حين كبر شأن الكتابة جوهرا للتأثير والتأثر- سواء من الكتّاب أنفسهم أو من القراء؛ جمهور التلقي وميدانه التفاعلي- تساءل كثيرٌ من المهتمين بشأن الكتابة حول مبررات الكتابة ودوافعها في أن «لماذا نكتب؟»، وما صنع تلك التساؤلات إلا ما تركت الكتابة فيهم من سعادة وحبور أوان الانكتاب أو أوان تلقيه، أو العكس من حزن وكآبة أوان احتباس الكتابة أو تعذرها على الكاتب بشكل أقوى، ثم على متلقيه من مترقبي نصوص تمنحهم الإمتاع كما تمنحهم الشعور بالمشاركة والتفاعل، حتى حين يبقى تفاعلا أوليا تمثله عملية القراءة ومتعتها وحسب.

سؤال «لماذا نكتب؟» شغل الكثيرين حتى وضع بعضهم مؤلفات تحوي إجابة هذا السؤال في بحثهم عما يمكن للكتابة أن تقدم لهم أو تمنحهم لتستبقيهم في فضاءاتها دون أن طردهم من فردوسها ورحمتها؟

هل يمكن أن تكون الكتابة لأجل المال؟ لا يمكن للربح المادي أن يكون مبررا للكتابة، على الأقل في مرحلة ما قبل التحقق، إذ لا يقرر الكاتب أن يكتب وهو يضع مبلغا من المال نصب عينيه، إلا أن المال قد يأتي مع الكتابة في مرحلة ما حين تتصل موضوعات الكتابة بواقع الجماهير القارئة ليجدوا فيها مادتهم للمتعة أو للفائدة واقعيا عبر ما ترفدهم به من مهارات ومعارف وفنون. حين نتحدث عن الربط بين الكتابة والمال لا يمكن أن ينطبق ذلك على أغلب المكتوب في العالم العربي، ليس اليوم وحسب، بل منذ قرون، إذ لا يمكن لكثير من كبار الكتاب أن يعتاش على أرباح نشر كتاب من كتبه، فضلا عن أولئك الذين ما زالوا هم المنفقون على طباعة ونشر مؤلفاتهم.

دوافع الكتابة المختلفة جمعها جورج أورويل في كتابه الذي ترجمه علي مدن إلى العربية «لماذا أكتب؟» وهي:

- حب الذات الصرف: حيث يشير أورويل إلى رغبة الكاتب في أن يبدو ذكيا مختلفا مثاليا وخالدا لا يموت، إضافة إلى رغبته في الانتقام من كل ما يمكن أن يؤلمه في حياته بالكتابة، وفي هذا يشترك معه الكثير ممن ينتمي للنخب الإنسانية التي تخرج عن جمعيتها المنهكة والمُسْتنزِفة طاقةَ الإنسان إلى الفردية الأنانية التي ترغب في البقاء والديمومة وإن كانت هذه الديمومة هي ديمومة الذات عبر الكلمات.

- الحماس الجمالي: إدراك الجمال في العالم الخارجي، في الكلمات وترتيبها ونسق صياغتها، البهجة من أثر صوت على الآخر، أو إيقاع النثر المتماسك، الرغبة في مشاركة تجربة جمالية يشعر الكاتب معها بضرورة نقلها للآخرين دون تفويت متعتها.

- الحافز التاريخي: الرغبة في رؤية الأشياء كما هي، وحفظها وتوثيقها للأجيال القادمة.

- الهدف السياسي: مع إصرارا أورويل على كلمة «السياسي» حيث يدفع الكاتب المجتمع في اتجاه معين ساعيا لتغيير أفكاره حول نوع المجتمع الذي ينبغي عليهم السعي إليه، مؤكدا أنه لا يوجد كاتب بريء من التحيز السياسي، حتى الرأي القائل بضرورة فصل الفن عن السياسة هو بحد ذاته موقف سياسي.

ومع أورويل ومع غيره من الكتاب، بين من يجد الكتابة ممارسة يومية لا يستغني عنها دون النظر لمدى تحقق الشهرة بها، أو جني المال منها، وبين من جعلها معادلا للحياة نفسها ووسيلة للبقاء في تحدي الموت بتوثيق الأثر الحاصل بالكتابة، تبقى الكتابة بعد كل ذلك وقبله ممارسة حضارية تمنح النفس راحتها من التنفيس وإحراق التجارب السلبية بانكتابها وتحرير الذات منها، ثم مشاركة هذه الراحة للآخرين في كتابة الآخر عبر الأنا مما يشعر القارئ بأنه يعيش تجربته هو لا تجربة كاتبه، ولا أدلّ وأثبت من أن الكتابة معادلٌ للحياة عند الكاتب الحقيقي مما يعيشه الكاتب جرّاء احتباس فكره، وعصيان قلمه من اكتئاب وحسرة قد تورثه لموت اجتماعي حين يقرر العزلة مع ذاته المتخمة بما لا ينكتب، أو موت حقيقي يتمثل في صمت أخير وأزلي بعد طول كتابة وانكتاب.

ختاما: مع كل هذه القيم لممارسة الكتابة ودوافعها لا ينبغي أن يلتبس الأمر على أدعياء الكتابة ولا على متوهمي التلقي في الاستهانة بأمرها، أو تحميلها ما لا يليق بها من تضليل فكري أو تجييش شعبي لما قد يراد به بؤس المجتمعات، وتسطيحها فكريا، وثقافيا وحضاريا.

حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية