ترجمة - قاسم مكي -
إذا منحك شبهُ الإجماعِ المثير على دعم أوكرانيا في أوروبا إحساسا بالاستقرار السياسي في تلك القارة فعليك أن تفكر مرة أخرى. فالأحداث الأخيرة في فرنسا ونيذرلاندز توضح أن الحقيقة مختلفة جدا.
لقد هزت الاحتجاجات الشعبوية كلا البلدين في الشهور الأخيرة. في فرنسا تحولت الاحتجاجات إلى العنف في بعض الأوقات. فالمتظاهرون الذين أثارت غضبهم إصلاحات الرئيس فرانسوا ماكرون لنظام التقاعد اصطدموا بالشرطة. وفي نيذرلاندز احتج المزارعون على قوانين المناخ الحكومية الجديدة التي من شأنها تقليل تربية الأبقار بقدر مثير وإجبار العديدين على ترك هذه المهنة. ومن المستبعد أن تختفي هاتان المجموعتان من الخصوم السياسيين في وقت قريب.
زعزعت كلتا الحركتين حكومتي البلدين. فقد اتجه مزارعو نيذرلاندز نحو حزب سياسي جديد هو حركة المواطن المزارع (المعروف اختصارا باسم بي بي بي). صدم هذا الحزب المحللين باحتلاله المركز الأول في الانتخابات الإقليمية الأخيرة بعد فوزه بما يقرب من 20% من الأصوات وبأكثر من 30% في المقاطعات الريفية مثل درينته وأوفيريسيل.
هذا الفوز سيعقد موقف حكومة رئيس الوزراء مارك روته المشكَّلة من أربعة أحزاب. فهي الآن ستحتاج إلى الحصول على دعم من هذا الحزب أو من حزبين آخرين لإجازة التشريعات عبر مجلس الشيوخ.
وفي فرنسا وضعُ ماكرون بالكاد أكثر استقرارا على الرغم من نجاة حكومته من تصويتين بسحب الثقة في الشهر الماضي. في التصويت الأول فشلت المعارضة الشعبوية اليسارية المتطرفة واليمينية المتطرفة معا في تفكيك ائتلاف ماكرون بعد خسارتها بـ9 أصوات فقط مع انضمام 40 مشرِّعا إليها من تيار الوسط والمحافظين. وسيجد الجمهوريون المحافظون على وجه الخصوص صعوبة بالغة في مواصلة دعم حكومة ماكرون مع تحول ناخبيهم نحو حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف بقيادة لوبان.
ومع تراجع شعبية ماكرون بنسبة 28% في استطلاع حديث واستمرار الاحتجاجات يكافح الرئيس الفرنسي من أجل بقائه السياسي.
تعاني فرنسا ونيذرلاندز من المشكلة نفسها وهي كما يبدو عدم رغبة قاعدة حضرية (مدينية) مرتاحة في التسوية.
ائتلاف مارك روته الحاكم في نيذرلاندز يستمد تأييده من منطقة المدن النيذرلاندية وضواحيها المعروفة باسم «راندستاد»، التي تشمل أمستردام وروتردام. وعلى الرغم من استمرار الاحتجاجات لشهور لم يتراجع الناخبون في تلك المدن عن مطالبهم أن يفسح المزارعون المجال لمحاربة التغير المناخي. أما خارج ذلك الوسط الغني فيستشيط النيذرلانديون غضبا.
تأييد ماكرون أيضا يأتي من أجزاء مزدهرة من فرنسا. فالهامش الكبير والمضلل في الأصوات الانتخابية بينه وبين زعيمة اليمين المتطرف لوبان في العام الماضي جاء في جزء كبير منه من المناطق الحضرية مثل إيل دو فرانس الباريسية. ويأتي معظم المشرعين الذين يؤيدون الحكومة بشكل غير متناسب من تلك المناطق.
ويظهر أحدث استطلاع فرنسي أن تحالفه سيفقد مقاعد إذا فرض نجاحُ تصويتٍ بسحب الثقة انتخاباتٍ جديدة. وكان هذا الاستطلاع قد جرى قبل قراره الإشكالي بتبني قانون معاشات بدون إجازته من البرلمان.
لكن تماما مثل النيذرلانديين لم يُبدِ ماكرون أو مؤيدوه الأشدُّ ولاء أي اهتمام بالتسوية وتهدئة المعارضة.
هذا العناد يعزز المشاعر الشعبوية حول القارة. فمن المفهوم أن يتجه الناس الغاضبون من الوضع القائم إلى الأحزاب المتطرفة عندما لا يرون أن هنالك فرصة للإصلاح من الداخل.
