الحديث عن سينما الصحراء، يقود إلى ما هو أبعد مما يعتقد الكثير منا، أي السينما التي تدور أحداثها في الصحراء فحسب، الموضوع محمل بتصورات أبعد من أن تنقل لنا أحداثا وتوثق لنا حياة أشخاص عاشوا بها، ذلك ربما ما يدغدغ رومانسيات المشاهدين لا أكثر، ويوجه عواطفهم وأفكارهم نحو ما هو مؤدلج مسبقا، لينساب المشاهد ساذجا وراء تصورات حملت إليه بعناية مسبقة، أبرزها في تاريخ السينما أفلام الوسترن الأمريكية التي زرعت في قلوب الملايين من مشاهديها أسطورة البطل الكاوبوي حامل الحضارة الأوروبية، مقابل وحشية ولاإنسانية الهنود الحمر سكان القارة الأمريكية الأصليين. في الوقت الذي يوثق التاريخ العكس، إذ وحشية المهاجر الأوروبي قابلها السكان الأصليون بالمحبة والكرم الذي عرف عن كافة الشعوب البدائية في الكون. وعلى الصعيد العربي لا يغيب عن بال الجميع الطابع الاستشراقي الاستعماري، الذي حملته إلينا أفلام قدمت الصحراء العربية نساء وخمرا ومحظيات للملوك... والصحراوي العربي همجي بربري لا هم له غير إشباع شبقه الجنسي، ولكنه في منتهى الضعف والغباء أمام الدهاء والتفوق الأوروبي. أبرز أمثلة على ذلك فيلم علاء الدين، وهو من أفلام والت ديزني التي يتربى عليها كل طفل أوروبي أو أمريكي وفيلم الديكتاتور الذي ظهر بعد أحداث 2011، السينما الأمريكية التي لم تكن بحاجة إلى دراسة أنثروبولوجية لسكان الصحراء العربية، وتقديمهم بما يليق بحضارتهم، التي هي أعرق وأغنى من الحضارة الأمريكية، فقط استبدلت وحشية وبدائية الهنود الحمر في أفلام الويسترن الأمريكية بالعرب، لاحقا بعد عدة عقود أسهمت التحولات الثورية في أوروبا، في ظهور جيل جديد من السينمائيين، وابتدأ النظر إلى ثقافات شعوب آسيا وأفريقيا بمنظار آخر، أكثر جذرية، سينمائيا، على غرار ظهورهم في مجالات إبداعية أخرى لا سيما الموجة الجديدة في الفن التشكيلي والغناء والموسيقى والفلسفة. قدم برتلوتشي عن رواية بول بولز فيلم «شاي في الصحراء»، بدت الصحراء في هذا الفيلم مكانا للتيه والبحث عن الذات ومحاولة الإشباع العاطفي المفقود في الحضارة الغربية، والفيلم الوثائقي «حياة بلا موت» للمخرج الكندي فرانك كول، الذي جاء تأملا لمعاني غامضة في الكون كالحياة والموت، كان على رمال الصحراء المهجورة الإجابة عليها. والمريض الإنجليزي لانطوني منديلا استنادا إلى رواية حملت عنوان الفيلم للكاتب ميشيل اونداتجتي، وظف المخرج بامتياز فضاءات الصحراء، وكائناتها المتميزة ولا نهائية آفاقها الشاعرية، ليقدم قصة حب تراجيدية، رابطا ذلك بما تخلفه الحروب من مآسٍ وخراب ودمار يطال كل من يدخل في غمارها دون استثناء. هكذا تذهب بنا الصحراء سينمائيا إلى ما هو أبعد وأكثر تأملا وتفحصا ودراسة، دافعة بنا إلى النظر النقدي للتجربة السينمائية، خاصة الاستشراقية منها التي ارتبطت بتقديم الصحراء كما سلف في السطور السابقة. نحن هنا لرصد حالات متميزة في السينما العربية خاصة التي في بدايتها كانت وثيقة التأثر بالسينما الأمريكية، من حيث تقديم الصحراء مكانا للبطولات الفردية، مكانا يهزم فيه الباطل ويعلو صوت الحق، من منظور ديني بالطبع، كالأفلام التي مجدت الأبطال العرب عبر التاريخ مثل عنترة بن شداد الجاهلي، وعدد وافر لا يحصى من أفلام الفتوحات الإسلامية التي تابعها العرب بشغف وفخر واعتزاز. كان ذلك هدف السينما آنذاك في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. تجارب فقدت زخمها السينمائي باكرا، مع لحظة إنجازها، بدلالات كثرة الحوار غير المجدي بها، واختفاء إلهام الصور الصامتة الموحية سينمائيا، أي اقتراب عدد كبير من هذه الأفلام إلى ما يمكن تسميته بالسينما الدعائية، هدفها إظهار أمجاد تاريخية وبطولات مبالغ في انتصاراتها، متجاهلة جماليات السينما التي تختزن الصحراء ثراء هائلا تملك إمكانية تقديمه للمشاهد والتاريخ في آن. مع الاعتراف المسبق عدم حضور براءة المكان وانتمائه الطفولي، بالبراءة التامة كنقيض لسينما التوجه الدعائي السياسي خاصة. هنا لا بد من الرؤية التي تحكم عين المخرج ومن معه من صناع الفيلم، إلا أن الحديث يكون إضافة تنظيرية إذا ما درسنا التعبير المكاني عن الصحراء سينمائيا. مشاهد الفيلم في هذه الحالة يتفاعل إيجابيا مع الفيلم، طارحا الأسئلة ناقدا، هكذا ينظر كل منا في هذه الحالة إلى الفيلم بعين مختلفة عن الآخر، ما يخلق التفاعل النقدي الإيجابي، حتى والفيلم مشحون برموز الصحراء واللغة الشاعرية المتدفقة من شخوصها.

