تعد حرية التعبير عن الرأي من أهم حقوق الإنسان على المستوى الاجتماعي والثقافي، إذ تكشف عن قدرة المجتمعات على التعبير عن نفسها وحقوقها، وبالتالي عن مدى مساهمتها في تطوير المجتمع ودعم توجهاته الوطنية؛ فممارسة أفراد المجتمع لحقهم في التعبير عن آرائهم يمنحهم المساحة المناسبة للمشاركة الفكرية والسياسية والاجتماعية والثقافية، بما يضمن قدرتهم على المشاركة الفاعلة في بناء أوطانهم.

ولأن حرية التعبير عن الآراء من الحقوق العامة الأساسية، فإن الدول المتحضِّرة تسعى إلى إكساب مواطنيها هذا الحق، انطلاقا من صون كرامة الإنسان، وأهمية مشاركته الفاعلة في مسيرة التنمية الوطنية وتطوير منظومتها، وبناء على ذلك كانت (حرية الرأي والتعبير عنه بالقول والكتابة وسائر وسائل التعبير مكفولة في حدود القانون) وفقا للمادة 35 من النظام الأساسي للدولة، بما يحقق المبادئ الوطنية والقيم الإنسانية السامية، التي ترسِّخ أسس الحرية والعدل والمساواة بين الناس، فمعنى أن تكون هذه الحرية مكفولة بموجب الدستور الوطني فإنه مبدأ أصيل ضمن منظومة التشريع الأساسية، ولا يمكن لأي أحد التعدي على هذه المنظومة لأنها (في حدود القانون).

والحق أننا في عُمان نتمتع بمساحة واسعة من حرية التعبير عن الآراء مقارنة بالعديد من البلدان، حيث حرصت الدولة على منح هذه الحرية لمن يعيش فيها، ليستطيع إبداء آرائه وتقديم مقترحاته الفكرية والسياسية بما يليق به وبالوطن، وبما يؤسس لفكر مجتمعي قادر على البناء والعطاء والمشاركة ضمن مفهوم المواطنة الإيجابية، ولهذا فقد نما فكر حرية التعبير عن الرأي لدينا وفق رؤية واضحة قوامها المصلحة العامة لا الشخصية، والمضمون الموضوعي لا الهدَّام، والفكر الجماعي التشاركي لا الفكر الفردي المتشدِّد.

لذا فإن مفهوم حرية التعبير عن الرأي لا يتأسَّس بين الحكومات وشعوبها فحسب، بل أيضا بين أفراد الشعب الواحد من ناحية، وبينه وبين مؤسسات الدولة من ناحية أخرى؛ ذلك لأنه من الأهمية التفكير عندما نقرأ الآراء المتعددة التي تندرج ضمن (حرية التعبير عن الآراء)، أو نشهد العديد من المناقشات القائمة على ذلك، في مدى فهم أطراف هذه المناقشات وتلك الآراء لمفهوم الحرية أثناء التعبير عن آرائهم؛ لأن الكثير منها لا تنضبط وفق الضوابط الموضوعية لهذا المفهوم، ولا يعتقد معتنقوها أن هناك أخلاقيات لا بد من التقيُّد بها عند التعبير عن الرأي، وأن ما كفلته الدولة هو الرأي الموضوعي الهادف لا الرأي الهدَّام الذي يقوم على التعدِّي على الآخر والإساءة إليه والنيل منه.

إن حرية التعبير عن الآراء التي كفلتها الدولة لها أسس وأنظمة وأخلاقيات، ولهذا فإن التساؤل الذي نطرحه هنا متعلق بإمكانية إيجاد ميثاق أخلاقي لهذه الحرية حتى لا يتوهَّم البعض أن الإساءة إلى الآخر والتشهير به بل والإساءة إلى المؤسسات والمكتسبات الوطنية، يندرج ضمن نطاق هذه الحُرية؛ فهناك الكثير ممن يركب مطية هذه الحُرية لصالح الأجندات الخاصة أو الشخصية أو حتى الفكرية المتطرِّفة التي تهدف إلى هدم المكتسبات، أو الإساءة إلى الشخصيات الفاعلة أو غير ذلك، مما يتنافى مع مفهوم حرية التعبير التي يكفلها النظام الأساسي للدولة.

تحت عنوان (أهمية حرية التعبير عن الرأي) يكشف تقرير حرية التعبير، الصادر عن مركز القانون والديمقراطية للدعم الإعلامي الدولي (IMS)، أن هذه الحرية لا يمكن تحقيقها إلا إذا تحمَّل المرء مسؤولية سوء استغلال تلك الحرية وتعمَّد الإساءة لأي شخص آخر أيَّا كان؛ فحرية التعبير ترتبط بـ (الحماية القانونية)، التي تتعلَّق بحماية صاحب الرأي من ناحية، والفكر الذي يقدِّمه من ناحية ثانية، وحماية الآخر المشارك من ناحية ثالثة. إنها حماية تضبط منظومة هذه الحُرية، وتؤطرها في نطاق يحفظ كرامة الإنسان واحترامه لذاته وللآخر، وبالتالي مدى فهمه لعمق هذا المفهوم، بما يتيح له المشاركة الفاعلة الإيجابية.

