انتهيت في مقالي السابق بعنوان «فن ما بعد الحداثة» إلى القول: إن هذا الفن لا مستقبل له ولن يدوم طويلا. وبطبيعة الحال فإن هذا القول ليس من قبيل التنبؤ الذي يقرأ الغيب، وإنما هو أشبه بالتنبؤ المعرفي الذي يستند إلى وصف الواقع وقراءة معطياته، وتوقع النتائج أو السيناريوهات المحتملة التي يُفضي إليها. والحقيقة أن فن هذا العصر المسمى «فن ما بعد الحداثة» يعبر تماما عن عصرنا هذا: فحالة السيولة والفوضى والافتقار إلى المعاني التي تسم هذا الفن، هي حالة تعبر عن عالم من الفوضى يتبدى في الواقع الفكري والاجتماعي والأخلاقي والسياسي: فعلى مستوى الفكر نجد أفكارًا وتيارات تهتم بتحليل وتفكيك المعاني والدلالات من دون أن تقدم لنا فهما تأويليا أو رؤية متماسكة للعالم. وعلى مستوى القيم نجد أن القيم الاجتماعية متضاربة في عالمنا الراهن، بل متصارعة بسبب مواقف عنصرية، رغم ما هنالك من تداخل معرفي وثقافي بين الشعوب بفعل العولمة، وعلى المستوى السياسي نجد صراعا بين قوى العالم الكبرى، بدأ خافتا وخفيا، وسرعان ما تنامى ليمثل أفقا من الصراع نحو عالم يتشكل من جديد باعتباره عالما متعدد الأقطاب (ولهذا فإنه يحتاج إلى نُظُم ومؤسسات سياسية جديدة يمكن أن تحكمه وتوجهه). فلا غرابة إذن في أن يأتي الفن في عصرنا معبرا عن هذا كله.
ولكن ما الذي يحملنا على القول بإفلاس فن عصرنا باعتباره فنا لا مستقبل له؟ سيقول المدافعون عن الفن المعاصر إن الفوضى التي نتحدث عنها هي أمر طبيعي في عالمنا، فهي نتاج للإيمان بالنسبية التي تحكم رؤية كل شيء، بما في ذلك رؤيتنا الفنية. الفنان هو الذي يخلق معياره الخاص، وكل معيار جائز. وربما يبدو هذا الكلام في ظاهره صحيحا في توصيف طبيعة الفن، ولكنه في حقيقته يظل منقوصا: فمن الصحيح القول بأن لكل فنان معياره الخاص، فالمعيار دائما هو منظور في الفنان في رؤية العالم، أما العالم نفسه فإنه -كما يقول الفيلسوف الكبير ميرلوبونتي- لا يتمسك بأي معيار ولا يفرض على الفنان منظورا معينا. هذا كله صحيح تماما، ولكن ما لم يفهمه تيار الفن المعاصر أن تحرر الفن من أي معيار في رؤية العالم، لا يعني التحرر من العالم ذاته! فينبغي أن نُقر أولا بضرورة حضور العالم في أية رؤية له، مهما تعددت الرؤى، ومهما كانت نسبيتها التي لا تحكمها أي معايير. أعني أنه لا بد أن نرى في الفن معنى ما من معاني ودلالات عالمنا المعيش، عالم الحياة الإنسانية. والحقيقة أن هذا تحديدا هو مناط أزمة الفن في عصرنا الراهن.
