كسْرُ الأنساق في النقد هو توجّه مزامنٌ لكسر النسق في أغلب المعارف الإنسانيّة، في زمن تعالت فيه الأصواتُ الداعية إلى «موت المؤلّف وولادة القارئ»، فسارعت الجامعات العربيّة «المستنيرة» إلى قتل المؤلّف وإبعاده من كلّ حديث في الخطاب الأدبي، وهي دعوة متناسقة عند الغرب مع شبكة معرفيّة ابستمولوجيّة وتراكميّة شائكة، تتناسق مع أبنية نقديّة لعلوم إنسانيّة مجاورة للنقد الأدبي، مثل الدعوة إلى «موت الإله» في التصوّر النيتشي في كتابيه أساسا «العلم المرح» و«هكذا تكلّم زرادشت»، والدعوة إلى موت الأيديولوجيات في التصوّرات السياسيّة، كما هو الحال في أعمال دانيال بيل وخاصّة في كتابه «نهاية الأيديولوجيا»، والدعوة إلى موت التاريخ ونهاية الإنسان كما هو الحال في التصوّر الفلسفي الاجتماعي والسياسي الذي نظّر له فرانسيس فوكوياما في كتابه الذي أثار ضجّة وردود أفعال وقراءات، «نهاية التاريخ والإنسان الأخير»، وأخيرا موت النقد الذي سايره بشكل سطحي الناقد العربي عبداللّه الغذامي وغيره من الذين أقرّوا بضرورة إنهاء النقد الأدبي وإحلال النقد الثقافي محلّه، يقول الغذامي: «النقد الأدبيّ غير مؤهّل لكشف هذا الخلل الثقافي، فقد كانت دعوتي بإعلان موت النقد الأدبيّ وإحلال النقد الثقافيّ مكانه»، ودعوته يُمكن أن تجد وجاهة إن كان الواقع الحضاري العربيّ يعيش الواقع الغربيّ نفسه الذي تمّت فيه هذه الدعوات، ولكن قتْل النقد الأدبيّ واستبداله بمقاربة من النقد الثقافيّ مؤدْلجة وغير بيّنة الملامح، ومتعسّفة على الخطاب الأدبيّ الذي تردّه إلى عُمق ثقافيّ تتصارع فيه هويّات وإثنيات وقوميّات بحثا عن النسق الثقافي الأعمق هو عودٌ إلى نقد ممجوج شبيه بالنقد الماركسيّ التروتسكي الحرفيّ.
مشكلية النقد العربيّ أنّه يستلم الرؤى الجاهزة في التصوّرات الغربيّة ويُخرجها من فضائها الابستيمي والمعرفي والتاريخي والحضاري ويُسقطها على نصوص أدبيّة عربيّة، مؤمنا بأبعادها وبقوّة اختبارها، ولقد رأينا سابقا أن المنهج البنيوي -على سبيل المثال- قد فشل فشلا ذريعا في النقد العربيّ على قوّة نجاعته نظريا واختباريا في الفضاء الغربي، ذلك أنّ صورة مشهورة لمنظّري البنيوية بارط -ليفي ستراوس- لاكان- دريدا، راجت بشكل كاريكاتوري يُمكن أن تعطينا فكرة على أن النقد يُمثّل بنية فكريّة متعالقة وليس صورة مجتثّة، تجتمع فيه الفلسفة مع علم الإناسة، مع علم اللسان، مع علم النفس، مع علم الاجتماع، مع النقد الأدبيّ، ولذلك، فإنّ البنيويّة التي سادت في ستينيات القرن العشرين لم تختصّ بالنقد فحسب، بل كان منشؤها نابعا من دروس علم الإناسة، ثمّ من دروس علوم اللسان ومنها انتشرت البنيويّة في تفاعل بين العلوم إلى علم النفس وعلم الاجتماع والفلسفة والنقد الأدبي، فكان النقد مستندا إلى أرضيّة معرفيّة واسعة ومتناسقة، وفّرت نجاعةً وعمقا في تطبيق هذا المنهج.
