حصدت رواية «خبز على طاولة الخال ميلاد» على الجائزة العالمية للرواية العربية لعام 2022، رغم أنها الابن الأول للكاتب الليبي محمد النعّاس، فكيف تقدم على روائيين مخضرمين سبقوه في الميدان؟ وهل تستحق الرواية الجائزة؟

إذا ما جئنا نتحدث عن كواليس العمل، سنجد أنه على الرغم من أن هذه الرواية الأولى التي رأت النور، إلا أنها محاولته الرابعة بعد جهد مضن، لدرجة أنه كان سعيدًا بمقدرته على جعل الرواية ترى النور فحسب!، واستطاعته أن يراها ماثلة أمام يديه بغلافها.

النعّاس حذا حذو من سبقه من الأدباء في تمزيق مخطوطاتهم الأولى لأعمالهم الأدبية، فحينما نأتي إلى غابرييل غارسيا ماركيز، نجد أنه وعلى الرغم من أن أحد أهم أعماله الأدبية التي نالت إعجاب النقاد والقراء على السواء، كانت ما استخرجه الشاعر غيتان دوران من سلة مهملات غرفة ماركيز -مع ذلك- علق ماركيز على هذه الواقعة قائلا بأنها لم تفده في عدم مواصلة تمزيق أصول المخطوطات التي يرى أنها غير صالحة للنشر -بل على النقيض من ذلك- فقد تعلم ضرورة تمزيقها بطريقة لا يمكن معها إعادة ترقيعها ثانية. مبررا تفسير هذه الحالة بقوله: «حتى أنا نفسي لم أقتنع بها»، فنجد أن الأمر ببساطة «إذا كان الكاتب نفسه غير مقتنع بعمله، فكيف سيقتنع غيره به؟!».

يقول ماركيز: «تمزيق القصص القصيرة أمرٌ لا مناص منه، لأن كتابتها أمر أشبه بصبّ الإسمنت المسلح، أما كتابة الرواية فهي أشبه ببناء الآجر، إذا لم تنجح القصة القصيرة من المحاولة الأولى فالأفضل عدم الإصرار على كتابتها. بينما الأمر في الرواية أسهل: إذ من الممكن العودة للبدء فيها من جديد، وهذا ما حدث معي، فلا الإيقاع، ولا الأسلوب، ولا تصوير الشخصيات كانت مناسبة للرواية التي تركتها نصف مكتملة».

عودة إلى النعّاس نجد أنه قبل أن يكتب نسخته الأخيرة، قرر الاستماع إلى نصيحة إدواردو غاليانو الذي قال: «ليس هناك متعةٌ كبيرة في كتابة ما تعيشه، التحدّي هو أن تعيشَ ما تكتبه»، فقرر النعاس أن يصبح خبّازا كبطل الرواية، تشرَّب المهنة وأتقنها حتى أصبحت جزءا من أناه الواقعية، فأدرك كُنهها، وتعلم الصبر والكتابة، وهو ما أجده واحدًا من أهم نقاط قوة الرواية، فقد حول النعّاس الخبز، وتاريخه، وأنواعه، ومشاعره، من جماد أو مهنة إلى بطل رواية رئيس.

لا نقصد أنه لنجاح أي رواية يجب اتباع هذه المجموعة من القواعد، فهي ليست وصفة طبخ تتبع خطواتها فتخرج بعمل فني رائع، أو تجربة علمية تكون دقيقًا بشأنها فتؤتي ثمارها. إن الكتابة هي حالة تعيشها، عالم تسكنه تحشر نفسك داخل أحداثه وشخصياته وكأن لا عالم سواه، فينتقل منك ويخرج إلى ذات القارئ. فإن لم تستشعر تلك الروح فذلك يعني أنك لست مستعدًا بعد، ولا تملك سوى أن تقرأ أكثر، تمارس طقوسًا تجد فيها نفسك، تستشعر حيوات الأدباء الآخرين على أمل أن تقتفي أثرهم. وعلى الرغم من كل ما ستفعله، هنالك دائما ذلك الهامش الخفي من الإبداع الذي لا يد لك فيه غير أنه يوحى إليك. ظل عنوان وغلاف هذه الرواية يلفت انتباهي لنسختين متتاليتين من معرض مسقط الدولي للكتاب، قبل أن أقرر شراءها. كنت أشعر أن كل شيء فيها متقن شكليًا، فالاهتمام بالتفاصيل كان جليًا بدءًا بالخط المستخدم في التصميم، والرسم الكاريكاتوري، والتناسق اللوني للغلاف أجمع.

أما عندما نأتي إلى جوهرها، فنجد أن ما جعل هذه الرواية تختطف البوكر وفق تصريح شكري المبخوت هو التحكم في تدفق الإيقاع والتنظيم المحكم لتدفق ذكريات الراوي، وسردية الأيدولوجية. النعّاس ككاتب مبتدئ أبقى الرواية بسيطة، ومركزة في صوت واحد. تناول قضيته وهي رحلة بحث ميلاد عن ذاته المنفصلة عن المجتمع الليبي رغم أنه نتاج أفراد المجتمع نفسه الذي يلفظه. تشعب في نشأته، وتدينه، ونضجه، وأصحابه، وزوجته. وباستخدام الصوت نفسه، استطاع رسم أبعاد الشخصيات الأخرى في الرواية، فتمكن من إحكام قبضته على الرواية ولم تنفلت منه، بل انسابت ببساطة.

وعلى الرغم من أن الرواية منولوجية (أحادية الصوت) من ناحية السرد، إلا أنها خرجت عن النوع، في كونها ليست منولوجية الأيديولوجية، فالنعاس طرح قضية الجندر بسردية دون فرض أيديولوجية معينة على القارئ. فبالرغم من أن الأحادية السردية أفقدتها إمكانية تحولها لعمل كوني عميق كحال الرواية البوليفونية (المتعددة الأصوات)، وجعلتها عرضة لبضع علامات استفهام راحت تتقافز لدى القارئ بمجرد بلوغ النهاية. إلا أنها تنجح في أن تجعلك تقف وجها لوجه مع تساؤلات عميقة، فتتساءل ماذا لو أن تنشئة ميلاد كانت سوية؟ هل كان ميلاد سيعاني ما عاناه لو كان في مجتمعٍ آخر أو دولة أخرى؟ هل كان مآل ميلاد إلى حال أفضل لو كان نموذجه الرجولي متزنًا، أو لو أن شريكة حياته كانت أنضج، أو تتبنى فكرًا آخر؟ أما ما يتعلق بالخاتمة فحال البطل، كحال راسكولينكوف في الجريمة والعقاب لدويستويفسكي. نذكر أخيرًا أننا لم نقرأ الأعمال الأخرى المترشحة للبوكر، لذا لسنا في موضع يؤهلنا للمقارنة، ولكننا نؤكد أن الكاتب الشاب الذي نجح في اقتناص أكبر جائزة أدبية عربية بإصداره الأول، في وضع صعب، فقد قفزت به الجائزة أمام القارئ إلى مستوى عالٍ، قد يكون دونه، كما أنه قد حرم فرصة أن يخوض تجربته ونضجه الأدبي في الظل، فهو الآن في قلب دائرة الضوء، ولكن إذا كنت قارئًا خبّازا أم مفتونًا بالطبخ، فستجد هذه الرواية تصفك بإسهاب، وإذا كنت ممن تأسرهم اللغة المميزة المازجة بين الفصحى والشعبية، فهذه الرواية لك، وإذا كنت تجد الرواية وسيلتك للتعرف على الثقافات الأخرى وأداة للحفاظ على الهوية الثقافية فمبتغاك هنا!