الصحراء التي تقدم المدلولين المتناقضين، الجمالي الذي يرسخ قوة اللغة الشعرية في السينما، وذلك ما كان مفتقدا كليا سينمائيا عربيا وعالميا، والموضوعي الذي انتهى في دلالاته الساذجة مع نهاية حقبة أفلام الكاوبوي الأمريكية، هكذا تقدم الصحراء للسينمائيين لغتها الخاصة، المعتمدة على قوة الإيحاء وشاعرية اللقطة وجمالياتها وعمقها التعبيري الفائض بالدلالات الوجودية الميتافيزيقية. نخلص إلى أن الصحراء ليست الفضاء المكاني الرحب، الذي به يجد السينمائي ضالته في التعبير عن أحداث تتعلق بالهم الجماعي أو الهموم الفردية فحسب، إنها المخزون الثري للدلالات الإنسانية الكبرى، دلالات الحياة والموت والغياب والتيه، هي الآفاق البعيدة التي تنتظر سينمائي شبه الجزيرة العربية لاكتشافها وتوظيفها، كحبيبة غامضة غموض الحياة والموت في انتظار عشق إبداعي لم تنله بعد.

الصحراء في السينما العربية بعيون أبنائها

1- عندما تحصى السنون

لشادي عبد السلام /مصر

١٩٦٩م

نتحدث هنا عما ندعوه بالتيه التاريخي، الفيلم يضعك وجها لوجه أمام الصحراء المصرية التي طالما استخدمتها العصابات المختلفة مكانا آمنا تتسلل منه إلى البحار، حاملة التحف المسروقة من كنوز الآثار المصرية، شادي يصنع من الصحراء المقفرة وعصابات التهريب لوحات شاعرية تضعه كرائد ومؤسس فذ للسينما الشاعرية عربيا، هكذا لا يقدم شادي ممثليه أبطالا للفيلم، ذهب إلى الصحراء والجبل والمقابر، مدركا أن هذه المكونات الطبيعية هي ثراء تجربته السينمائية، منها شكل لغته السينمائية الفريدة عبرها محاولا الرحيل بنا إلى حضارة مضى على اندثارها أربعة آلاف عام، لكنه ليبعث الجمال في روحها ويعيد الحياة إليها عبر الفن الذي تركته الحضارة لنا مرة جديرة بالإلهام الجمالي الخصب.