هذا بدوره يشجع قادة تلك الأحزاب على تكثيف انتقاداتهم للمحافظة على تأييدهم. وسيتواصل الضغط على «السَّدِّ» السياسي مع ما ينطوي عليه ذلك من مخاطر انهياره الكارثي.
تظهِر البلدان الأوروبية الأخرى علامات توتر مماثلة. ففنلندا وبلغاريا أجرت كل منهما انتخابات في الثاني من أبريل. وتنافس الأحزاب الشعبوية بقوة في كلا البلدين. وحزب الحرية اليميني المتطرف يقود الآن الاستطلاعات في النمسا. أما في البرتغال فحزب شيغا (كفاية) اليميني المتطرف يحصل الآن على نسبة قياسية من الأصوات تبلغ 14% فيما يتراجع الاشتراكيون الذين يتولون الحكم.
حتى ألمانيا المستقرة شهدت تصاعدا في تأييد حزبها اليميني المتطرف (حزب البديل لألمانيا) في الشهور الأخيرة.
ويبدو أن الحكم من الوسط في ائتلافات الأحزاب الكبيرة وهو المقاربة المفضلة للنخب في كل مكان لن يوقف المدَّ (الشعبوي) أيضا.
مته فريدريكسن رئيسة وزراء الدنمارك وزعيمة الحزب الديمقراطي الاشتراكي حاولت ذلك بعد انتخابات بلادها بالانضمام إلى حزب المعتدلين الذي تشكل حديثا وحزب يمين الوسط الليبرالي «فينستريه» المنافس التاريخي لحزبها.
وفقد حزب فينستريه والديمقراطيون الاشتراكيون التأييد منذ ذلك الوقت لأحزاب اليسار واليمين. وتكشف الاستطلاعات أن الحكومة ستخسر الانتخابات بسهولة إذا أجريت اليوم.
وافترضت النخب الغربية أنها يمكنها بالحصافة الصمود أمام هذه العاصفة الشعبوية، لكن بدلا من ذلك صار من الواضح باطراد أن الغرب يواجه عصرا شبيها بالحقبة الديمقراطية الاشتراكية التي وَسَمَت القرن العشرين. وسيحتاج التكيف مع ذلك إلى أكثر من الصبر، إنه يتطلب تغييرا حقيقيا وجذريا.
أولسن زميل أول بمركز الأخلاق والسياسات العامة وكاتب رأي في صحيفة واشنطن بوست.
الترجمة خاصة لـ «$»
إذا منحك شبهُ الإجماعِ المثير على دعم أوكرانيا في أوروبا إحساسا بالاستقرار السياسي في تلك القارة فعليك أن تفكر مرة أخرى. فالأحداث الأخيرة في فرنسا ونيذرلاندز توضح أن الحقيقة مختلفة جدا.
لقد هزت الاحتجاجات الشعبوية كلا البلدين في الشهور الأخيرة. في فرنسا تحولت الاحتجاجات إلى العنف في بعض الأوقات. فالمتظاهرون الذين أثارت غضبهم إصلاحات الرئيس فرانسوا ماكرون لنظام التقاعد اصطدموا بالشرطة. وفي نيذرلاندز احتج المزارعون على قوانين المناخ الحكومية الجديدة التي من شأنها تقليل تربية الأبقار بقدر مثير وإجبار العديدين على ترك هذه المهنة. ومن المستبعد أن تختفي هاتان المجموعتان من الخصوم السياسيين في وقت قريب.
زعزعت كلتا الحركتين حكومتي البلدين. فقد اتجه مزارعو نيذرلاندز نحو حزب سياسي جديد هو حركة المواطن المزارع (المعروف اختصارا باسم بي بي بي). صدم هذا الحزب المحللين باحتلاله المركز الأول في الانتخابات الإقليمية الأخيرة بعد فوزه بما يقرب من 20% من الأصوات وبأكثر من 30% في المقاطعات الريفية مثل درينته وأوفيريسيل.
هذا الفوز سيعقد موقف حكومة رئيس الوزراء مارك روته المشكَّلة من أربعة أحزاب. فهي الآن ستحتاج إلى الحصول على دعم من هذا الحزب أو من حزبين آخرين لإجازة التشريعات عبر مجلس الشيوخ.
وفي فرنسا وضعُ ماكرون بالكاد أكثر استقرارا على الرغم من نجاة حكومته من تصويتين بسحب الثقة في الشهر الماضي. في التصويت الأول فشلت المعارضة الشعبوية اليسارية المتطرفة واليمينية المتطرفة معا في تفكيك ائتلاف ماكرون بعد خسارتها بـ9 أصوات فقط مع انضمام 40 مشرِّعا إليها من تيار الوسط والمحافظين. وسيجد الجمهوريون المحافظون على وجه الخصوص صعوبة بالغة في مواصلة دعم حكومة ماكرون مع تحول ناخبيهم نحو حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف بقيادة لوبان.