إن حرية التعبير عن الآراء ترتبط بفكر المجتمع وأخلاقه وقيمه، ولذلك فإن مفهومها يقوم على (احترام حقوق الآخرين وسمعتهم)؛ فلا يمكن للحرية أن تتسبَّب في إيذاء الآخر والتعدي على حقوقه، إلا إذا كان أفراد المجتمع لا يُدركون إطارها الأخلاقي، ولا يفهمون ما يسبِّبه ذلك في الكثير من الإشكالات الاجتماعية بل والإخلال بمنظومة الأمن الاجتماعي؛ فحين يأمن المسيء العقاب، ويعتقد أنه يخدم وطنه حينما يتعدى على حقوق الآخرين ودينهم وسمعتهم فإن ذلك كله سيُنتج مجتمعا غير سوي، وغير قادر على المشاركة الفاعلة وبالتالي تحقيق المواطنة المنشودة.

وعلى الرغم من أن حرية التعبير عن الآراء لا تخضع للرقابة السابقة بقدر ما تخضع للمسؤولية التي علينا أن نتحمَّلها عندما نعبِّر عن آرائنا، فكما (لا يجوز تقييد حق التعبير)، (لا يجوز كذلك التعدي على الآخر)؛ إلا أنه لا شيء مطلق، ولا شيء يمكن أن يحقِّق هذه المعادلة سوى الفهم الواعي بأنه ما دام لي حق فللآخر كذلك حق، وحقي يتحدد وفق منظومة ثقافية ودينية متكاملة، تحفظ حقوقنا وحقوق الآخرين، وفق مسؤولية النقاش التي يمكن أن تصل إلى حدَّ المساءلة القانونية.

إن القوانين في عُمان وتشريعاتها تضمن الحرية المسؤولة وتدعمها بما يحقق المصلحة العامة، ولذلك فإن هذه الحُرية مكفولة ومحمية باعتبارها فكرة أخلاقية وتنموية تقوم عليها تلك القوانين، وقد مُنحت وفقا لذلك مفاهيم ضمنت الحُرية المسؤولة سواء في أنظمة الشورى وتداول المعلومات وانفتاحها، والشفافية أو غير ذلك من المفاهيم والممارسات المتعلقة بهذه الحرية، إلا أن الدور المقابل هو دورنا نحن في إدراك وفهم حدود هذه الحرية المسؤولة؛ فعندما نعبِّر عن آرائنا علينا أن لا ننسى حقوق الآخرين، وحقهم أيضا في التعبير عن آرائهم، إذ لا يمكن الحصول على الحق بالتعدي على الآخر.

ولأن التعددية والتنوُّع الفكري أساس التكامل والبناء في أي مجتمع فإن حرية التعبير عن الرأي تواجه اليوم الكثير من المهددات والتحديات خاصة عبر وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الإلكترونية؛ فإذا كانت الرقابة الصارمة في بعض البلدان تمثِّل أحد تلك التهديدات، فإن جهل المستخدمين يمثل المقابل المكافئ لتلك التحديات والتهديدات؛ ذلك لأن الكثير من القضايا التي يشهدها العالم هي إساءة استخدام هذه الحُرية بما يمُس حقوق الأفراد الآخرين ومحاولة النيل منهم قصدا أو بغير قصد.

والحال أن حرية التعبير يُراد منها قدرة المجتمعات على التفاهم وبناء حوار مشترك فاعل، بينما أصبحت في الكثير من الأحوال تدخل ضمن نطاق الإساءة بالتنمر أو القذف أو محاولة تشويه السمعة أو غير ذلك، مما جعل منها أداة سلبية غير قادرة على التعامل مع نفسها باعتبارها فعلا تنمويا وحضاريا، لذلك فإن المجتمعات المتحضرِّة تتَّخذ منها قوة ذات أبعاد معرفية تُسهِم في ترسيخ الوعي وبناء منظومة تنموية قوامها التسامح والنقاش الفاعل القادر على استيعاب الاختلاف والتنوُّع وتحويله إلى قوة مجتمعية بنّاءة.

إن حرية التعبير عن الرأي في عُمان مكسب تنموي معرفي، وعلينا جميعا تعزيز دوره الفاعل، وتعظيمه ليكون أحد أعمدة التطور الاجتماعي والثقافي، من خلال الممارسة القادرة على استيعاب الاختلاف، واحترام الآخر والمكتسبات الوطنية، لذلك فإن ميثاق هذه الحُرية ينطلق من مفهومها وتمكين دورها بما يعزِّز مكانتها في المجتمع باعتبارها حقا أصيلا من حقوق الإنسان.

عائشة الدرمكية باحثة متخصصة في مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة