيناريو تمشي على الأرض، ثم جاء اختيار الفكرة والصراع؟
الأسئلة سوف تتوالى بما أننا نتحدث عن الشخصية والفكرة. من ذلك مثلا هل تتجه معالجة السيناريو الدرامية إلى تناول الفكرة ضمن الواقعية الشديدة أم الرومانسية الكاذبة؟ هل يبحث المؤلفون وكتّاب السيناريو عن لحظات الانهيار في الشخصية ومرجعياتها في الماضي أم عليهم تقديم خطاطة جاهزة بالعلاج والتشافي في الحاضر؟ هل يجب أن يضع المؤلفون شخصياتهم بالعيش على الحافة والتطرّف في كل أمر يتعلق بقراراتهم ومصائرهم مع مَن حولهم أم يتم وضعهم فوق القمة وبعيدًا عن الناس؟ وإذا ما انتقلنا مع الشخصية إلى الممثلين الذين سيقوم على عاتقهم إيصال الشخصية المكتوبة إلى المتلقين، فما الذي سيبقى منها في ذاكرتنا؟ وفي سياق عمل الممثل، هل يذكر الممثلون بعض أساسيات فن التمثيل (العقل، والجسد، والصوت، والملاحظة والخيال، والتركيز، وإيجاد الدور والإخلاص له) فلماذا يفشل بعض الممثلين في تقديم شخصية درامية مقنعة؟ لماذا ينتابنا أن الممثل لم يتعب في قراءة السيناريو، ولم يهتم بتخليق الخيال، ولا استثمار ذاكرته الانفعالية؟ ولا يُمكن في جميع الأحوال إيقاع اللوم على المُخرج وحده، أو الممثل بمفرده؛ لأن الحديث عن وجود قوة أو ضعف في بناء الشخصية الدرامية ( في المسرح والتلفزيون والسينما والمنصّات) إنما يبدأ من السيناريو وينتهي معه.
تاريخيا في كتاب فن الشعر أهتم أرسطو بالحبكة اهتماما كبيرا فقدمها على الشخصية = الأخلاق من خلال تعريفه للتراجيديا: «التراجيديا محاكاة ليس للأشخاص وإنما للأفعال والحياة، للسعادة والتعاسة، إن السعادة والتعاسة محكومان بالفعل». ومع تطور المعرفة بالعلوم الإنسانية وتنوع الثقافات ازداد الاهتمام بموضوع الشخصّية الدرامية ودراستها دراسات بنيوية وسيميائية.
إن أبعاد الشخصية الدرامية الثابتة؛ البعد الجسماني، والبعد الاجتماعي، والبعد النفسي ليست وحدها مَن تبني أو تكوّن الشخصية الدرامية التي نستدعيها ونستشهد بها عند الحاجة، وعلى السيناريو ألا يظل يبني العلاقات ما بين الشخصيات والممثلين بالاستناد إلى تلك الأبعاد فقط. من هنا يبدأ عمل الممثل على الدور الذي سيلعبه، بحيث يعمل على ابتكار أو اكتشاف أو استنباط الشيء الذي لا نعرفه. ألا نتساءل لماذا لا ننسى شخصية أوفيليا وهاملت لشكسبير، أو راسكولينكوف لدستويفسكي، أو أحمد عبدالجواد لنجيب محفوظ؟ ما سر بقائها في داخلنا بدرجات مختلفة؟
والشخصية الدرامية بهذا المعنى ليست هي البطل بالمفهوم الكلاسيكي، إنها مكون ذَّري. يكتب الناقد أحمد بلخيري (دراسات في المسرح، ط1، 2001م، ص119) في ثنايا تحليله للشخصيات المسرحية ما يلي: «إن الشخصية المسرحية مثل الذرة. والسبب في ذلك هو أن الشخصية المسرحية مثل تلك مرّكبة من وحدات صغيرة جدا، ومثلها لأنها تدخل في تركيب مع باقي العناصر». ويُمكن عند هذه الوضعية أن يعزى إلى السيميائية تتبع تمظهر تلك الوحدات الصغيرة في بنيّة النص، فليس الهدف من تقمص الممثل للدور تزويدنا كمتلقين بالأخبار المعلوماتية عن الشخصية، بل الأمر أبعد من ذلك؛ يتمثّل في إدخال المعلومات لبناء شخصية درامية قريبة من مشاعرنا وحياتنا الداخلية، ويتحقق هذا من خلال لغة للسيناريو تستطيع استيعاب الأبعاد الثلاثة معا، دون التضحية ببعد على حساب الآخر. وعندئذ ستكون مهمة المُمثل هي القيام ببحث أو عصف ذهني حول الوسائل أو المرجعيات أو الأسلوب أو مرادفات اللغة الأقرب لتطوير الشخصية الدرامية التي سيلعبها.