ومع تراجع شعبية ماكرون بنسبة 28% في استطلاع حديث واستمرار الاحتجاجات يكافح الرئيس الفرنسي من أجل بقائه السياسي.
تعاني فرنسا ونيذرلاندز من المشكلة نفسها وهي كما يبدو عدم رغبة قاعدة حضرية (مدينية) مرتاحة في التسوية.
ائتلاف مارك روته الحاكم في نيذرلاندز يستمد تأييده من منطقة المدن النيذرلاندية وضواحيها المعروفة باسم «راندستاد»، التي تشمل أمستردام وروتردام. وعلى الرغم من استمرار الاحتجاجات لشهور لم يتراجع الناخبون في تلك المدن عن مطالبهم أن يفسح المزارعون المجال لمحاربة التغير المناخي. أما خارج ذلك الوسط الغني فيستشيط النيذرلانديون غضبا.
تأييد ماكرون أيضا يأتي من أجزاء مزدهرة من فرنسا. فالهامش الكبير والمضلل في الأصوات الانتخابية بينه وبين زعيمة اليمين المتطرف لوبان في العام الماضي جاء في جزء كبير منه من المناطق الحضرية مثل إيل دو فرانس الباريسية. ويأتي معظم المشرعين الذين يؤيدون الحكومة بشكل غير متناسب من تلك المناطق.
ويظهر أحدث استطلاع فرنسي أن تحالفه سيفقد مقاعد إذا فرض نجاحُ تصويتٍ بسحب الثقة انتخاباتٍ جديدة. وكان هذا الاستطلاع قد جرى قبل قراره الإشكالي بتبني قانون معاشات بدون إجازته من البرلمان.
لكن تماما مثل النيذرلانديين لم يُبدِ ماكرون أو مؤيدوه الأشدُّ ولاء أي اهتمام بالتسوية وتهدئة المعارضة.
هذا العناد يعزز المشاعر الشعبوية حول القارة. فمن المفهوم أن يتجه الناس الغاضبون من الوضع القائم إلى الأحزاب المتطرفة عندما لا يرون أن هنالك فرصة للإصلاح من الداخل.
هذا بدوره يشجع قادة تلك الأحزاب على تكثيف انتقاداتهم للمحافظة على تأييدهم. وسيتواصل الضغط على «السَّدِّ» السياسي مع ما ينطوي عليه ذلك من مخاطر انهياره الكارثي.
تظهِر البلدان الأوروبية الأخرى علامات توتر مماثلة. ففنلندا وبلغاريا أجرت كل منهما انتخابات في الثاني من أبريل. وتنافس الأحزاب الشعبوية بقوة في كلا البلدين. وحزب الحرية اليميني المتطرف يقود الآن الاستطلاعات في النمسا. أما في البرتغال فحزب شيغا (كفاية) اليميني المتطرف يحصل الآن على نسبة قياسية من الأصوات تبلغ 14% فيما يتراجع الاشتراكيون الذين يتولون الحكم.
حتى ألمانيا المستقرة شهدت تصاعدا في تأييد حزبها اليميني المتطرف (حزب البديل لألمانيا) في الشهور الأخيرة.
ويبدو أن الحكم من الوسط في ائتلافات الأحزاب الكبيرة وهو المقاربة المفضلة للنخب في كل مكان لن يوقف المدَّ (الشعبوي) أيضا.
مته فريدريكسن رئيسة وزراء الدنمارك وزعيمة الحزب الديمقراطي الاشتراكي حاولت ذلك بعد انتخابات بلادها بالانضمام إلى حزب المعتدلين الذي تشكل حديثا وحزب يمين الوسط الليبرالي «فينستريه» المنافس التاريخي لحزبها.
وفقد حزب فينستريه والديمقراطيون الاشتراكيون التأييد منذ ذلك الوقت لأحزاب اليسار واليمين. وتكشف الاستطلاعات أن الحكومة ستخسر الانتخابات بسهولة إذا أجريت اليوم.
وافترضت النخب الغربية أنها يمكنها بالحصافة الصمود أمام هذه العاصفة الشعبوية، لكن بدلا من ذلك صار من الواضح باطراد أن الغرب يواجه عصرا شبيها بالحقبة الديمقراطية الاشتراكية التي وَسَمَت القرن العشرين. وسيحتاج التكيف مع ذلك إلى أكثر من الصبر، إنه يتطلب تغييرا حقيقيا وجذريا.
أولسن زميل أول بمركز الأخلاق والسياسات العامة وكاتب رأي في صحيفة واشنطن بوست.
الترجمة خاصة لـ «$»