عند تعليم التفكير الناقد غالبا ما تتم الإشارة لـ «الوضوح» كأداة مهمة في هذا التفكير، تنطوي عليه ممارسات عديدة، منها تعريف المصطلحات التي نقوم باستخدامها. وفي أطروحة الماجستير أو الدكتوراة غالبا ما نخصص فصولا خاصة للمصطلحات، إلا أن هذا لا يكفي، فعادة ما تتم مطالبتنا بتخصيص فصول خاصة بالتعريفات الإجرائية، أي تلك التي اعتمدنا عليها في انحيازاتنا لتعريفات دون غيرها، على اعتبار أن هنالك اختلافا كبيرا بين مدرسة ومذهب وتيار معين في تعريفه لأي ظاهرة. لكن هل هذه الممارسة ضرورية بالفعل؟ وهل يمكن أن تأتي بنتائج عكسية؟ هذا ما يناقشه جيمس كاميان ماكجيجان في مقاله «الوضوح في الشعر يأتي من الغموض لا من التعريفات».

يبدأ ماكجيجان مقالته بمفارقة طريفة، وهي تعريف «التعريف» وهو شرح دقيق للمصطلح المحدد، يقتضي ألفاظا محددة بالكلمات. وهنالك بطبيعة الحال أسباب وجيهة لتحديد المصطلحات، اثنان منهما موجودان في ورقة نيكولاس جول «كيف يجب أن تكون الفلسفة واضحة» والصادرة عام 2009 أولا إذا أخبرت محاورك بالمصطلح الذي تستخدمه، فأنت تحرره بذلك من العمل المعرفي المتمثل في تحديد ما تعنيه بالضبط، وثانيا الحيلولة دون خطر الفهم الخاطئ أو التوصل لفهم المصطلح بصعوبة.

يقول ماكجيجان إن تعريف المصطلحات ليست حلا سحريا بالضرورة فنحن لسنا بحاجتها دائما. في عام 1963 قدم ادموند جيتيير في ثلاث صفحات تعريفا موجزا للمعرفة على أنها «اعتقاد صحيح مبرر» منذ ذلك الحين نمت وتزايدت محاولات تعريف «المعرفة» حتى تحولت لحقل فلسفي كامل، وما زلنا لا نعرف ما هي المعرفة.

يتفق ماكجيجان مع أهمية تعريف المصطلحات في سياقات عديدة، لكن ما يشير إليه هو حاجتنا لإعادة التفكير في هذه الممارسة في سياقات عديدة أخرى، أو حتى الإشارة لعدم أهميتها في مواقع عديدة. سواء في الكتابة أو الحياة اليومية. ويتخذ الشعر مثالا لذلك، إذ يمكن أن يكون الغموض أداة من أدوات الشاعر، يجادل الشاعر كارل فيلبس حول أن شكسبير في السوناتة 129 استخدم جملة معقدة مكونة من 12 سطرا لخلق حالة من الشرود اللازمة للوصول للمعنى. وبشكل عام فإن قصائد الشعراء ليست معاني كلماتهم فحسب، بل كيف يشعر القارئ عند قراءتها. يقول الشاعر بول تسيلان «الافتقار إلى الوضوح، شيء نطمح إليه» فالهدف هو التمثيل الصادق -بوضوح- غموضا في العالم نفسه، أو الاعتراف بعدم قدرة اللغة على تمثيل شيء على وجه تام. وهذا ما يشبه أعمالا سريالية تشبه حلما لتيار الوعي المعروف في الأدب.

يقدم ماكجيجان أمثلة من الشعر والأدب، هي أقرب ما تكون للوحي أو الصور التي لا يكون بالضرورة بحاجة لفك شيفراتها. يذكرني ذلك بالحجة الأولى لمن يقفون في مواجهة مع القصيدة الحداثية العربية، في كونها غير مفهومة! ألا يدفعنا ذلك للتساؤل.. ما معنى الفهم؟ وما علاقته أصلا بمدى استغراقنا اللغوي المادي المباشر في حياتنا اليومية؟ ومدى إيماننا بتعدد اللغات، ومحاولتنا المستمرة لخلق لغة تقبض على المعنى الذي نريد. ألا نؤمن بأن إيماءة تقول كل شيء مثلا؟

ماكجيجان يشير للصدى العاطفي للكلمات، الذي إذا ما حاول الدفع به نحو تفسيره يفسده، لذلك لا يكون هنالك من داع سوى للتنبيه لتلك الكلمة. إن الكلمات ستخلق مساراتها التي هي جزء من معناها، لكننا إذا ما قمنا بتعريفها فهي تقطع تلك المسارات. تلك المسارات قادرة على خلق نظام بيئي كامل. وهذا لا يعني التورية بالضرورة، بل تحقيق رسم روابط بين المفاهيم والتجارب التي تكمن وراءها. إذ إنه مرارا وتكرارا يمتد الشعر إلى الكلمات التي يجبرنا على النظر إليها من جديد، وبالمثل مع المواقف والتجارب التي تقف وراء تلك الكلمات، يقتبس الشاعر راندال جاريل عن غوته «المؤلف الذي يواكب ويتماشى المعجم معه لا يساوي شيئا».

بالنسبة لي ينبغي نقل هذا النقاش إلى مساحات أرحب عندما يتعلق الأمر بالكتابة الأدبية، بعيدا عن مفسدات الكتابة التي نعرفها ككتاب، التقريرية مثلا، إلى الحديث الضروري عن الفراغ في الكتابة والغموض باعتبارهما جزءا بنيويا من التعبير، حيث لا يهم أن نفسر أنفسنا وما نقول، أو أن نتخذ من القفز بين جمل قد تكون اعتباطية وعارضة لضرورة إيقاعية مثلا، كثيرا ما سمعت أن بعض نصوص كتابي الأول «مدخل جانبي إلى البيت» تسببت بلهاث قارئها وبالتنقل غير المفهوم أحيانا بين فقرة وأخرى، لم لا نتحدث عن أن الكاتب لا يفهم بالضرورة ما يقوله وهذا جزء من الارتباك الذي يحاول التعبير عنه من خلال هذه اللعبة. ربما يتضاد هذا مع الكتابة كصنعة، لكننا بحاجة لمراجعة هذا أيضا، في زمن سائل لا حدود له، لا وجود للصنعة، اللهو فقط هو ما يحكم على هذا الوسيط التعبيري مثل غيره من الأشياء.