كنّا في تسعينيّات القرن العشرين في الجامعة مهووسين بالمناهج البنيوية والإنشائيّة نطبّقها بعمى أكاديمي مبالغ فيه، حتّى أنّ أساتذتنا إن زلّ لسان أحدنا ذاكرا المؤلّف أو الكاتب كانوا يقرّعونه ويجهّلونه. هذه الصنميّة في التعامل مع مناهج النقد الغربيّة تدعونا إلى التفكير في نجاعتها بوجود عاملين مهمّين، العامل الأوّل -كما سلف أن ذكرنا- يتمثّل في أنّ المناهج النقديّة الحديثة هي نتاج تفاعل حضاري يخصّ واقعا بعينه، العامل الثاني ظاهر في مقابلة الصنمية العربيّة بليونة لدى الغرب في إجراء هذه المناهج. وبسبب من هذه الصنميّة من جهة، ومن «تقديس» الفكر الغربي من جهة ثانية، فقد توفّر نقد عربيّ «هجين»، مُروّج للصدى فقط، كشعاراتنا في كل ما نأتي به من الغرب. لقد كانت دراسة كمال أبو ديب للشعر الجاهلي «الرؤى المقنعة، نحو منهج بنيوي في دراسة الشعر الجاهلي» كسْرا للشعر الجاهليّ وسلبا لكلّ ما يُمكن أن يختصّ به، كانت عملا مبتورا ومُسقَطا. لا يُمكن في ظنّي إطلاقا أن ندرس الشعر الجاهليّ دراسة بنيويّة خالصة، ولا يُمكن في الأدب العربي أن نغفل المؤلّف بشحمه ولحمه. من معايب درسنا النقدي الجامعيّ هو الإيمان المطلق بالمناهج الغربيّة واجتثاثها من بيئتها وإعمالها في نصوص عربيّة لها منابع وخصائص مختلفة. الخلل الحاصلُ في التلقّي العربيّ الأكاديميّ تحديدا ماثلٌ في انعدام وجود العقل النقدي الحقيقي الذي لا يُمكن أن يكون عقل الأستاذ المتعالي المقدّم لحقائق يُعلّمها ويراها مطلقة، وذاك هو معقل المأساة والجهل، العقل الناقد هو عقل نسبيّ مؤمن بالاختلاف، ليس عقلا لافظا ولا رافضا. الغالب في منظومة نقد الأساتذة، هو «يجوز» و«لا يجوز»، والحقّ هو غلبة، «هذا ممكن مع وجود إمكانات أخرى». لقد عاينتُ أكثر من مرة هذا العقل التعليمي الخاوي من كلّ مساحة لتقبّل الاختلاف، العقل المحشوّ بالإيمان اليقيني بالمعرفة الأحادية المعتمة التي يكتسبها في رفض لكلّ معرفة مختلفة، حتّى أنّ بعضهم كان يردّ الصحيح ويبثّ الخطأ الذي في ظنّه هو الصواب، فكان أحدهم يرغد ويزبد مناقشا الطالب دكتورا قائلا: «كيف تستعمل مصطلح شعريّة النثر، فهل هنالك شعر في النثر؟» وأمر الطالب بتغيير المصطلح، وهو في جهله، لا يعلم أنّ «شعريّة النثر» هو عنوان كتاب لتودوروف، وأنّ شعريّة النثر هنا هي ترجمة للمصطلح النقدي the poetics of prose الذي دافع عنه أصل من أصول النقد الحديث، وأنّ مصطلح «شعريّة النثر، هو مصطلح يختصّ بالنظر في النصوص النثريّة بحثا عمّا به يتميّز خطاب نثري ما.
أين الحلّ في هذا النقد التهديمي الذي أدعو إليه؟ الحلّ -كما ذكرت سابقا- ماثلٌ في حاجتنا إلى معرفة دقيقة بهذا النقد الحديث، وفي ذات الآن وجب أن نتخلّص من الصنميّة وأن نُطوّع هذه الأدوات لخدمة الخطاب الأدبيّ العربيّ، ثانيا نحتاج إلى عقول نقديّة حقيقيّة لا تتصلّب بالإيمان والاقتناع بما تحمله من «علم» زائل، بل يكون لها في أدمغتها متنفّس وريح يُمكن أن تجول لتتفكّر والتدبّر، ثالثا، المعرفة الدقيقة بالنقد القديم. النقد العربيّ القديم الذي شكّل نسقا معرفيّا متناسقا مع واقعه، فانصبّ فيه الفقهي والتاريخي والأدبيّ والعرقيّ.
مشكلية النقد العربيّ أنّه يستلم الرؤى الجاهزة في التصوّرات الغربيّة ويُخرجها من فضائها الابستيمي والمعرفي والتاريخي والحضاري ويُسقطها على نصوص أدبيّة عربيّة، مؤمنا بأبعادها وبقوّة اختبارها، ولقد رأينا سابقا أن المنهج البنيوي -على سبيل المثال- قد فشل فشلا ذريعا في النقد العربيّ على قوّة نجاعته نظريا واختباريا في الفضاء الغربي، ذلك أنّ صورة مشهورة لمنظّري البنيوية بارط -ليفي ستراوس- لاكان- دريدا، راجت بشكل كاريكاتوري يُمكن أن تعطينا فكرة على أن النقد يُمثّل بنية فكريّة متعالقة وليس صورة مجتثّة، تجتمع فيه الفلسفة مع علم الإناسة، مع علم اللسان، مع علم النفس، مع علم الاجتماع، مع النقد الأدبيّ، ولذلك، فإنّ البنيويّة التي سادت في ستينيات القرن العشرين لم تختصّ بالنقد فحسب، بل كان منشؤها نابعا من دروس علم الإناسة، ثمّ من دروس علوم اللسان ومنها انتشرت البنيويّة في تفاعل بين العلوم إلى علم النفس وعلم الاجتماع والفلسفة والنقد الأدبي، فكان النقد مستندا إلى أرضيّة معرفيّة واسعة ومتناسقة، وفّرت نجاعةً وعمقا في تطبيق هذا المنهج.