مضمون الفيلم أخذه شادي عبدالسلام من حكاية واقعية كتبها عالم الأثريات المصرية الفرنسي جاستون ماسبيرو، من كتابه «المومياوات الملكية بالدير البحري»، وهو العالم الذي فك شفرة اللغة الهيروغليفية، بعد عمله عليها ثلاثين عاما في القاهرة، القصة تتحدث عن اكتشاف مخبأ عام ١٨٨١م، بالقرب من طيبة العاصمة الفرعونية، يحتوي على مومياوات لعدة فراعنة معروفين، ينتمون للأسر التي حكمت مصر ما بين ١٩٠٠-٩٠٠ ق.م. أثناء تدهور الإمبراطورية سرقت التوابيت المذهبة ورمي بالجثث، عندها قام أحد الكهنة بوضعها في توابيت حجرية، وأخذوها في مخبأ ظل مجهولا طوال مئات القرون، والذي حدث لاحقا أن إحدى القبائل عثرت صدفة على المخبأ، وابتدأ رجالهم الاعتياد على هذا الكنز، ببيع قطع منه وقت الحاجة حتى جاء ابنهم ونيس، الذي قام بإبلاغ مؤسسة الآثار بمكان الكنز، موقفا بذلك عملية نزف التاريخ الفرعوني المصري القديم وبيعه لتجار الآثار.

يبدأ الفيلم بهذا المقطع الأخاذ من كتاب الموتى الفرعوني:

يا من تذهب سوف تعود

يا من تنام سوف تنهض

يا من تمضي سوف تبعث

المجد لك

للسماء وشموخها

للأرض وعرضها

للبحار وعمقها.

عندما تحاصرنا جثث أجدادنا وذكرياتهم، وتتحول جثثهم أرقا في قلوبنا وعقولنا، كيف نكون قادرين على الاتجار بها، واعتبارها كنزا يشكل مصدر ثروة لنا؟ هذا هو السؤال المضني الذي ميز ونيس عن بقية أفراد عائلته وقبيلته.

ودفعه إلى إفشاء سر مقبرة الأسرة ٢١ الفرعونية إلى دائرة الآثار المصرية، وما يحتله هذا العذاب الأليم عبر الفيلم، عذاب السكوت عن سرقة الآثار المصرية وبيعها للتجار، هو الذي تعبر عنه عينا ونيس وصمته وبكاؤه الهادئ، ثم حسمه هذا الموقف لصالح الحفاظ على جثامين أجداده في المتحف المصري للآثار، هو مصدر راحته بعد ذلك، حتى لو كان هذا الإفشاء معاديا لرغبة جماعته وقبيلته التي تعودت الاتجار من ورائها وكأنها مثلما يقول أحد زعمائها: «هؤلاء الموتى ليسوا أكثر من رماد، جثث أكلتها الرمة، وليس لهم أبناء أو أحفاد» بمعنى أن علينا التخلص منها والاتجار بها.

أجمل وصف مكثف لفيلم «المومياء» كتبه الناقد العالمي كلود ميشيل كلوني واصفا إياه بالضوء القادم من العالم المعتم. تحضر الصحراء بعمق أخاذ في هذا الفيلم عبر الصمت المحيط بكل شيء في الكون، صمت الأرض والمقابر والأحياء والموتى، تحضر في لوحات تشكيلية غريبة جدا على السينما العربية، صحراء مدينة طيبة بالجنوب المصري، جذور الحضارة الفرعونية الغابرة، نتعرف على الصحراء عبر الصمت، عبر أبناء القبيلة المحاصرين بخيول شرطة، عبر هدير الريح الذي يشق الصمت، طيبة القرية الصحراوية المحاطة بالجبال، الجبال التي تضم الكنوز التي يتوارثها الناس أبا عن جد لأنها مصدر ثرائهم، يتحدث الشيخ إلى أبنائه قائلا: ما أنتم غير حبات رمل في هذا الجبل، لذلك أنتم من صلب أهلي، الصحراء هنا تقدم الغموض ولا تفصح عن أي حدث أو سر، الفيلم يبرز التناقض الحاد بين أبناء الصحراء وأبناء المدن الذين يطلق عليهم الصحراويون الأفندية، يحاول أحد أبنائهم الوشاية بقبيلته، حفاظا على تراث أجداده المباع، مشاهد الصحراء تتكرر عبر لوحات في غاية الجمال مستلبة ومرتبطة مع الأحداث في آن، تفضي الصحراء إلى الجبل حيث المدافن السرية للمومياء، وتفضي، أيضا، إلى النهر وسفن تجار الآثار، يتداخل حضور الصحراء مع غموض النساء اللاتي يتم توظيف غموضهن بشاعرية نادرة، حيث تختفي النساء عن العيون في رمال الصحراء اللامتناهية. بطل الفيلم ونيس الذي يتخذ من الصحراء ملاذه من القبيلة ومن السلطة في آن، هكذا يغدو الجبل الملاذ الآمن لمومياوات الفراعنة منذ آلاف السنين، أما الملاذ الآمن للأحياء فهي الصحراء التي بها يختبئ كل هارب من سلطة الدولة أو من سلطة القبيلة، يطارد غموض النساء بها اللاتي لا نعرف من أين يأتين وماذا يخبئن كالشعر الذي ينضح من الصحراء، تنضح معه الحياة وينضح معه الموت في آن.

2- المخدوعون لتوفيق صالح /مصر ١٩٧٢

عن رواية «رجال في الشمس» لغسان كنفاني، قدم توفيق صالح هذه التحفة السينمائية التي تعد اليوم من أفضل الأفلام التي قدمتها السينما العربية عبر التاريخ، وما يهمنا هنا التوظيف المتقدم فنيا للصحراء التي مع أنها تحتل نصف المساحة الزمنية للفيلم إلا أن حضورها ابتدأ منذ اللحظات الأولى.. الفيلم يقرن قساوة الحياة إثر التشرد الفلسطيني الطويل بقساوة الصحراء التي تقدم وجهها القاتل لمن يلجأ إليها دون أن يقدر عواقب نتائج اللعب بقساوة الحياة بها. من القاتل؟ هي شمس الصحراء، إذن نحن هنا بخلاف التصور الاستشراقي لنعومة الصحراء ورومانسية شاعريتها. الفيلم لا يقدم لنا التجربة في سياقها التقليدي، يخلط أمامنا الماضي بالحاضر بالمستقبل، موظفا الفولكلور العراقي الحزين، كمادة تقدم لنا مزيدا من الحزن والأسى. الوجه القاسي للصحراء ليست الشمس الحارقة فحسب، بل الإنسان أيضا، مفرغا توفيق صالح ابن الصحراء من الوجه البريء الساذج الذي قدمته لنا المسلسلات البدوية، ابن الصحراء الذي هو، أيضا المخادع واللئيم والسلطوي، حال أبناء المدن والأرياف، طموح الإنسان مثلما تقدمه التجربة هنا يصطدم بهذين العائقين: الصحراء ومهربيها، طموح المشردين الفلسطينيين إلى دول النفط الحديثة بالخليج، يصطدم بالصحراء التي تستقبل المهربين عبرها، بالشمس والعطش وصولا إلى الموت. الشريط يفلح في تقديم أهم ثيمات الصحراء ألا وهي الهجر والغياب والعدم واللاشيء.. الموسيقى التصويرية وظفت لتنبئ بالكارثة التي تخبئها الصحراء، وهنا لا وجه جميل تقدمه الصحراء أبدا، تتعاون الصحراء مع الأقدار والسلطات والمهربين في قتل ثلاثة مسافرين إلى الكويت بحثا عن لقمة عيش. كل ما في هذا الفيلم الرائد يقدم النهاية قبل البداية، كل ما به ذاهب إلى النهاية الحتمية ألا وهي الموت. منه تبدأ الحكاية وإليه تنتهي، ومعه تنتهي الحياة برمتها. الصحراء هنا تمتد لتكون صحراء الحياة أيضا، حياة المهرب أبي قيس الذي فقد رجولته في معركة حرب التحرير بفلسطين قبل الاحتلال الصهيوني، محوّلا ذلك حياته إلى صحراء لا تنتهي إلا بنهاية عمره. الحوار، أيضا، الذي يدور بين المخدوعين أي رجال في الشمس مثلما عبر غسان كنفاني حوار نهاية العمر، كمن ينتظر موتا قادما لا محالة. الصحراء التي لا وجود للزمن بها، تغدو الدقائق هي الحاسمة بين الحياة وبين الموت. سبع دقائق فقط كانت هي الحد الأعلى لبقاء الرجال بخزان الماء أحياء، وعندما حدث التأخير إلى أكثر من ذلك بدقائق حدث الموت.

توفيق صالح في نهاية الفيلم لا يقدم غير الجثث المرمية في القمامة ويد مرفوعة إلى السماء، دلالة استمرارية الحياة وربما رمز ذلك إلى النصر أيضا، وهو ما يناضل من أجله الفلسطينيون حتى يومنا هذا.