وللضرورة، فليست هذه مقالة حول وظيفة الممثل أو التمثيل، فالعارفون بالمسرح والدراما والفن يعرفونها جيدا ويقدرون على تحسس مفاصلها. لقد أوشكت المسلسلات على الانتهاء، والنتيجة النهائية ستسير في أحد اتجاهين، الأول الاحتفال بأيام عيد الفطر المبارك وتخصيص أوقات لمتابعة المسلسلات التي تستحق إعادة مشاهدتها. والثاني سيقتصر على مشاهدة مسلسل جديد. لكن السؤال الذي دفعني إلى كتابة هذا المقال نقاش في العائلة حول أيهما يأتي أولا: فكرة المسلسل أم الشخصية؟ وكان المسلسل الذي استدعى السؤال هو شخصية (جعفر العمدة) التي يجسدها الممثل الموهوب (محمد رمضان) وما يُحيط حولها من أحداث وعقد رئيسة أو ثانوية. لقد تابعت على وسائط التواصل الافتراضي الخلط الكبير للآراء التي رفعت من كفة مشاهدة هذا المسلسل. هناك من رأى أنه يُعيد إلى ذاكرتنا أياما من ليالي الحلمية، وآخرون قارنوا بين شخصية العمدة المُعدد في الزوجات مع شخصية الحاج متولي التي قدمها الفنان الراحل (نور الشريف)، وهناك من رأى أن المسلسل يُعيد الاحترام لقيم الأسرة والعائلة وتجلى ذلك من خلال بعض المشاهد المؤثرة ما بين الأخوة، بينما بحث غير هؤلاء في شخصية العُمدة عن قيم البطولة والثراء وفضائل الأخلاق الرفيعة.
تُعد الدراما مولّدا بديعًا لأنماط مبتكرة أو تقليدية للشخصيات التي تصير مع الزمن نماذجَ تُستدعى ويقاس عليها، ولا يمكن أن يُبنى ذلك النموذج إلا باعتناء السيناريو بجوانب المعرفة الإنسانية الأكثر تعقيدًا. فخيوط الدراما الرفيعة لا تعني إظهار شخصيات النخبة السياسية أو الثقافية أو الاجتماعية في مجتمع ما، أو حقبة تاريخية معينة، وليست هي الدراما التي تسير باتجاه عوالم ما بعد الحداثة وما وراءها؛ إنها دراما مكوّنة من خيوط رفيعة جدًا، منسوجة بعناية كبيرة، بحيث إذا قُطع خيط منها في الفكرة أو أبعاد الشخصية، قُطعت الخيوط المتبقية. والناظر إلى شخصية جعفر العُمدة سيجدها تقليدية من حيث البناء، لكنها استطاعت أن تستحوذ على عاطفة المتلقين لارتكازها على تصدير بعض القيم التي غابت أو تراجعت في حياتنا، في حين نجد شخصية «شريف» التي أداها الممثل (علي قاسم) في مسلسل الهرشة السابعة، غير تقليدية ومبتكرة في معالجتها الدرامية.