كنّا في تسعينيّات القرن العشرين في الجامعة مهووسين بالمناهج البنيوية والإنشائيّة نطبّقها بعمى أكاديمي مبالغ فيه، حتّى أنّ أساتذتنا إن زلّ لسان أحدنا ذاكرا المؤلّف أو الكاتب كانوا يقرّعونه ويجهّلونه. هذه الصنميّة في التعامل مع مناهج النقد الغربيّة تدعونا إلى التفكير في نجاعتها بوجود عاملين مهمّين، العامل الأوّل -كما سلف أن ذكرنا- يتمثّل في أنّ المناهج النقديّة الحديثة هي نتاج تفاعل حضاري يخصّ واقعا بعينه، العامل الثاني ظاهر في مقابلة الصنمية العربيّة بليونة لدى الغرب في إجراء هذه المناهج. وبسبب من هذه الصنميّة من جهة، ومن «تقديس» الفكر الغربي من جهة ثانية، فقد توفّر نقد عربيّ «هجين»، مُروّج للصدى فقط، كشعاراتنا في كل ما نأتي به من الغرب. لقد كانت دراسة كمال أبو ديب للشعر الجاهلي «الرؤى المقنعة، نحو منهج بنيوي في دراسة الشعر الجاهلي» كسْرا للشعر الجاهليّ وسلبا لكلّ ما يُمكن أن يختصّ به، كانت عملا مبتورا ومُسقَطا. لا يُمكن في ظنّي إطلاقا أن ندرس الشعر الجاهليّ دراسة بنيويّة خالصة، ولا يُمكن في الأدب العربي أن نغفل المؤلّف بشحمه ولحمه. من معايب درسنا النقدي الجامعيّ هو الإيمان المطلق بالمناهج الغربيّة واجتثاثها من بيئتها وإعمالها في نصوص عربيّة لها منابع وخصائص مختلفة. الخلل الحاصلُ في التلقّي العربيّ الأكاديميّ تحديدا ماثلٌ في انعدام وجود العقل النقدي الحقيقي الذي لا يُمكن أن يكون عقل الأستاذ المتعالي المقدّم لحقائق يُعلّمها ويراها مطلقة، وذاك هو معقل المأساة والجهل، العقل الناقد هو عقل نسبيّ مؤمن بالاختلاف، ليس عقلا لافظا ولا رافضا. الغالب في منظومة نقد الأساتذة، هو «يجوز» و«لا يجوز»، والحقّ هو غلبة، «هذا ممكن مع وجود إمكانات أخرى». لقد عاينتُ أكثر من مرة هذا العقل التعليمي الخاوي من كلّ مساحة لتقبّل الاختلاف، العقل المحشوّ بالإيمان اليقيني بالمعرفة الأحادية المعتمة التي يكتسبها في رفض لكلّ معرفة مختلفة، حتّى أنّ بعضهم كان يردّ الصحيح ويبثّ الخطأ الذي في ظنّه هو الصواب، فكان أحدهم يرغد ويزبد مناقشا الطالب دكتورا قائلا: «كيف تستعمل مصطلح شعريّة النثر، فهل هنالك شعر في النثر؟» وأمر الطالب بتغيير المصطلح، وهو في جهله، لا يعلم أنّ «شعريّة النثر» هو عنوان كتاب لتودوروف، وأنّ شعريّة النثر هنا هي ترجمة للمصطلح النقدي the poetics of prose الذي دافع عنه أصل من أصول النقد الحديث، وأنّ مصطلح «شعريّة النثر، هو مصطلح يختصّ بالنظر في النصوص النثريّة بحثا عمّا به يتميّز خطاب نثري ما.
أين الحلّ في هذا النقد التهديمي الذي أدعو إليه؟ الحلّ -كما ذكرت سابقا- ماثلٌ في حاجتنا إلى معرفة دقيقة بهذا النقد الحديث، وفي ذات الآن وجب أن نتخلّص من الصنميّة وأن نُطوّع هذه الأدوات لخدمة الخطاب الأدبيّ العربيّ، ثانيا نحتاج إلى عقول نقديّة حقيقيّة لا تتصلّب بالإيمان والاقتناع بما تحمله من «علم» زائل، بل يكون لها في أدمغتها متنفّس وريح يُمكن أن تجول لتتفكّر والتدبّر، ثالثا، المعرفة الدقيقة بالنقد القديم. النقد العربيّ القديم الذي شكّل نسقا معرفيّا متناسقا مع واقعه، فانصبّ فيه الفقهي والتاريخي والأدبيّ والعرقيّ.