3- بابا عزيز لناصر خمير/ تونس 2005م

الحديث عن تجربة التيه -خاصة في الصحراء- وثيق الصلة بجذور البحث عن تجارب أنبياء الشرق، عن المتصوفة وعن القديسين، كانت الصحراء منشأ، وكانت تجربة للتأمل، وكانت منفى في السير بحثا عن المطلق أو تأملا والنظر بعمق إلى الذات والكون. أعود للقاء تاريخي، يفترض أنه تم بين النبي يوحنا المعمدان والسيد المسيح عليهما السلام، وهو مشهد من فيلم «الإغواء الأخير للمسيح» لمارتن سكورسيزي، عندما يكتشف يوحنا أن من أمامه هو المسيح قبل تكليفه الإلهي بالنبوة، يتحدث إليه قائلا: «اترك اليهود وإلههم، وارحل إلى الصحراء، منها ستعود بإله آخر وجديد، لقد أضر اليهود في أورشليم بالإله». من هذه الثيمة -التي نادرا ما نجد ثراء لها في السينما العربية- يبدأ المخرج التونسي ناصر خمير، وهو ابن الصحراء العربية والأفريقية، تشكيل شخصيات فيلمه الثالث «بابا عزيز» واضعا الكثير من الأسئلة والقليل من الأجوبة أمام مشاهد اعتاد تلقي إجابات جاهزة عن كل ما يدور بذهنه قبل انتهاء العرض السينمائي.

يتيه صوفي بالصحراء مع صبية تدعى عشتار، بحثا عن الملك الذي غادر قصره ولهو حياته، عندما أغوته فجأه غزالة، هي رمز الحرية، ورسولة التجوال في الآفاق المجهولة، بحثا عن المطلق البعيد، يقضي الملك حياته بعد ذلك قرب نبع ماء، كأنه ينتظر من النبع ظهور المعشوق، أي انبثاقه، وهو هنا مصدر الخلق لأنه عودة إلى الآية الكريمة «وجعلنا من الماء كل شيء حي».

يئس الناس من عودته إلى المملكة وتركوه وحيدا، عدا متصوف ظل ملازما له، منحه بعد ذلك رداء التصوف، وتاه به في الصحراء، في المسيرة الطويلة التي يقطعها المتصوف الأعمى بابا عزيز، بصحبة الصبية عشتار، متجهين من الصحراء منتهيا بهم التيه إلى الصحراء أيضا، حيث موقع قبر بابا عزيز، يفضي بهم التجوال نحو ممالك وأقطار، تتقاطع تجربة بابا عزيز والأمير الذي اقتادته غزالة إلى الجنون، مع كثير من شخصيات التيه الأسطورية والمقدسة في التراث الإنساني الروحي، كالنفايات وابن الحافي، والعماني سيف بن محمد البوسعيدي، الأمير التائه الأقرب إليه إبراهيم بن الأدهم، المتضارب حول أصول منشئه وسلالاته ووفاته، هناك بالطبع التجربة الكبرى للأمير الهندي سد مارتا الذي تحول إلى بوذا عندما ترك قصره، بعد أن شاهد عجوزا كسيحا، فأيقن سر وجوهر الحياة في زوالها، فتاه في الغابات مؤسسا الديانة البوذية. ناصر خمير في السكر بالخمر الإلهي يتجه إلى الغناء الصوفي الآسيوي خاصة، والذي عبره يذوب الإنسان وجدا وشوقا للقاء المعشوق، يقدم لنا عبر تجوال بابا عزيز في المسالك والأمصار عشاقا لا يلتقون أبدا، تظل حياتهم بحثا عن عشق مفقود غائب ككل العشاق المأساويين عبر العصور، وكأنه طبقا لمفهوم العشق في التصوف ينتهي العشق متى حصل الوصال، ويشتد ويقوى متى حصل الفراق، الذي على العشاق الحقيقيين الحفاظ عليه دائما، إمعانا في الوجد والشوق والهيام بالمعشوق. التصوف لدى ناصر خمير ظل محافظا على تجربة التيه الصحراوي بحثا عن الله، كان ذلك لدى الملك الضال أو لدى المتصوف الجوال الأعمى، وهما بطلا فيلم «بابا عزيز».

يحتفي ناصر خمير بالتراث المسيحي، إذ يعطي بابا عزيز معجزات المسيح عليه السلام، في إحياء الموتى من قبورهم، ليس ثمة من حدود للتجربة الصوفية، تتقاطع مع جذور مختلفة زمانا ومكانا، لكن في النهاية مثلما يؤكد يورغن هابرماس «لا يفلح الصوفي بالتقاط مراحل الألوهة وأطوارها إلا من خلال السلوك الروحي نحو الله، لذلك فلا تحصل معرفته إلا بواسطة تفكر متعال يتناول نمط تجربته الخاصة».

الرائع في فيلم «بابا عزيز» خاتمته، مع وصول بابا عزيز المحطة الأخيرة من رحلة عمره، حيث القبر بانتظاره، والملك رحل مرتديا رداء المتصوفة هائما في الصحراء، يتوجه بابا عزيز إلى الصبية عشتار طالبا منها الرحيل إلى الحياة، إلى المدن البشرية المكتظة بأطياف حياة مختلفة، هناك تبدأ الصبية عشتار البحث عن نفسها، وعن حياة جديدة أخرى.

4- في انتظار السعادة

عبد الرحمن سيساكو /موريتانيا 2002

تماثلا مع قصيدة الشاعر المصري الفرانكفوني أدمون جابيس:

أكتب عن الصحراء

وعن النور الساطع

الذي أوقف المطر

لم يعد هناك سوى الرمل حيث أمشي

فالصحراء أرضي وسفري وتيهي.

يقدم المخرج الموريتاني عبد الرحمن سيساكو فيلمه التأملي في انتظار السعادة، السعادة التي لا تأتي أبدا، ومن ينتظرها في الصحراء يكون مخطئا، يعود إليها شاب مثقف هربا من تشوه الحياة المدنية، ناشدا السكينة والهدوء والبراءة، ليجد نفسه محاطا بالرغبات الحسية العارمة التي يعيشها الرجال والنساء، وأن تصوراته عن عالم نقيض لمدنية أوروبا لا يجده في الصحراء التي لحقها الزيف أيضا، فيقرر العودة من حيث أتى بعد فترة قصيرة، ليجد نفسه غير قادر على العودة أيضا كما كان غير قادر على البقاء، يتيه وحيدا في اغتراب دائم عن مكان طفولته وعن المدينة التي كره العودة إليها. الحياة يراها عبدالله من خلال غرفته مليئة بالتنوع البشري العرقي والثقافي، رغم أنه في قرية تحيط بها الصحراء من كل جانب، إلا أن التناقضات البشرية بتنوعها ابتدأت تصب في هذا المكان البعيد، حيث يهرب فرنسي كان قد التقى بأفريقية وحملت منه، متخليا عن الفتاة الأفريقية وطفلتها، يتعلق صبي بكهربائي متجول محاولا تعلم المهنة منه؛ لأنه وجد فيه رائحة الزمن القديم الذي ينذر بالرحيل، يتعلق به تعلقا صوفيا، بحثا عن محبة أبوية مفقودة وجدها لديه، يذهب الكهربائي للموت وحيدا في الصحراء عندما يشعر باقتراب نهايته، مؤذنا ذلك بنهاية عالمه، يبحث عنه الطفل ليجده ميتا بين الرمال. عبدالرحمن يوظف مشاهد الحياة اليومية باقتدار رغبة منه في عدم الدخول في ديكورات صحراوية، تستقطب العواطف لتقدم ما هو بعيد عن واقع حياتنا المعاش، النساء الصحراويات في الفيلم أكثر انفتاحا وتفاعلا مع الحياة، بحكم عدم سيطرة المؤسسات الاجتماعية المختلفة كما هو في الحواضر، حيث يشتد القمع الذكوري للأنثى، القرية التي تتحول لاحقا إلى معبر يصل إليها القطار والباعة الصينيون والمهاجرون الأفارقة الحالمون بأوروبا تفقد روحها القديمة برحيل الجيل القديم من رجالها ونسائها. الصحراء التي لم يتبق منها غير الرمال والعشب المتطاير بفعل الريح، يرمز ذلك في نهاية الفيلم إلى نهاية عالم الأعشاب، كما يأخذ الطفل السراج الذي يحاول الكهربائي المتجول إنارته ويرميه في البحر، والأفريقي الذي حاول عبر القرية السفر إلى أوروبا وجد غريقا على شواطئها. الجميع في هذه القرية الصحراوية يحلمون بما هو مفقود وبعيد، انقضى عالم صحراوي غابر ليتأسس عالم آخر لا أحد يعرف انتماء له على الإطلاق. أدمون جابيس وعبدالرحمن سيساكو كلاهما اصطدما بالحضارة الفرنسية، وظلت صحراء سيناء قلق الشاعر أدمون جابيس، كما ظلت صحراء موريتانيا قلق السينمائي سيساكو. كلاهما عاشا منفيان منفى داخليا، ككائنات فيلم في انتظار السعادة، كل يحمل منفاه الخاص دون أن يشعر بذلك، كافة شخصيات الفيلم عابرة؛ لأن القرية تقع في محطات العبور بين الصحراء وبين البحر، العابرون عبرها بحثا عن سعادة لن تتحقق أبدا، يتحدث الكهربائي العجوز عن تجربته الخاصة قائلا: عرض عليّ صديق تذكرة سفر إلى أوروبا فرفضت، قائلا: لن أرحل عن أرضي أبدا، يقدم تجربة مختلفة عن شخصيات الفيلم الأخرى، لذلك يجد فيه الطفل الأمل في بناء حياة جديدة على حياته التي اتسمت بحب التراب حتى الموت.