لقد أضيف إلى أبعاد الشخصية الثابتة بعدا آخر، يُمكن تسميته مؤقتا بالبعد الدائري، حيث تتداخل جميع الأبعاد لتدور فيما بينها حتى توّلد ما يشبه الاكتمال. فهي شخصية ذات بنيّة نصيّة خاصة، لا يُهدف منها تقديم نمط جاهز للمتلقين، بل السعي لبناء جسور من التواصل الكلامي، الذي قد يكون متعسرا في البداية على الفهم والاستيعاب، لكنه مع مرور الوقت، يبدأ يكشف عن البنيات الصغيرة المرّكبة في أعماقه الغائرة.
«إن شخصياتي هي كيانات تلتقي فيها شقاقات الماضي والحاضر، اسكتشات من الصحف والكتب، قطع صغيرة من الإنسانية، قصاصات ممزقة من ثوب كان ذات يوم فخما، وأصبح أسمالا بالية، بالطريقة نفسها التي تتشكّل بها الروح الإنسانية»
نظريًا بين الشخصية الدرامية والفكرة أو العقدة اتصال كبير وعميق بدأ منذ الإغريق إلى صموئيل بيكيت. ولأهميتهما يطرح المُدَربون السؤال التالي على المتدربين: أيهما يبدأ التفكير أولا عندما تقرر أن تكتب مسرحية مثلا، الفكرة أم الشخصية التي ستدور حولها الفكرة؟
وفي سياق مسلسلات رمضان وعروض ما تقدمه المنصات من أعمال درامية 2023م يتجدد السؤال بعد المشاهدة والمناقشة وإبداء الآراء والانطباعات والتعليقات على وسائط التواصل الافتراضي: يا تُرى مَن الذي خطر في ذهن المؤلفين (محمد سامي ومهاب طارق) أولا، شخصية جعفر العُمدة التي يقدمها الممثل محمد رمضان أم فكرة الصراع الدائر حول الرجل المتزوج من أربع نساء بحثا عن ولد يأتي من صُلبه؟ وفي السياق نفسه مَن جاء أولا هل شخصية (حنان أم فرح وياسين) في مسلسل (تحت الوصاية) أم فكرة قانون الأسرة الذي ينظم حَياة الأرملة وأولادها مع وكلاء الوصاية على حياتها وأبنائها بعد وفاة الزوج وتسلّط أهله؟ وعطفا على ذلك، هل تبلور الصراع الفقهي والجدل الفكري الديني في ذهن المؤلف نزولا على ما يجري في عالمنا وواقعنا العربي المعاصر من معارك حول فهم الإسلام والتطبيق السليم له فسعى القائمون في مسلسل (رسالة الإمام) إلى اختيار شخصية الإمام الشافعي على وجه التحديد؟ ومن ناحية أخرى ماذا عن الفكرة الدرامية في مسلسل (الهرشة السابعة) هل تبلور أولا في ذهن مؤلفات ورشة سرد بقيادة السيناريست مريم نعوم مناقشة أوجه الحياة الزوجية المختلفة في المُطلق، أم سبقت شخصية (نادين) بمكوناتها النفسية والاجتماعية؟ وأيهما لمع أولا في (منزل 12) تقديم فكرة ملغزة في حياة أسرة تقليدية أم أن الشخصيّة لمعت أولا في ذهن السيناريو تمشي على الأرض، ثم جاء اختيار الفكرة والصراع؟
الأسئلة سوف تتوالى بما أننا نتحدث عن الشخصية والفكرة. من ذلك مثلا هل تتجه معالجة السيناريو الدرامية إلى تناول الفكرة ضمن الواقعية الشديدة أم الرومانسية الكاذبة؟ هل يبحث المؤلفون وكتّاب السيناريو عن لحظات الانهيار في الشخصية ومرجعياتها في الماضي أم عليهم تقديم خطاطة جاهزة بالعلاج والتشافي في الحاضر؟ هل يجب أن يضع المؤلفون شخصياتهم بالعيش على الحافة والتطرّف في كل أمر يتعلق بقراراتهم ومصائرهم مع مَن حولهم أم يتم وضعهم فوق القمة وبعيدًا عن الناس؟ وإذا ما انتقلنا مع الشخصية إلى الممثلين الذين سيقوم على عاتقهم إيصال الشخصية المكتوبة إلى المتلقين، فما الذي سيبقى منها في ذاكرتنا؟ وفي سياق عمل الممثل، هل يذكر الممثلون بعض أساسيات فن التمثيل (العقل، والجسد، والصوت، والملاحظة والخيال، والتركيز، وإيجاد الدور والإخلاص له) فلماذا يفشل بعض الممثلين في تقديم شخصية درامية مقنعة؟ لماذا ينتابنا أن الممثل لم يتعب في قراءة السيناريو، ولم يهتم بتخليق الخيال، ولا استثمار ذاكرته الانفعالية؟ ولا يُمكن في جميع الأحوال إيقاع اللوم على المُخرج وحده، أو الممثل بمفرده؛ لأن الحديث عن وجود قوة أو ضعف في بناء الشخصية الدرامية ( في المسرح والتلفزيون والسينما والمنصّات) إنما يبدأ من السيناريو وينتهي معه.
تاريخيا في كتاب فن الشعر أهتم أرسطو بالحبكة اهتماما كبيرا فقدمها على الشخصية = الأخلاق من خلال تعريفه للتراجيديا: «التراجيديا محاكاة ليس للأشخاص وإنما للأفعال والحياة، للسعادة والتعاسة، إن السعادة والتعاسة محكومان بالفعل». ومع تطور المعرفة بالعلوم الإنسانية وتنوع الثقافات ازداد الاهتمام بموضوع الشخصّية الدرامية ودراستها دراسات بنيوية وسيميائية.
إن أبعاد الشخصية الدرامية الثابتة؛ البعد الجسماني، والبعد الاجتماعي، والبعد النفسي ليست وحدها مَن تبني أو تكوّن الشخصية الدرامية التي نستدعيها ونستشهد بها عند الحاجة، وعلى السيناريو ألا يظل يبني العلاقات ما بين الشخصيات والممثلين بالاستناد إلى تلك الأبعاد فقط. من هنا يبدأ عمل الممثل على الدور الذي سيلعبه، بحيث يعمل على ابتكار أو اكتشاف أو استنباط الشيء الذي لا نعرفه. ألا نتساءل لماذا لا ننسى شخصية أوفيليا وهاملت لشكسبير، أو راسكولينكوف لدستويفسكي، أو أحمد عبدالجواد لنجيب محفوظ؟ ما سر بقائها في داخلنا بدرجات مختلفة؟
والشخصية الدرامية بهذا المعنى ليست هي البطل بالمفهوم الكلاسيكي، إنها مكون ذَّري. يكتب الناقد أحمد بلخيري (دراسات في المسرح، ط1، 2001م، ص119) في ثنايا تحليله للشخصيات المسرحية ما يلي: «إن الشخصية المسرحية مثل الذرة. والسبب في ذلك هو أن الشخصية المسرحية مثل تلك مرّكبة من وحدات صغيرة جدا، ومثلها لأنها تدخل في تركيب مع باقي العناصر». ويُمكن عند هذه الوضعية أن يعزى إلى السيميائية تتبع تمظهر تلك الوحدات الصغيرة في بنيّة النص، فليس الهدف من تقمص الممثل للدور تزويدنا كمتلقين بالأخبار المعلوماتية عن الشخصية، بل الأمر أبعد من ذلك؛ يتمثّل في إدخال المعلومات لبناء شخصية درامية قريبة من مشاعرنا وحياتنا الداخلية، ويتحقق هذا من خلال لغة للسيناريو تستطيع استيعاب الأبعاد الثلاثة معا، دون التضحية ببعد على حساب الآخر. وعندئذ ستكون مهمة المُمثل هي القيام ببحث أو عصف ذهني حول الوسائل أو المرجعيات أو الأسلوب أو مرادفات اللغة الأقرب لتطوير الشخصية الدرامية التي سيلعبها.
