الدين.. يقوم على معمار متحدد ومنسجم من العناصر المترابطة؛ كالمعتقدات والقيم والطقوس والأحكام والممارسات، ويأتي في صلبه العمود الذي تنتظم عليه هذه العناصر. فمثلاً؛ مرتكز الهندوسية تنظيم المجتمع طبقياً، واليهودية الأرض الموعودة، والمسيح هو المحور الذي تدور عليه المسيحية، والله هو الغاية العليا في الإسلام. وهكذا القول في المذاهب الإسلامية.. فمرتكز أهل السنة الرواية عن النبي محمد، والمعتزلة تنزيه الله، والشيعة علي بن أبي طالب وأبناؤه، والإباضية العدل الاجتماعي المتمثل في الإمامة. وهذا قانون عام في الأديان.
«رجل الدين».. يحتل في الأديان منصباً رئيساً؛ كاهناً أو حَبراً أو فقيهاً، أو نحوه. تتباين وظائف «رجال الدين» من دين لآخر ويجمعهم أمر واحد؛ هو أنهم واسطة بين المتعبدين وإلههم. على أن هذه الواسطة يتمايز مستواها بين الأديان، فقد تغلو إلى درجة أن يحل الإله في الواسطة ذاتها كحلوله في المسيح في المعتقد المسيحي، أو تكون مجرد مستنير «مرشد روحي» كما في البوذية، أو مفسراً للشريعة كأنبياء بني إسرائيل وفقهاء المسلمين. لكن الناس لم يقفوا بالواسطة عند أحيائهم؛ بل أسندوها إلى أمواتهم وكائنات أخرى كالأشجار والأحجار. المقال.. يحاول أن يستعرضها من خلال القرآن.
الجذر «وَسَطَ».. يرد في القرآن بمعنى الأقوم؛ فيحكي الله عن أصحاب الجنة قول أقومهم رأياً: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ) [القلم:28]، وتعني الأفضل كقوله: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) [المائدة:89]، و(حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) [البقرة:238]، والعدل في الحكم: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة:134]. ولا يرد هذا الجذر في القرآن بمعنى الحلقة الواصلة بين الخلق وخالقهم، وإنما يعبّر عنها بـ«الشفاعة»؛ وهي التي تدفع الضر عن المشفوع له وتجلب له النفع، بسبب تدخل الشفيع عند الله.
الإسلام.. يقوم على أساس أن الله وحده خالق الكون، وفاطره ومدبره وفانيه، وكل الكائنات خلقه، ولا أحد يستحق العبادة غيره: (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ) [ص:65]. ووفقا لهذا الأساس فكّك القرآن المنظومات الدينية القديمة التي تشرك مع الله آلهة غيره، وجاء جلّ القرآن لتحقيق هذا الهدف، ومنه إلغاء أية واسطة بين الله والناس. لقد حرّم الله أن تُتْخَذ من دونه أرباب، ولو كانوا أشرف الخلق قدراً: (وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:80]، ونعى على الذين اتخذوا أحبارهم أربابا من دون الله: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ بْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [التوبة:31].
باعتبار أن الرسول محمد خاتم النبيين وأُنزل عليه القرآن، فهو أقرب الخَلق أن يُخلَع عليه من صفات الألوهية ما ليس فيه، كما درجت البشرية على تأليه عظمائها، إلا إن القرآن قطع هذا الطريق وبيّن أنه بشر كسائر البشر: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) [الكهف:110]، وهو الأمر الذي ينطبق على كل الأنبياء: (قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) [إبراهيم:11]. ونفى القرآن أن يكون للنبي أية وساطة دينية يهيمن بها على الناس: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ) [الأحزاب:40]. والنبي.. لا يعرف ماذا يُفعل به، فضلاً أن يكون واسطة لأحد عند ربه: (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) [الأحقاف:9]. فالنبي.. لا يمكن أن يتحدث باسم الله ما لم ينزّل عليه وحياً، ولو تقوّل عليه لأخذه أخذاً وبيلاً: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ) [الحاقة:44-47]، والنبي.. لا يعلم الغيب، وليست له أية خصائص فوق بشرية: (قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) [الأنعام:50].
كما مرَّ أعلاه.. لم يتحدث القرآن عن العلاقة بين الله ومخلوقاته بلفظ «الوساطة»، وإنما استعمل كلمة «الشفاعة»، وكلها جاءت منفية. في القرآن.. لا توجد شفاعة دنيوية عند الله، فالبشر أمام سننه سواء، بمختلف أديانهم وأعراقهم وأوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية. وإنما جاء الحديث فيه عن الشفاعة الأخروية، لكن كلها بيد الله: (قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً) [الزمر:44]. وأية شفاعة لغيره هي غير نافعة: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر:48]، ولا تُقبَل يوم القيامة: (وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ) [البقرة:48]. وقد حذّر الله المؤمنين من يوم لا ينفع فيه شفاعة ولا شفيع: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ) [البقرة:254]. (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [الأنعام:51].
ورغم هذا النفي الصريح لأية شفاعة؛ دنيوية وأخروية، إلا أن بعض الآيات جاءت بما قد يوحي بوجودها، كقول الله: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) [يونس:3]، لكن يقابلها قوله: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ) [السجدة:4]، فـ(مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) لا تعني وجود الشفيع، وإنما تقرر بأن الأمر كله بيد الله، فهو وحده من بيده الشفاعة. وهذا أسلوب كثير وقوعه في القرآن.
ومثل ذلك؛ قول الله: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ، لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) [الأنبياء:26-28]، هذه الآيات جاءت في معرض الرد على القائلين بأن لله ولداً؛ ويقصدون به الملائكة، فبيّن الله أنهم (عِبَادٌ مُكْرَمُونَ) (وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)، إذاً؛ الملائكة لا يقومون بالوساطة، وإنما هم ينفذون ما يرتضيه الله فحسب.
وإذ تقرر بأنه لا واسطة بين الله وخلقه؛ فإن القرآن تكلّم عن وجود نوع مختلف من الواسطة، تكون من الأعلى إلى الأسفل؛ أي أن الله اتخذ رسلاً مبلغين عنه شرائعه وكتبه، فالله لا يكلم الناس مباشرة، وإنما يرسل إليهم رسلاً ويبعث إليهم أنبياء: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ، وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا) [الشورى:51-52]، فالواسطة.. هي إما وحياً، أو غيباً (مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ)، أو رسولاً. وكما يصطفي الله من الناس رسلاً؛ يصطفي كذلك من الملائكة رسلاً: (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ) [الأنبياء:75]، لكن هذه الواسطة محددة من قِبَل الله؛ فهو أعلم أين يضع رسالته: (وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) [الأنعام:124].
ومع ذلك؛ فهي واسطة بلاغ، ودور الرسول هو تبليغ رسالة الله، ولا تخوّله بأن يكون مهيمناً على الناس؛ فلا يمكنه أن يحدد مصائرهم، أو يجبرهم على اتباعه: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ) [الغاشية:21-22]، ومن باب أولى؛ فلا واسطة بين الناس والرسالة، فكل إنسان ملزم بتدبّرها، والعمل بمقتضى فهمه لها.
«رجل الدين».. يحتل في الأديان منصباً رئيساً؛ كاهناً أو حَبراً أو فقيهاً، أو نحوه. تتباين وظائف «رجال الدين» من دين لآخر ويجمعهم أمر واحد؛ هو أنهم واسطة بين المتعبدين وإلههم. على أن هذه الواسطة يتمايز مستواها بين الأديان، فقد تغلو إلى درجة أن يحل الإله في الواسطة ذاتها كحلوله في المسيح في المعتقد المسيحي، أو تكون مجرد مستنير «مرشد روحي» كما في البوذية، أو مفسراً للشريعة كأنبياء بني إسرائيل وفقهاء المسلمين. لكن الناس لم يقفوا بالواسطة عند أحيائهم؛ بل أسندوها إلى أمواتهم وكائنات أخرى كالأشجار والأحجار. المقال.. يحاول أن يستعرضها من خلال القرآن.
الجذر «وَسَطَ».. يرد في القرآن بمعنى الأقوم؛ فيحكي الله عن أصحاب الجنة قول أقومهم رأياً: (قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ) [القلم:28]، وتعني الأفضل كقوله: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ) [المائدة:89]، و(حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى) [البقرة:238]، والعدل في الحكم: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة:134]. ولا يرد هذا الجذر في القرآن بمعنى الحلقة الواصلة بين الخلق وخالقهم، وإنما يعبّر عنها بـ«الشفاعة»؛ وهي التي تدفع الضر عن المشفوع له وتجلب له النفع، بسبب تدخل الشفيع عند الله.
الإسلام.. يقوم على أساس أن الله وحده خالق الكون، وفاطره ومدبره وفانيه، وكل الكائنات خلقه، ولا أحد يستحق العبادة غيره: (وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ) [ص:65]. ووفقا لهذا الأساس فكّك القرآن المنظومات الدينية القديمة التي تشرك مع الله آلهة غيره، وجاء جلّ القرآن لتحقيق هذا الهدف، ومنه إلغاء أية واسطة بين الله والناس. لقد حرّم الله أن تُتْخَذ من دونه أرباب، ولو كانوا أشرف الخلق قدراً: (وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:80]، ونعى على الذين اتخذوا أحبارهم أربابا من دون الله: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ بْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [التوبة:31].
باعتبار أن الرسول محمد خاتم النبيين وأُنزل عليه القرآن، فهو أقرب الخَلق أن يُخلَع عليه من صفات الألوهية ما ليس فيه، كما درجت البشرية على تأليه عظمائها، إلا إن القرآن قطع هذا الطريق وبيّن أنه بشر كسائر البشر: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) [الكهف:110]، وهو الأمر الذي ينطبق على كل الأنبياء: (قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) [إبراهيم:11]. ونفى القرآن أن يكون للنبي أية وساطة دينية يهيمن بها على الناس: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ) [الأحزاب:40]. والنبي.. لا يعرف ماذا يُفعل به، فضلاً أن يكون واسطة لأحد عند ربه: (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ) [الأحقاف:9]. فالنبي.. لا يمكن أن يتحدث باسم الله ما لم ينزّل عليه وحياً، ولو تقوّل عليه لأخذه أخذاً وبيلاً: (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ) [الحاقة:44-47]، والنبي.. لا يعلم الغيب، وليست له أية خصائص فوق بشرية: (قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ) [الأنعام:50].
كما مرَّ أعلاه.. لم يتحدث القرآن عن العلاقة بين الله ومخلوقاته بلفظ «الوساطة»، وإنما استعمل كلمة «الشفاعة»، وكلها جاءت منفية. في القرآن.. لا توجد شفاعة دنيوية عند الله، فالبشر أمام سننه سواء، بمختلف أديانهم وأعراقهم وأوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية. وإنما جاء الحديث فيه عن الشفاعة الأخروية، لكن كلها بيد الله: (قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً) [الزمر:44]. وأية شفاعة لغيره هي غير نافعة: (فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر:48]، ولا تُقبَل يوم القيامة: (وَاتَّقُوا يَوْماً لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ) [البقرة:48]. وقد حذّر الله المؤمنين من يوم لا ينفع فيه شفاعة ولا شفيع: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ) [البقرة:254]. (وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [الأنعام:51].
ورغم هذا النفي الصريح لأية شفاعة؛ دنيوية وأخروية، إلا أن بعض الآيات جاءت بما قد يوحي بوجودها، كقول الله: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ) [يونس:3]، لكن يقابلها قوله: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ) [السجدة:4]، فـ(مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ) لا تعني وجود الشفيع، وإنما تقرر بأن الأمر كله بيد الله، فهو وحده من بيده الشفاعة. وهذا أسلوب كثير وقوعه في القرآن.
ومثل ذلك؛ قول الله: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ، لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ، يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ) [الأنبياء:26-28]، هذه الآيات جاءت في معرض الرد على القائلين بأن لله ولداً؛ ويقصدون به الملائكة، فبيّن الله أنهم (عِبَادٌ مُكْرَمُونَ) (وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ)، إذاً؛ الملائكة لا يقومون بالوساطة، وإنما هم ينفذون ما يرتضيه الله فحسب.
وإذ تقرر بأنه لا واسطة بين الله وخلقه؛ فإن القرآن تكلّم عن وجود نوع مختلف من الواسطة، تكون من الأعلى إلى الأسفل؛ أي أن الله اتخذ رسلاً مبلغين عنه شرائعه وكتبه، فالله لا يكلم الناس مباشرة، وإنما يرسل إليهم رسلاً ويبعث إليهم أنبياء: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ، وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا) [الشورى:51-52]، فالواسطة.. هي إما وحياً، أو غيباً (مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ)، أو رسولاً. وكما يصطفي الله من الناس رسلاً؛ يصطفي كذلك من الملائكة رسلاً: (اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ) [الأنبياء:75]، لكن هذه الواسطة محددة من قِبَل الله؛ فهو أعلم أين يضع رسالته: (وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ) [الأنعام:124].
ومع ذلك؛ فهي واسطة بلاغ، ودور الرسول هو تبليغ رسالة الله، ولا تخوّله بأن يكون مهيمناً على الناس؛ فلا يمكنه أن يحدد مصائرهم، أو يجبرهم على اتباعه: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ، لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ) [الغاشية:21-22]، ومن باب أولى؛ فلا واسطة بين الناس والرسالة، فكل إنسان ملزم بتدبّرها، والعمل بمقتضى فهمه لها.