رغم كل الصخب الذي تثيره تغريدات «تويتر» خاصة في القضايا الخلافية، فإنه يبقى بعيدا عن التعبير عن اتجاهات الرأي العام في المجتمع، لكونه رأيا عاما «نوعيا» يتعلق بمجموعة من الأشخاص الذين يستخدمون تلك المنصة والذين يصل عددهم إلى 865 ألف مستخدم، لا يمثلون سوى 16 بالمائة من عدد السكان، وفقا لمواقع إحصاءات عالمية، وذلك للتعبير عن آرائهم ومحاولة إقناع الآخرين بتبنيها.

من القضايا الأخيرة التي اهتم بها مستخدمو «تويتر» في سلطنة عمان، القرار الوزاري الذي أصدره قبل أيام قليلة معالي وزير الأوقاف والشؤون الدينية بتعديل بعض أحكام لائحة الجوامع والمساجد، ويقضي بقصر استخدام مكبرات الصوت الخارجية في المساجد على رفع الأذان، وإجازة فرض غرامة إدارية لا تزيد على ألف ريال عماني في حال مخالفة ذلك. وقد كشف الجدل حول القرار أن «تويتر» لا يعمل كمنشئ للرأي العام في غالب الأحوال. فالقضية أثارتها وزارة الأوقاف والشؤون الدينية دون تهيئة مسبقة للرأي العام، وإنما يعمل كمجال عام تختلط فيه الآراء وتتضارب وتتصارع لكي يتبلور منها في النهاية رأي عام قائد، إما مناصر للقرار وداعم له، أو معارض له ومطالب بإلغائه، وهو ما يعني أن تويتر وغيره من شبكات التواصل الاجتماعي ما زال رغم أهميته مجرد «خلاط» تجتمع على منصته مختلف الآراء وفقا لنظريات تشكل الرأي العام المعروفة.

وبصرف النظر عن أن منصة «تويتر» هي المنصة الثامنة، وتأتي في آخر قائمة منصات التواصل الاجتماعي من حيث الاستخدام وأعداد المستخدمين في سلطنة عمان، إذ يسبقها على الترتيب، «فيسبوك»، و«يوتيوب»، و«إنستجرام»، و«تيك توك»، و«فيسبوك ماسنجر»، و«لينكدن»، و«سناب شات»، فإن علينا أن نعترف أنها ربما تكون الأكثر صخبا وضجيجا بحكم طبيعتها كمنصة تعبير عن الرأي في المقام الأول، بالإضافة إلى تميز مستخدميها أو الغالبية منهم بمستويات تعليمية وثقافية أعلى من نظرائهم من مستخدمي المنصات الأخرى، تجعلهم من أصحاب الرأي النابه أو القائد. ولعل هذه الخصائص هي التي تجعل المؤسسات العامة والخاصة ورجال السياسة والاقتصاد والخبراء في جميع المجالات يلجؤون إلى «تويتر» لتحديد قائمة أولويات الأحداث والقضايا الوطنية والإقليمية والعالمية، ومحاولة تكوين رأي وبناء موقف واتجاه إزاء كل منها.

من المؤكد أن دور وسائل الإعلام التقليدية في تشكيل الرأي العام والتأثير فيه، قد تراجع كثيرا في السنوات الأخيرة، مثلما تراجع دور الاتصال الشخصي وقادة الرأي، وأصبح العالم مفتوحا على اتساعه أمام منصات التواصل الاجتماعي لتحل محل هذه الأشكال التقليدية من الاتصال في القيام بمهام تكوين الرأي العام والتأثير فيه. ومع ذلك يبقى من المهم ألا ينزعج البعض من هذه المنصات ويطالب بتقنين استخدامها أو منعه، مثلما فعلت بعض الدول من قبل، خشية أن يؤدي صراع الآراء عليها إلى فتنة وطنية، فالآراء التي يتم التعبير عنها على منصة اجتماعية مثل «تويتر» لا تخرج عن كونها «آراء شخصية» تختلف عن الرأي العام. والرأي الشخصي هو الرأي الذي يكونه الفرد لنفسه في موضوع معين بعد تفكير في هذا الموضوع، ويجاهر به دون أن يخشى شيئا، وهو يختلف بدوره عن الرأي الخاص، والذي يمثل جزءا من الرأي الشخصي لا يجاهر به الشخص أمام الناس، ولكنه يحتفظ به لنفسه خشية أن يؤدي ذلك إلى تعرضه للخطر.