وللضرورة، فليست هذه مقالة حول وظيفة الممثل أو التمثيل، فالعارفون بالمسرح والدراما والفن يعرفونها جيدا ويقدرون على تحسس مفاصلها. لقد أوشكت المسلسلات على الانتهاء، والنتيجة النهائية ستسير في أحد اتجاهين، الأول الاحتفال بأيام عيد الفطر المبارك وتخصيص أوقات لمتابعة المسلسلات التي تستحق إعادة مشاهدتها. والثاني سيقتصر على مشاهدة مسلسل جديد. لكن السؤال الذي دفعني إلى كتابة هذا المقال نقاش في العائلة حول أيهما يأتي أولا: فكرة المسلسل أم الشخصية؟ وكان المسلسل الذي استدعى السؤال هو شخصية (جعفر العمدة) التي يجسدها الممثل الموهوب (محمد رمضان) وما يُحيط حولها من أحداث وعقد رئيسة أو ثانوية. لقد تابعت على وسائط التواصل الافتراضي الخلط الكبير للآراء التي رفعت من كفة مشاهدة هذا المسلسل. هناك من رأى أنه يُعيد إلى ذاكرتنا أياما من ليالي الحلمية، وآخرون قارنوا بين شخصية العمدة المُعدد في الزوجات مع شخصية الحاج متولي التي قدمها الفنان الراحل (نور الشريف)، وهناك من رأى أن المسلسل يُعيد الاحترام لقيم الأسرة والعائلة وتجلى ذلك من خلال بعض المشاهد المؤثرة ما بين الأخوة، بينما بحث غير هؤلاء في شخصية العُمدة عن قيم البطولة والثراء وفضائل الأخلاق الرفيعة.
تُعد الدراما مولّدا بديعًا لأنماط مبتكرة أو تقليدية للشخصيات التي تصير مع الزمن نماذجَ تُستدعى ويقاس عليها، ولا يمكن أن يُبنى ذلك النموذج إلا باعتناء السيناريو بجوانب المعرفة الإنسانية الأكثر تعقيدًا. فخيوط الدراما الرفيعة لا تعني إظهار شخصيات النخبة السياسية أو الثقافية أو الاجتماعية في مجتمع ما، أو حقبة تاريخية معينة، وليست هي الدراما التي تسير باتجاه عوالم ما بعد الحداثة وما وراءها؛ إنها دراما مكوّنة من خيوط رفيعة جدًا، منسوجة بعناية كبيرة، بحيث إذا قُطع خيط منها في الفكرة أو أبعاد الشخصية، قُطعت الخيوط المتبقية. والناظر إلى شخصية جعفر العُمدة سيجدها تقليدية من حيث البناء، لكنها استطاعت أن تستحوذ على عاطفة المتلقين لارتكازها على تصدير بعض القيم التي غابت أو تراجعت في حياتنا، في حين نجد شخصية «شريف» التي أداها الممثل (علي قاسم) في مسلسل الهرشة السابعة، غير تقليدية ومبتكرة في معالجتها الدرامية.
لقد أضيف إلى أبعاد الشخصية الثابتة بعدا آخر، يُمكن تسميته مؤقتا بالبعد الدائري، حيث تتداخل جميع الأبعاد لتدور فيما بينها حتى توّلد ما يشبه الاكتمال. فهي شخصية ذات بنيّة نصيّة خاصة، لا يُهدف منها تقديم نمط جاهز للمتلقين، بل السعي لبناء جسور من التواصل الكلامي، الذي قد يكون متعسرا في البداية على الفهم والاستيعاب، لكنه مع مرور الوقت، يبدأ يكشف عن البنيات الصغيرة المرّكبة في أعماقه الغائرة.