هناك ثلاثة عوامل راهنة تشتركُ فيها المجتمعات البشرية – على حد سواء – في تغيير هياكلها الاجتماعية، العامل الأول هو «هاجس الأتمتة»؛ وهو هاجسٌ دائم الطرح يتصل بمدى قدرة الأتمتة تحديدًا على تغيير معادلة «أسواق العمل» من ناحية الطلب والعرض، والاحتواء والاختفاء لبعض الوظائف. أما العامل الثاني فهو تغير الطبيعة الاجتماعية لشيخوخة السكان؛ وهنا لا نقف عند اتساع هذه الفئة في تركيبة الهرم السكاني، وإنما في طبيعة الاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية والصحية والسياسية المتغيرة لهذه الفئة، التي من شأنها إيجاد نظم جديدة، وأسواقٍ جديدة. أما العامل الثالث؛ فهو «ضرورة تغيير أنماط السلوك الاجتماعي»؛ للحفاظ على الموارد، والموارد هنا في مفهومها الواسع بما فيها الخدمات والطلب على البنى الأساسية، والموارد السياسية في شق المشاركة، وسواها من موارد أو أصول سياسية ومجتمعية. ويمكن القول: إن شكل التغير الهيكلي في المجتمعات خلال الحقبة الأخيرة بدأ يتشكل خصوصًا بعد الأزمة المالية العالمية (2008 – 2010). صحيح أن هناك تفاوتات اقتصادية وتنموية تتباين فيها مجتمعات العالم؛ ولكن تبقى العوامل سالفة الذكر هواجس مركزية لكافة المجتمعات على حد سواء؛ ومع هذه الهواجس يتعاظم (عدم اليقين) حول مسار هذه المجتمعات ومستقبلها.
يمكن إيجاز الحالة الراهنة المشتركة للمجتمعات الإنسانية بأنها تعميقٌ لحالة «المجتمع التنافسي»، والمجتمع التنافسي هو المجتمع الذي يشتد فيه سعي الأفراد إلى «الحصول على الموارد» أو اكتساب «الموارد الجيدة»، أو «إيجاد موارد جديدة» لأجل البقاء واكتساب القيمة الاجتماعية. ويشتد في المجتمع التنافسي الضغط على الموارد بأشكالها المختلفة؛ من الضغط على فُرص العمل وشواغر الأسواق، إلى الضغط على فرص مواصلة التعليم، إلى الضغط على الحصول على مستهلكات أساسية جيدة، نحو الضغط على الخدمات والرعاية الصحية والاجتماعية الجيدة، وسواها من أشكال الضغط على خدمات البنى الأساسية. في المجتمع التنافسي تبدو هناك فرص واسعة لصعود قيم جديدة، وهبوط وتلاشي قيم أخرى، أو لتشكل أعراف اجتماعية جديدة، وطمس أعراف أخرى. ويكون في هذه الحالة المتحكم في صعود تلك القيم والأعراف أو تلاشيها ليس فقط «النسق الثقافي المتأصل للمجتمع» ومؤسساته، وإنما يدخل «السوق»، و«السياق العالمي»، و«وسائط الاتصال الحديثة»، و«المؤسسات العابرة للحدود» كلها أطرافا تأخذ مكانها في معادلة تشكيل القيم والأعراف، وبالتالي فإن حالة «الضبط الاجتماعي» تبدو عصية، وتحتاج إلى كثير من المراجعات؛ ليضمن المجتمع عدم حدوث تغير بنيوي (هيكلي) غير متسق مع اتزانه واستمراريته. وفي المقابل فإن حالة المجتمع التنافسي قد تفضي في مجتمعات معينة إلى تعزيز المُبتكرات، وتهيئة النظم الداخلية للمجتمع للتنافس على الريادة والإبداع، وتدفع باتجاه إيجاد قيمة أعلى للعمليات الاجتماعية مثل تعزيز قيمة التعليم والتعلم المستمر، وتعزيز أهمية وقيمة الصحة العامة، وتعزيز قيم الاستدامة في أوجهها المختلفة.