5- يوم في حياة قرية سورية

لعمر أميرلاي/ سوريا ١٩٧٤

البداية قرية تحيط بها الرمال والغبار والأتربة ورياح الخماسين، الرياح تقذف بكل شيء في العراء، المنازل الطينية مهجورة ولا شيء يدل على وجود حياة ما في هذه القرية المهجورة، رويدا رويدا تبدأ اللقطات السينمائية تقدم مشاهد من حياة الناس الصعبة، قليل من الخبز الجاف مع الشاي، كل ما في حوزتهم من طعام. إنها الصحراء حقا، البشر الذين يسيرون مشيا في الرمال، والحمير المتآلفة مع البشر، تستخدم في تسوية التربة لزرعها، مدرسة وحيدة، المدرس الأنيق كأنه في عالم بعيد عن أطفال المدرسة.

يبدأ بعدها المخرج في توثيق تجربته بإجراء حوارات قصيرة مع سكان القرية، الذي يتبين له عدم تفاعلهم مع الأوضاع السياسية في بلادهم والعالم أجمع، المدرس يواصل إلقاء دروسه بغباء كبير، مطالبا الأطفال بالأكل على الكراسي والطاولات والاستحمام الدائم في قرية صحراوية لا ماء بها. عمر أميرالاي يقدم النقيض عبر مشاهد صعبة التخيل في القرن العشرين، الناس تشرب من مستنقعات آسنة وتأكل الخبز الجاف، يجري حوارات مع مرضى القرية في طريقهم إلى أقرب مدينة طلبا للعلاج، الطبيب المعين في مستوصف القرية يتهم سكانها بعدم وجود الوعي الصحي وإيمانهم بالشعوذة، مبرئا الحكومة من أي تقصير، يتحدث طبيب القرية عن انتشار مرض السل وفقر الدم الذي في النهاية عائد إلى الفقر، يوثق المخرج كافة الأمراض التي تقضي على الأطفال، كالتسمم وسوء التغذية، والإشكالية الأكبر أن الحكومة توفر طبيبا لكل ٣٠٠٠٠ ألف نسمة. يتحدث مع امرأة فقدت أربعة من أطفالها لأمراض لا تعرفها، عدد الأموات من الأطفال كثير جدا أكثر ممن بقي على قيد الحياة، يفسح المجال المخرج لأمين الحزب بالقرية الذي يلقي خطبة طويلة عن السياسة الثورية للحزب وأهدافه لتطوير القرى الصحراوية، وتشكيل مجتمع متعلم متطور، يوثق لمشاكل الفلاحين في الصراع على الأرض، ولجوئهم إلى القوة في التعامل مع بعضهم البعض، وسط غياب السيطرة الحكومية المباشرة. من المشاهد المضحكة في الفيلم مشهد تثقيفي لوزارة الثقافة عندما تعرض فيلما على سكان القرية، عبارة عن نساء بالمايوه والبكيني في شواطئ الصيف، ورجال في مشاهد استرخاء بالشواطئ، وسط ذهول نساء ورجال القرية من هذا العالم البعيد عنهم، رغم أنهم جميعا سوريون. ينقل الفيلم صراع الحياة الدامي وقتال الإنسان من أجل البقاء على قيد الحياة في ظل ظروف حياة صعبة، الصحراء التي لا ترحم أحدا. الجزء الأخير من الفيلم يطرح علاجا يكفل التنافس بين العشائر وإذكاء روح التعاون بين الناس. الفيلم الذي ينتهي بمشاهد من بؤس القرى وفقرها، يتحدث المسؤولون عن قلة الوعي والجهل الذي يتسبب في خلافات بسيطة بين الناس لا داع لها، يؤكد الفلاحون على بقاء العشائرية بين القبائل وغياب السلطة المركزية. نهاية الفيلم محاولة من الناس إرسال رسالة إلى السلطة يطالبون فيها عدم نقلهم إلى أي مكان آخر بعد أن تناهى إلى علمهم رغبة السلطة توطينهم بعيدا. فيلم عمر أميرلاي شاهد على قوة السينما في نقد النظام السياسي دون أن تقترب من السياسة وفضائها. الفيلم وثيقة إدانة نسيان أبناء الصحراء نسيانا تاما، والتفرغ لتأسيس مدن الاستهلاك البائسة، معتمدا النظام على الكبت والعقاب لكل من يحاول حتى الالتفات للمطالب الأساسية لأبناء الصحراء التي هي حلم بعيد المنال لتحقيق بعض منه.