ومن البديهي أن التنبؤ بأزمة الفن ومصيره البائس الذي آل إليه في عصرنا ليس وليد اليوم، فقد تنبأ بذلك الكثيرون من قبل، وربما كان أهمهم الفيلسوف الألماني الكبير هيجل الذي تنبأ «بموت الفن» (ولعل «بومة منيرفا» التي تحدق وتنذر بالخطر حين استشرافه، هي التي أنبأته بذلك!). وبطبيعة الحال، فإن مقولة «موت الفن» عند هيجل لم تكن تعني أن الفن سوف ينتهي من العالم، وإنما تعني أن الفن لم يعد قادرا على تمثّل القضايا الكبرى المعبرة عن الفكر أو العقل كما يتبدى في عصر ما، وكما يتطور عبر التاريخ في تعبيره عن هذا الفكر. ومن المعروف أن هيجل فيلسوف يعلي من شأن العقل والفكر، ولذلك جاء تصنيفه للفنون على أساس من مدى قدراتها على التعبير عن الفكر أو الفكرة المتعقلة. ومع أننا لا نوافق على موقف هيجل في تصنيف الفنون وتقييمها وترتيبها هرميا على أساس من التعبير عن العقل أو الفكر، فإنه محق في رؤيته لأزمة الفن التي تنبأ بها في عصره، وهي أن الفن يكاد يغيب عنه الفكر، وتغلب عليه الذاتية. فموت الفن هو إذن نتاج إعلاء شأن الذاتية، ممثلة في ذات الفنان وتخيلاته وانفعالاته ومشاعره الخاصة، وهو ما تبدى في ذلك العصر آنذاك من خلال المدرسة الرومانسية. ولقد صدق هيجل في نبوءته فيما يتعلق بتفشي الذاتية في الفن التي جعلت الفنانين أنفسهم ينتفخون بتعبيرهم عن ذواتهم، غافلين عن العالم نفسه. وعلى هذا، فإننا ينبغي أن نفهم مقولة «موت الفن» عند هيجل في سياق قوله: «إن الذاتية هي العنصر الذي يموت فيه الفن».
ولا شك في أن هذا كله لا بد أن يستدعي السؤال عن مصير الفن أو مآله في عصرنا هذا. المؤكد عندي أن حقبة فن ما بعد الحداثة لن تدوم طويلا، ولكننا لا نستطيع أن نتنبأ بحركة الفن في المستقبل، ولا ينبغي أن ننشغل بأن نضع لها عنوانا. ولكني أظن أن المرحلة المقبلة من الفن ستكون أفضل كثيرًا من المرحلة الفوضوية الراهنة؛ لأن السيناريو الأكثر احتمالا هو أن العالم نفسه سوف يميل إلى الاستقرار بعد تشكُّل نظام عالمي جديد تحكمه ضوابط جديدة (وإلا فإن البديل هو حرب عالمية لا تُبقي ولا تذر، وفن أكثر فوضوية لا يعبر سوى عن رفض العالم أو السخرية من خلال لوحة تصور «مبولة» أو لوحة أخرى تحمل عنوان «بول المسيح!. وفضلا عن ذلك، فإن الفن في المرحلة المقبلة سيكون قد تعلم من أخطائه ونقاط ضعفه في الرؤية والفهم والأداء، وسيدرك الفنانون أن الفن لا يمكنه أن يختزل العالم في أشكال مجردة اغترابية؛ وبالتالي سوف يضعون في حسبانهم عالم الإنسان نفسه باعتباره غاية الفن في النهاية. أظن أن هذا هو السيناريو الأكثر احتمالا.
ولكن ما الذي يحملنا على القول بإفلاس فن عصرنا باعتباره فنا لا مستقبل له؟ سيقول المدافعون عن الفن المعاصر إن الفوضى التي نتحدث عنها هي أمر طبيعي في عالمنا، فهي نتاج للإيمان بالنسبية التي تحكم رؤية كل شيء، بما في ذلك رؤيتنا الفنية. الفنان هو الذي يخلق معياره الخاص، وكل معيار جائز. وربما يبدو هذا الكلام في ظاهره صحيحا في توصيف طبيعة الفن، ولكنه في حقيقته يظل منقوصا: فمن الصحيح القول بأن لكل فنان معياره الخاص، فالمعيار دائما هو منظور في الفنان في رؤية العالم، أما العالم نفسه فإنه -كما يقول الفيلسوف الكبير ميرلوبونتي- لا يتمسك بأي معيار ولا يفرض على الفنان منظورا معينا. هذا كله صحيح تماما، ولكن ما لم يفهمه تيار الفن المعاصر أن تحرر الفن من أي معيار في رؤية العالم، لا يعني التحرر من العالم ذاته! فينبغي أن نُقر أولا بضرورة حضور العالم في أية رؤية له، مهما تعددت الرؤى، ومهما كانت نسبيتها التي لا تحكمها أي معايير. أعني أنه لا بد أن نرى في الفن معنى ما من معاني ودلالات عالمنا المعيش، عالم الحياة الإنسانية. والحقيقة أن هذا تحديدا هو مناط أزمة الفن في عصرنا الراهن.
ومن البديهي أن التنبؤ بأزمة الفن ومصيره البائس الذي آل إليه في عصرنا ليس وليد اليوم، فقد تنبأ بذلك الكثيرون من قبل، وربما كان أهمهم الفيلسوف الألماني الكبير هيجل الذي تنبأ «بموت الفن» (ولعل «بومة منيرفا» التي تحدق وتنذر بالخطر حين استشرافه، هي التي أنبأته بذلك!). وبطبيعة الحال، فإن مقولة «موت الفن» عند هيجل لم تكن تعني أن الفن سوف ينتهي من العالم، وإنما تعني أن الفن لم يعد قادرا على تمثّل القضايا الكبرى المعبرة عن الفكر أو العقل كما يتبدى في عصر ما، وكما يتطور عبر التاريخ في تعبيره عن هذا الفكر. ومن المعروف أن هيجل فيلسوف يعلي من شأن العقل والفكر، ولذلك جاء تصنيفه للفنون على أساس من مدى قدراتها على التعبير عن الفكر أو الفكرة المتعقلة. ومع أننا لا نوافق على موقف هيجل في تصنيف الفنون وتقييمها وترتيبها هرميا على أساس من التعبير عن العقل أو الفكر، فإنه محق في رؤيته لأزمة الفن التي تنبأ بها في عصره، وهي أن الفن يكاد يغيب عنه الفكر، وتغلب عليه الذاتية. فموت الفن هو إذن نتاج إعلاء شأن الذاتية، ممثلة في ذات الفنان وتخيلاته وانفعالاته ومشاعره الخاصة، وهو ما تبدى في ذلك العصر آنذاك من خلال المدرسة الرومانسية. ولقد صدق هيجل في نبوءته فيما يتعلق بتفشي الذاتية في الفن التي جعلت الفنانين أنفسهم ينتفخون بتعبيرهم عن ذواتهم، غافلين عن العالم نفسه. وعلى هذا، فإننا ينبغي أن نفهم مقولة «موت الفن» عند هيجل في سياق قوله: «إن الذاتية هي العنصر الذي يموت فيه الفن».
ولا شك في أن هذا كله لا بد أن يستدعي السؤال عن مصير الفن أو مآله في عصرنا هذا. المؤكد عندي أن حقبة فن ما بعد الحداثة لن تدوم طويلا، ولكننا لا نستطيع أن نتنبأ بحركة الفن في المستقبل، ولا ينبغي أن ننشغل بأن نضع لها عنوانا. ولكني أظن أن المرحلة المقبلة من الفن ستكون أفضل كثيرًا من المرحلة الفوضوية الراهنة؛ لأن السيناريو الأكثر احتمالا هو أن العالم نفسه سوف يميل إلى الاستقرار بعد تشكُّل نظام عالمي جديد تحكمه ضوابط جديدة (وإلا فإن البديل هو حرب عالمية لا تُبقي ولا تذر، وفن أكثر فوضوية لا يعبر سوى عن رفض العالم أو السخرية من خلال لوحة تصور «مبولة» أو لوحة أخرى تحمل عنوان «بول المسيح!. وفضلا عن ذلك، فإن الفن في المرحلة المقبلة سيكون قد تعلم من أخطائه ونقاط ضعفه في الرؤية والفهم والأداء، وسيدرك الفنانون أن الفن لا يمكنه أن يختزل العالم في أشكال مجردة اغترابية؛ وبالتالي سوف يضعون في حسبانهم عالم الإنسان نفسه باعتباره غاية الفن في النهاية. أظن أن هذا هو السيناريو الأكثر احتمالا.