نعيش لحظات سيريالية في حاضرنا المتوج بالصراعات على عدة مستويات وفي ميادين شتى، ففي الوقت الذي تتصاعد فيه الحركات العنصرية والشعوبية في أوروبا على وجه التحديد، يصل حمزة يوسف (1986) المسلم إلى رئاسة وزراء اسكتلندا، كما سبقه ابن قارته الهندية ريشي سوناك (1980) إلى الرئاسة في المملكة المتحدة. فهل يعني ذلك أن أبناء المستعمرات سيحكمون البلاد التي استعمرت بلادهم؟! أم أنها لحظة عابرة في التاريخ لا تعبر عن ظاهرة واضحة، بل يرجع السبب في بلوغ أبناء المهاجرين إلى الحكم، هو غياب القومية وسيادة روح الدولة واستحقاقات المواطنة.
لكن وصول أبناء المهاجرين إلى المواقع السياسية في أوروبا، رافقه إحياء المشاعر القومية في أكثر من بلد، نتيجة تهافت المهاجرون إلى الفردوس الأوروبي كما يحلمون. وتتمظهر أشكال العنصرية في حملات حرق الكريم في الدول الاسكندنافية، المعروفة عنها باحترام حقوق الإنسان وإيواء المهاجرين من كل أنحاء العالم. فهل هناك فعلا تراجع في مسألة حقوق الإنسان في دولة مثل السويد التي أحرق فيها المصحف الشريف قبل عدة أشهر، أم أن هناك ازدواجية في المعايير، أو الكيل بمكيالين كما يقال. وللتثبت من ذلك تواصلت مع صديقة عربية تعيش في السويد منذ سنوات وناشطة في الشأن الثقافي والحقوقي، ومتزوجة من سويدي اسكندنافي. وأخبرتني بالخروقات التي تنفذها السلطات في مجال حق الرأي والتعبير، ففي مداخلة إذاعية في أهم القنوات الإذاعية في السويد، قارنت بين بعض الممارسات التي لا تزال قائمة في بعض البلاد العربية، وبين الممارسات الملكية في السويد في الماضي، خاصة في مجال توريث الحكم للنساء. فقالت تفاجأت بحذف حديثها في هذه الجزئية من الموضوع. وتتساءل أين حق الرأي والتعبير، الذي تتشدق به الألسن. أيضا صارحتني بنيتها في الرجوع إلى منطقة الخليج والبحث عن استقرار في بيئة تشهد استقرارا سياسيا، ونموا اقتصاديا نسبيا.
قبلها يخبرني صديق عربي من الدول المغاربية، مقيم في كندا ولديه استثمارات وأنشطة تجارية، أنه يفكر في الرجوع إلى بلده، أو إلى أي دولة خليجية، ليتربى أبناؤه في بيئات عربية وإسلامية. ولا يقتصر الحنين إلى الوطن على المهاجرين العرب بل يمتد إلى الآسيويين المقيمين في أوروبا، ففي مطعم بيتزا في مدينة البندقية (فينيسيا) يملكه مهاجر بنغالي، أخبرني بعربية مفهومة أنه ينوي الرجوع إلى بنجلاديش، والاستثمار فيها، لأنه لا يريد لابنته أن تعيش مراهقتها في إيطاليا، أو تتربى على قيم الثقافة الإيطالية التي يحمل جنسيتها، وهاجر إليها عبر آسيا الوسطى وشرق أوروبا، وعاش فيها وحصل على جنسيتها.
طبعا هناك عدة أمثلة وتجارب لمهاجرين حصلوا على مبتغاهم من الدول الأوروبية ولم يعد فيها شيئا مغريا، فبمجرد الحصول على الجنسية وباقي حقوق المواطنة، يُفكر المهاجر في البلد الذي هاجر منه. وقد حاول أمين معلوف (1949) في كتابه الهويات القاتلة، تفكيك مسألة الهوية بالنسبة للمهاجر والمقيم الأصيل، هو الذي يُعرّف نفسه بأنه المسيحي اللبناني الفرنسي، لغته الأم العربية، ويكتب بالفرنسية، ويقرأ بالإنجليزية. هاجر من لبنان بعد الحرب الأهلية، وخبر آلام الحرب، واستقر في فرنسا، فكتب وألف بلغة فولتير وأصبح عضوا في الأكاديمية الفرنسية منذ 2011، يقول في كتاب الهويات القاتلة: «في مسألة الهجرة، يتمثل المفهوم الأول في اعتبار البلد المضيف صفحة بيضاء يمكن لكل واحد أن يسطر عليها ما يحلو له، أو أسوأ من ذلك، أرضا مشاعا يمكن لأي كان أن يستقر فيها مع أسلحته ومتاعه دون أن يغير شيئا في سلوكه أو عاداته. ويرى المفهوم الثاني أن البلد المضيف صفحة مكتوبة ومطبوعة أصلا، أو أرض قد تحددت نهائيا قوانينها وقيمها ومعتقداتها وسماتها الحضارية والإنسانية، وما على المهاجرين سوى الامتثال لها».
وتبقى المجتمعات الغربية رغم كل ما حدث ويحدث فيها، بلادا معيارية لبعض الحقوق والواجبات، وهو ما أشار إليه الروائي البيروفي ماريو برغاس يوسا (1936-) في جلسة حوارية في التلفزيون الإسباني سنة 1987، بمشاركة الشاعر المكسيكي أوكتافيو باث (1914-1998) الذي قال: «أحزن لرؤية مجتمعات الغرب؛ لأنها تبدو مقيدة بعبادة النجاح والمال، ويجري تحريكها عبر البروباجاندا وثقافة الاستهلاك..»، ليرد عليه يوسا الذي استحضر جملة من سيرة الفيلسوف النمساوي كارل بوبر (1902-1994) «المجتمعات الأوروبية مليئة بالعيوب ولا بد من انتقادها من وجهات نظر متنوعة، لكن من المهم التذكير بأنه لم يعش الإنسان بصورة أفضل قط مما عاشه في هذه المجتمعات، بل إنه لم يصل إلى أبعد مما وصل إليه في مجالات الحريات والمساواة والفرص...».
لكن وصول أبناء المهاجرين إلى المواقع السياسية في أوروبا، رافقه إحياء المشاعر القومية في أكثر من بلد، نتيجة تهافت المهاجرون إلى الفردوس الأوروبي كما يحلمون. وتتمظهر أشكال العنصرية في حملات حرق الكريم في الدول الاسكندنافية، المعروفة عنها باحترام حقوق الإنسان وإيواء المهاجرين من كل أنحاء العالم. فهل هناك فعلا تراجع في مسألة حقوق الإنسان في دولة مثل السويد التي أحرق فيها المصحف الشريف قبل عدة أشهر، أم أن هناك ازدواجية في المعايير، أو الكيل بمكيالين كما يقال. وللتثبت من ذلك تواصلت مع صديقة عربية تعيش في السويد منذ سنوات وناشطة في الشأن الثقافي والحقوقي، ومتزوجة من سويدي اسكندنافي. وأخبرتني بالخروقات التي تنفذها السلطات في مجال حق الرأي والتعبير، ففي مداخلة إذاعية في أهم القنوات الإذاعية في السويد، قارنت بين بعض الممارسات التي لا تزال قائمة في بعض البلاد العربية، وبين الممارسات الملكية في السويد في الماضي، خاصة في مجال توريث الحكم للنساء. فقالت تفاجأت بحذف حديثها في هذه الجزئية من الموضوع. وتتساءل أين حق الرأي والتعبير، الذي تتشدق به الألسن. أيضا صارحتني بنيتها في الرجوع إلى منطقة الخليج والبحث عن استقرار في بيئة تشهد استقرارا سياسيا، ونموا اقتصاديا نسبيا.
قبلها يخبرني صديق عربي من الدول المغاربية، مقيم في كندا ولديه استثمارات وأنشطة تجارية، أنه يفكر في الرجوع إلى بلده، أو إلى أي دولة خليجية، ليتربى أبناؤه في بيئات عربية وإسلامية. ولا يقتصر الحنين إلى الوطن على المهاجرين العرب بل يمتد إلى الآسيويين المقيمين في أوروبا، ففي مطعم بيتزا في مدينة البندقية (فينيسيا) يملكه مهاجر بنغالي، أخبرني بعربية مفهومة أنه ينوي الرجوع إلى بنجلاديش، والاستثمار فيها، لأنه لا يريد لابنته أن تعيش مراهقتها في إيطاليا، أو تتربى على قيم الثقافة الإيطالية التي يحمل جنسيتها، وهاجر إليها عبر آسيا الوسطى وشرق أوروبا، وعاش فيها وحصل على جنسيتها.
طبعا هناك عدة أمثلة وتجارب لمهاجرين حصلوا على مبتغاهم من الدول الأوروبية ولم يعد فيها شيئا مغريا، فبمجرد الحصول على الجنسية وباقي حقوق المواطنة، يُفكر المهاجر في البلد الذي هاجر منه. وقد حاول أمين معلوف (1949) في كتابه الهويات القاتلة، تفكيك مسألة الهوية بالنسبة للمهاجر والمقيم الأصيل، هو الذي يُعرّف نفسه بأنه المسيحي اللبناني الفرنسي، لغته الأم العربية، ويكتب بالفرنسية، ويقرأ بالإنجليزية. هاجر من لبنان بعد الحرب الأهلية، وخبر آلام الحرب، واستقر في فرنسا، فكتب وألف بلغة فولتير وأصبح عضوا في الأكاديمية الفرنسية منذ 2011، يقول في كتاب الهويات القاتلة: «في مسألة الهجرة، يتمثل المفهوم الأول في اعتبار البلد المضيف صفحة بيضاء يمكن لكل واحد أن يسطر عليها ما يحلو له، أو أسوأ من ذلك، أرضا مشاعا يمكن لأي كان أن يستقر فيها مع أسلحته ومتاعه دون أن يغير شيئا في سلوكه أو عاداته. ويرى المفهوم الثاني أن البلد المضيف صفحة مكتوبة ومطبوعة أصلا، أو أرض قد تحددت نهائيا قوانينها وقيمها ومعتقداتها وسماتها الحضارية والإنسانية، وما على المهاجرين سوى الامتثال لها».
وتبقى المجتمعات الغربية رغم كل ما حدث ويحدث فيها، بلادا معيارية لبعض الحقوق والواجبات، وهو ما أشار إليه الروائي البيروفي ماريو برغاس يوسا (1936-) في جلسة حوارية في التلفزيون الإسباني سنة 1987، بمشاركة الشاعر المكسيكي أوكتافيو باث (1914-1998) الذي قال: «أحزن لرؤية مجتمعات الغرب؛ لأنها تبدو مقيدة بعبادة النجاح والمال، ويجري تحريكها عبر البروباجاندا وثقافة الاستهلاك..»، ليرد عليه يوسا الذي استحضر جملة من سيرة الفيلسوف النمساوي كارل بوبر (1902-1994) «المجتمعات الأوروبية مليئة بالعيوب ولا بد من انتقادها من وجهات نظر متنوعة، لكن من المهم التذكير بأنه لم يعش الإنسان بصورة أفضل قط مما عاشه في هذه المجتمعات، بل إنه لم يصل إلى أبعد مما وصل إليه في مجالات الحريات والمساواة والفرص...».