وإن كان عالم الاجتماع جورج زيمل في أدبياته يعد رائدًا لفكرة المجتمع التنافسي، فإنها عادت اليوم لتأخذ حيزها وخاصة لدى رواد فلسفة الأخلاق، نتيجة الهواجس التي تفرضها هذه الفكرة خاصة فيما يتصل بنشوء منظومة أخلاقية جديدة غير مركزية، وديناميكية. افترض زيمل في أطروحاته عدة فرضيات منها:
- المنافسة (الصراع الاجتماعي) مُحرك أساسي لديناميكيات التغير الاجتماعي فهو يدفع باتجاه تشكل سلوكيات جديدة ناجمة عن اختلاف (أهداف ومصالح وقيم الأفراد في المجتمع) وهو يرى أن التنافس (الصراع الاجتماعي) غالبًا ما يكون متمحورًا حول (الموارد بمفهومها الواسع - الوضع الاجتماعي للفرد أو الجماعة الاجتماعية – الاعتراف السياسي والمجتمعي).
- يرى زيمل كذلك أن المجتمعات التي لا تستطيع السيطرة أو توجيه التنافس يمكن أن تواجه (الصراع والتوتر وعدم المساواة الاجتماعية).
مؤخرًا، نشر عالم فلسفة الأخلاق سفين ثوربيورنسن كتابًا مهمًا؛ حمل عنوان «What Happens to People in a Competitive Society». وهو يشير فيه إلى واقع صراع القيم المحورية للوجود الإنساني في ظل «المنافسة الاقتصادية» مثل قيم «الزمالة – حُب الذات – إدراك الذات – الحرية». وكيف يمكن لها أن تكتسب أنماطًا ومعاني مختلفة في سياق مجتمعات مدفوعة بتحقيق الذات والبحث عن أعلى السلم في التراتب الاجتماعي.
تتوقع أبحاث مجموعة McKinsey & Company أن «الاستهلاك العالمي يمكن أن ينمو بمقدار 23 تريليون دولار بين عامي 2015 و2030» وأنه «سيكون هناك ما لا يقل عن 300 مليون شخص تزيد أعمارهم عن 65 عامًا أو أكبر». بالإضافة إلى توقع أن يكون «ما بين 400 مليون و800 مليون فرد يمكن أن يتم إزاحتهم عن طريق الأتمتة ويحتاجون إلى إيجاد وظائف جديدة بحلول عام 2030 حول العالم». هذه الأرقام نماذج لأشكال واسعة من الضغط على الموارد. ويبقى السؤال في حالة المجتمع العُماني: هل المجتمع العُماني في معزل عن حالة «المجتمع التنافسي» ؟. والإجابة في تقديرنا أن هذه الحالة تتعزز سواء بفعل حركة المجتمعات الإنسانية عمومًا، أو بفعل العوامل الداخلية المرتبطة بالموارد العامة (الطبيعية والمعنوية والاقتصادية)، أو بفعل حركة الكتلة السكانية. ولكن تبقى إدارة هذا التحول هي العنصر الأساسي الذي يجب التركيز عليه. وهذا يتأتى من خلال فاعلية «السياسة السكانية» سواء كانت هناك «سياسة مكتوبة» أو «سياسة ضمنية» حاضرة في اعتبار صانع السياسة العامة. والأهم أن تنطلق تلك السياسة من اعتبارين مهمين:
- كيف يمكن موازنة الكتلة السكانية الحالية بحالة الموارد العامة؟
-كيف يمكن ضمان التوجيه القيمي لحالة «المجتمع التنافسي» نحو الحفاظ على نسق القيم العامة والمقبولة والضامنة لاستقرار المجتمع؟
لابد في تقديرنا أن أي سياسات عامة قادمة يجب أن تأخذ في الاعتبار هذين السؤالين/ البعدين المهمين. والأهم أن تُدرك المؤسسات في سياقات عملها المختلفة الدور المحوري لها في توجيه مسار القيم العمومية نحو المسارات الإيجابية للتنافس. وكبح ظهور أية قيم تضر بالنسيج المجتمعي وتهدد استقراره. إن الحوار حول القيم لابد أن يأخذ مدخلًا مختلفًا اليوم عن مداخله التقليدية، وأن يكون أحد محركاته الأساسية فهم هذه الدوافع المتضافرة نحو التنافس، وكيف يمكن أن تنشئ قيما وتبطش بقيم أخرى. حيث لا يمكن – في تصورنا - للحديث عن القيم اليوم أن يكون منعزلًا عن تحولات الاقتصاد، وحالة الموارد العامة، وطبيعة الوصول إلى تلك الموارد، وأهميتها بالنسبة للفاعلين الاجتماعيين.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان
يمكن إيجاز الحالة الراهنة المشتركة للمجتمعات الإنسانية بأنها تعميقٌ لحالة «المجتمع التنافسي»، والمجتمع التنافسي هو المجتمع الذي يشتد فيه سعي الأفراد إلى «الحصول على الموارد» أو اكتساب «الموارد الجيدة»، أو «إيجاد موارد جديدة» لأجل البقاء واكتساب القيمة الاجتماعية. ويشتد في المجتمع التنافسي الضغط على الموارد بأشكالها المختلفة؛ من الضغط على فُرص العمل وشواغر الأسواق، إلى الضغط على فرص مواصلة التعليم، إلى الضغط على الحصول على مستهلكات أساسية جيدة، نحو الضغط على الخدمات والرعاية الصحية والاجتماعية الجيدة، وسواها من أشكال الضغط على خدمات البنى الأساسية. في المجتمع التنافسي تبدو هناك فرص واسعة لصعود قيم جديدة، وهبوط وتلاشي قيم أخرى، أو لتشكل أعراف اجتماعية جديدة، وطمس أعراف أخرى. ويكون في هذه الحالة المتحكم في صعود تلك القيم والأعراف أو تلاشيها ليس فقط «النسق الثقافي المتأصل للمجتمع» ومؤسساته، وإنما يدخل «السوق»، و«السياق العالمي»، و«وسائط الاتصال الحديثة»، و«المؤسسات العابرة للحدود» كلها أطرافا تأخذ مكانها في معادلة تشكيل القيم والأعراف، وبالتالي فإن حالة «الضبط الاجتماعي» تبدو عصية، وتحتاج إلى كثير من المراجعات؛ ليضمن المجتمع عدم حدوث تغير بنيوي (هيكلي) غير متسق مع اتزانه واستمراريته. وفي المقابل فإن حالة المجتمع التنافسي قد تفضي في مجتمعات معينة إلى تعزيز المُبتكرات، وتهيئة النظم الداخلية للمجتمع للتنافس على الريادة والإبداع، وتدفع باتجاه إيجاد قيمة أعلى للعمليات الاجتماعية مثل تعزيز قيمة التعليم والتعلم المستمر، وتعزيز أهمية وقيمة الصحة العامة، وتعزيز قيم الاستدامة في أوجهها المختلفة.
وإن كان عالم الاجتماع جورج زيمل في أدبياته يعد رائدًا لفكرة المجتمع التنافسي، فإنها عادت اليوم لتأخذ حيزها وخاصة لدى رواد فلسفة الأخلاق، نتيجة الهواجس التي تفرضها هذه الفكرة خاصة فيما يتصل بنشوء منظومة أخلاقية جديدة غير مركزية، وديناميكية. افترض زيمل في أطروحاته عدة فرضيات منها:
- المنافسة (الصراع الاجتماعي) مُحرك أساسي لديناميكيات التغير الاجتماعي فهو يدفع باتجاه تشكل سلوكيات جديدة ناجمة عن اختلاف (أهداف ومصالح وقيم الأفراد في المجتمع) وهو يرى أن التنافس (الصراع الاجتماعي) غالبًا ما يكون متمحورًا حول (الموارد بمفهومها الواسع - الوضع الاجتماعي للفرد أو الجماعة الاجتماعية – الاعتراف السياسي والمجتمعي).