6- أصيل

لخالد الزدجالي/عمان 2012م

مادة الفيلم الأساسية هي الحميمية في العلاقات الإنسانية التي تقدمها الصحراء لبنيها ولضيوفها في آن، ينقذ صبي من الصحراء العمانية سائحا أوروبيا من الموت عطشا بعد أن توقفت سيارته عن الحراك في الرمال، يتيه السائح في الوقت الذي يبحث فيه الصبي عن من يستطيع إنقاذ أبيه من الموت، بعد أن لدغه ثعبان، يعود الجمل بالأوروبي إلى قرية البدوي، ويصل وراءه جريا الصبي، ليكتشفا موت الأب، وهنا تبدأ العلاقة الروحية في التطور بين الصبي والأوروبي آخذة طريقها إلى منزله في مسقط، ثم عودته وحيدا بعد أن أعاد الجمل إلى صاحبه بها. الصبي شديد التعلق بالجمل، ذلك ما أدركه الأوروبي، وما لم يهتم به صاحبه العماني الذي تعامل مع الموقف العاطفي الصعب للصبي ببرودة تامة، في الوقت الذي أدرك فيه الأوروبي صعوبة الموقف العاطفي للصبي أصيل إثر فراق جمله. يحاول إذاك مساعدته عرفانا بالجميل ويصحح وجهة نظر زوجته عن بدو الصحراء التي نظرت إلى الطفل والجمل نظرة عدم ارتياح. يقول لها زوجها بعد تجربته معهم: هؤلاء أبناء الحرية والسماء المزدانة بالنجوم والأقمار، ينصحها بدخول تجربته لتعرف أبناء الصحراء على حقيقتهم. كل مشاهد الفيلم موظفة لترجمة هذه الحميميات بين الأطراف الثلاثة: أصيل والجمل وريتشارد، أعتقد أن المخرج وفق في الحفاظ على هذه الثيمة، دون محاولة سبر أغوارها، ولكن دون محاولة الخروج عنها أيضا، لا ريب أن الفيلم قدم الصحراء العمانية في جمالية كثبانها وأقمارها وناسها الطيبين.

عمق الفيلم فرصة تطور العلاقات الإنسانية بين البشر، بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية والدينية، أسهمت قصائد الشاعر مسعود الحمداني في إضفاء مشاعر جياشة لما تحمله أحداث الفيلم من لوعة الفراق والموت، مقدمة بألحان عذبة لهاني راضي، دون أن يكشف المخرج عن مؤدية الغناء الشجي، وكشف الفيلم عن إمكانيات تجارب سينمائية قادمة من الصحراء العمانية التي تزخر بوافر من الميثولوجيا، والسرد السينمائي الرحب القادر على اكتشاف مواهب فنية متميزة، تؤدي أدوارها دون تكلف، خاصة الصبي أحمد الحسني الذي أدى دوره بامتياز فائق.

سماء عيسى شاعر وكاتب عماني