إن ما حدث وما زال يحدث من جدل على شبكات التواصل الاجتماعي بشأن قرار وزير الأوقاف الذي أشرنا إليه في مقدمة المقال يجب أن يكون دافعا للوزارات والمؤسسات العامة في الدولة، خاصة الخدمية منها التي تتعامل مباشرة مع الجمهور، لوضع استراتيجية واضحة للتعامل مع الرأي العام، تأخذ في الاعتبار المتغيرات الكثيرة التي شهدتها السنوات الأخيرة سواء على مستوى زيادة وعي الجماهير نتيجة انتشار التعليم الجامعي، أو على مستوى تطور منصات التعبير الجديدة عن الرأي، التي تفتح المجال لكل صاحب رأي بالمبادرة بالتعبير عن رأيه، دون الحاجة إلى وسائل الإعلام الجماهيرية التقليدية أو وسائل التواصل الشخصي محدودة الانتشار.

من الخطأ أن نتصور أن استراتيجية التعامل مع الرأي العام تقتصر على إنشاء الحسابات على شبكات التواصل الاجتماعي وإدارتها فقط، كما تفعل مؤسسات كثيرة، ولكنها يجب أن تتضمن الخطط والآليات التي تعزز قدرة تلك المؤسسات على تهيئة الرأي العام والمساهمة في تشكيله والتأثير فيه من خلال محتوى تتوافر فيه كل عناصر ومتطلبات الإقناع التي تناسب الجيل الرقمي.

ولعل من أهم تلك الآليات استخدام مداخل إعلامية جديدة في تأهيل الإعلاميين العاملين على هذه الحسابات بصفة خاصة والمحتوى الرقمي بشكل عام. لم يعد من المجدي -في اعتقادي- أن يقتصر تأهيل الإعلاميين في المؤسسات الحكومية على دورات تدريبية في كتابة وتحرير الفنون الصحفية والإعلامية الخاصة بوسائل الإعلام التقليدية المتعارف عليها منذ سنوات طويلة، لأن منتج المحتوى الرقمي للمؤسسة يعلم أن المنصات الإعلامية الجديدة والجمهور الجديد لا يحتملان مثل هذه الفنون الطويلة. وعوضا عن ذلك يجب أن يشمل التأهيل دراسة الرأي العام وأنواعه وخصائصه حتى نستطيع التأثير فيه إذا أردنا. فالرأي العام ليس نوعا واحدا وإنما أنواع متعددة يجب أن نتعامل مع كل منها بطريقة مختلفة. وعلى سبيل المثال لا يمكن أن نتعامل مع الرأي العام اليومي الذي تغذيه الشائعات ووسائل الإعلام، ويظهر كرد فعل لما يحدث يوميا وهو متقلب ومتغير من يوم إلى آخر نفس تعاملنا مع «الرأي العام الدائم» الذي يدوم فترة طويلة من الزمن ويتميز بالاستقرار والرسوخ ويتميز بالقوة والعمق، ويتصل بالثوابت الوطنية كالدين والأخلاق والتقاليد، ولا تؤثر فيه الظروف والحوادث الطارئة. من الضروري أيضا أن يدرك القائمون بالاتصال الرقمي في مؤسساتنا العامة الفروق بين الرأي العام الفعلي، وهو الرأي القائم بالفعل في وقت من الأوقات، ويظهر في أحاديث الناس ومناقشاتهم وتعليقاتهم، وبين الرأي العام الكامن الذي لم يتبلور بعد تجاه مشكلة أو قضية رغم شعور الناس بها، وكذلك التفرقة بين الرأي العام الصريح والمعلن والذي يعبر صراحة عن آراء الناس واتجاهاتهم ويتطلب توافر مناخ حرية الرأي في المجتمع وعدم الخوف من التعبير عن الرأي، وبين الرأي العام الباطني والمستتر والذي لا يتم عادة الإفصاح عنه خوفا من العواقب.

يجب أن يدرك القائمون على إدارة منصات التواصل الاجتماعي في المؤسسات ذات العلاقة بالجمهور، أن هناك فروقا واضحة بين ثلاثة أنواع مهمة من الرأي العام. أولها «الرأي العام المسيطر أو القائد أو النابه»، ويمثل رأي صفوة المجتمع من القادة والمفكرين والعلماء والساسة والإعلاميين. هؤلاء يقودون الرأي العام ولا يتأثرون كثيرا بوسائل الإعلام ولكن يؤثرون فيها، ويشاركون في وضع أجندة أولويات المجتمع من الآراء والأفكار والقضايا. ويوجد عدد كبير من أفراد هذا الرأي على شبكات التواصل الاجتماعي، وهم الذين يثيرون الجدل الحالي حول قرار وزير الأوقاف. هؤلاء هم الأولى بالمخاطبة من جانب حسابات المنصات الاجتماعية للمؤسسات. ويأتي بعدهم أصحاب الرأي العام المثقف الذي يمثله المتعلمون والمثقفون على هذه المنصات، ثم «الرأي العام المنساق أو المنقاد» ويعبر عن رأي الأميين وقليلي الحظ في التعليم والثقافة، وهؤلاء من النادر أن تجدهم على منصات التواصل الاجتماعي.