- يرى زيمل كذلك أن المجتمعات التي لا تستطيع السيطرة أو توجيه التنافس يمكن أن تواجه (الصراع والتوتر وعدم المساواة الاجتماعية).
مؤخرًا، نشر عالم فلسفة الأخلاق سفين ثوربيورنسن كتابًا مهمًا؛ حمل عنوان «What Happens to People in a Competitive Society». وهو يشير فيه إلى واقع صراع القيم المحورية للوجود الإنساني في ظل «المنافسة الاقتصادية» مثل قيم «الزمالة – حُب الذات – إدراك الذات – الحرية». وكيف يمكن لها أن تكتسب أنماطًا ومعاني مختلفة في سياق مجتمعات مدفوعة بتحقيق الذات والبحث عن أعلى السلم في التراتب الاجتماعي.
تتوقع أبحاث مجموعة McKinsey & Company أن «الاستهلاك العالمي يمكن أن ينمو بمقدار 23 تريليون دولار بين عامي 2015 و2030» وأنه «سيكون هناك ما لا يقل عن 300 مليون شخص تزيد أعمارهم عن 65 عامًا أو أكبر». بالإضافة إلى توقع أن يكون «ما بين 400 مليون و800 مليون فرد يمكن أن يتم إزاحتهم عن طريق الأتمتة ويحتاجون إلى إيجاد وظائف جديدة بحلول عام 2030 حول العالم». هذه الأرقام نماذج لأشكال واسعة من الضغط على الموارد. ويبقى السؤال في حالة المجتمع العُماني: هل المجتمع العُماني في معزل عن حالة «المجتمع التنافسي» ؟. والإجابة في تقديرنا أن هذه الحالة تتعزز سواء بفعل حركة المجتمعات الإنسانية عمومًا، أو بفعل العوامل الداخلية المرتبطة بالموارد العامة (الطبيعية والمعنوية والاقتصادية)، أو بفعل حركة الكتلة السكانية. ولكن تبقى إدارة هذا التحول هي العنصر الأساسي الذي يجب التركيز عليه. وهذا يتأتى من خلال فاعلية «السياسة السكانية» سواء كانت هناك «سياسة مكتوبة» أو «سياسة ضمنية» حاضرة في اعتبار صانع السياسة العامة. والأهم أن تنطلق تلك السياسة من اعتبارين مهمين:
- كيف يمكن موازنة الكتلة السكانية الحالية بحالة الموارد العامة؟
-كيف يمكن ضمان التوجيه القيمي لحالة «المجتمع التنافسي» نحو الحفاظ على نسق القيم العامة والمقبولة والضامنة لاستقرار المجتمع؟
لابد في تقديرنا أن أي سياسات عامة قادمة يجب أن تأخذ في الاعتبار هذين السؤالين/ البعدين المهمين. والأهم أن تُدرك المؤسسات في سياقات عملها المختلفة الدور المحوري لها في توجيه مسار القيم العمومية نحو المسارات الإيجابية للتنافس. وكبح ظهور أية قيم تضر بالنسيج المجتمعي وتهدد استقراره. إن الحوار حول القيم لابد أن يأخذ مدخلًا مختلفًا اليوم عن مداخله التقليدية، وأن يكون أحد محركاته الأساسية فهم هذه الدوافع المتضافرة نحو التنافس، وكيف يمكن أن تنشئ قيما وتبطش بقيم أخرى. حيث لا يمكن – في تصورنا - للحديث عن القيم اليوم أن يكون منعزلًا عن تحولات الاقتصاد، وحالة الموارد العامة، وطبيعة الوصول إلى تلك الموارد، وأهميتها بالنسبة للفاعلين الاجتماعيين.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان