العمل المصرفي يرتكز على الإيهام بالثقة، فلا يمكن لأي بنك البقاء إذا أراد عدد كافٍ من المودعين استعادة ودائعهم في الوقت نفسه، والتاريخ المصرفي ملئ بحوادث تدافع المودعين المذعورين نحو البنوك (عندما تزول خدعة هذه الثقة)، لذلك الحيلة التي يرتكز عليها العمل المصرفي هي ضمان ألا يكون هناك سبب على الإطلاق لجعل الزبائن يسحبون نقودهم فجأة وبسرعة، وهذا ما فشل فيه مسؤولو بنك سيليكون فالي في لحظة حاسمة. انهيار هذا البنك الذي تأسس قبل 40 سنة لخدمة زبائنه في وادي السيليكون حدث خلال 40 ساعة، ففي 8 مارس ذكر البنك الذي يحتل المرتبة 16 في قائمة البنوك الأمريكية أنه سيصدر أسهما جديدة بقيمة 2 بليون دولار لأسباب من بينها تغطية خسائر السندات، دفع ذلك إلى فحص ميزانيته العمومية الذي كشف أن نصف أصوله كانت سندات طويلة الأجل، والعديد منها خاسرة (قيمتها الاسمية أقل من قيمتها في السوق- المترجم)، نتج عن ذلك سحب ودائع بقيمة 42 بليون دولار تشكل ربع إجمالي ودائع البنك، وعند الظهر يوم 10 مارس أعلنت الجهات التنظيمية انهيار بنك سيليكون فالي.

ربما كان هذا الانهيار حالة فريدة غير قابلة للتكرار وسط البنوك الأخرى، فالنشاط المصرفي لبنك سيليكون فالي (خدمة شركات التقنية) غير عادي، إذ معظم زبائنه شركاتٌ تفوق ودائعها الحدَّ الأعلى المؤمَّن بواسطة المؤسسة الفدرالية لتأمين الودائع وهو 250 ألف دولار، لذلك إذا انهار البنك ستواجه هذه الشركات خسائر، إلى ذلك استخدم بنك سيليكون فالي الودائع لشراء سندات (خزانة) طويلة الأجل في ذروة السوق. يقول لاري سمرز وهو وزير خزانة سابق: "كان من الممكن افتراض أن بنك سيليكون فالي مرشح جيد للانهيار وافتراض ألا يتسبب انهياره في عدوى (تنتقل إلى النظام المصرفي)، لكن طلبات سحب الودائع عند البنوك الإقليمية الأخرى في الأيام التالية كشفت "أن هنالك في الواقع قدر كبير من العدوى"، ومن هنا جاء تدخل السلطات، فقبل استئناف الأسواق نشاطها في 13 مارس كشف بنك الاحتياط الفدرالي ووزارة الخزانة أن بنك "سيجناتشر" ومقره في نيويورك انهار أيضا، وأعلنا عن إجراءين للحيلولة دون حدوث المزيد من الانهيارات، فأولا، كل المودعين في البنكين سيتم تعويضهم وعلى الفور، وثانيا، ستوجِد المؤسسة الفدرالية لتأمين الودائع برنامج إقراض طارئ جديد (برنامج التمويل المصرفي المؤقت) يسمح للبنوك بإيداع أصول عالية الجودة كالسندات، أو سندات الرهونات العقارية المضمونة بوكالات حكومية وذلك في مقابل قروض نقدية تساوي القيمة الاسمية للأصل وليس القيمة السوقية، وبذلك تحصل البنوك التي اشترت كميات ضخمة من السندات المتراجعة في قيمتها على الحماية من مصير بنك سيليكون فالي.

تطرح هذه الأحداث أسئلة كبرى حول النظام المصرفي الأمريكي، لقد كان من المفترض أن تكون الإجراءات التنظيمية التي اتخذت في فترة ما بعد الأزمة المالية العالمية قد ملأت البنوك برؤوس الأموال، ورفعت احتياطياتها النقدية، وحدَّت من المخاطر التي يمكن أن تتعرض لها، وكان الهدف أن تتوافر لبنك الاحتياط الفدرالي الأدوات التي يحتاجها؛ لضمان استمرار عمل المؤسسات القادرة على سداد ديونها. فالبنك وهذا شيء بالغ الأهمية مقرض الملاذ الأخير، وقادر على تبديل الأموال النقدية بضمانة جيدة عند معدل عقابي في نافذة الخصم الخاصة به، ودور بنك الاحتياط الفدرالي كمُقرِض الملاذ الأخير أحد أهم وظائف أي بنك مركزي، وكما كتب والتر باجوت الذي تولي رئاسة تحرير مجلة الإيكونومست قبل 150 عاما في كتابه "لومبارد ستريت" فإن وظيفة البنك المركزي هي "الإقراض في وقت الذعر مقابل أي نوع من الأوراق المالية الراهنة أو أي نوع ( من الأصول ) التي يتم في العادة إقراض النقود مقابلها." وأضاف: إن ذلك الإقراض "ربما لا ينقذ البنك المهدَّد، وإذا لم ينقذه فلن ينقذه أي شيء آخر." تدخلات بنك الاحتياط ووزارة الخزانة من النوع الذي يمكن توقعه في وقت الأزمة، فهذه التدخلات أعادت تشكيل البناء المالي للولايات المتحدة بصورة جذرية، مع ذلك بدا للوهلة الأولى أن المشكلة هي ضعف إدارة المخاطر في بنك وحيد، ويقول بيتر كونتي- براون المؤرخ مالي بجامعة بنسلفانيا: " هذا إما ردُّ فعل مبالغ فيه ولا يمكن الدفاع عنه، أو أن هنالك عطب (خراب أو فساد) في النظام المالي الأمريكي أكثر من ذلك الذي يمكن أن نعرفه نحن الذين ليس في مقدورنا الإلمام بالمعلومات الإشرافية غير المتاحة".

إذن أين تكمن المشكلة؟ (هل هي ضعف في إدارة المخاطر أم عطب في النظام المصرفي؟)

لتقدير الاحتمالات من المهم معرفة الكيفية التي تؤثر بها التغيرات في أسعار الفائدة على المؤسسات المالية، والميزانية العمومية للبنك صورة مرآوية لميزانية زبائنه فهو مدين بأموال المودعين، والقروض التي يدين بها الناس له هي أصوله، وفي بداية عام 2022 عندما كانت أسعار الفائدة قريبة من الصفر كانت البنوك الأمريكية تحتفظ بأصول قيمتها 24 تريليون دولار منها 3.4 تريليون دولار أموال نقدية حاضرة لمقابلة طلبات السحب من المودعين، وحوالي 6 تريليون دولار أوراق مالية أغلبها سندات خزانة، أو سندات مضمونة بالرهونات العقارية، هذا بجانب 11.2 تريليون دولار في شكل قروض. موَّلت البنوك الأمريكية هذه الأصول بقاعدة ودائع ضخمة تبلغ قيمتها 19 تريليون دولار حوالي نصفها تقريبا مؤمَّن بواسطة المؤسسة الفدرالية لتأمين الودائع ونصفها غير مؤمَّن، ولحماية نفسها من تكبد خسائر في أصولها تحتفظ البنوك برأسمال أساسي (شريحة أولى) بقيمة 2 تريليون دولار فائقة الجودة، ثم قفزت أسعار الفائدة إلى 4.5%، ولفت انهيار بنك سيليكون فالي الانتباه إلى حقيقة أن قيمة المحافظ الاستثمارية للبنوك هبطت نتيجة لارتفاع أسعار الفائدة، وأن هذه الخسائر لم تسجل في ميزانياتها العمومية. تذكر المؤسسة الفدرالية لتأمين الودائع أن المؤسسات المالية الأمريكية في مجموعها لديها خسائر غير متحققة بقيمة 620 بليون دولار (ستتكبدها إذا باعت أصولها بسعرها الحالي في السوق)، مقارنة هذه الخسائر برؤوس الأموال التي تحتفظ بها البنوك كما فعل العديدون قد تثير الرعب، فخسائر بنسبة 10% للمحافظ الاستثمارية في حال تحققها ستقضي في مجموعها على أكثر من 25% من رؤوس أموال البنوك، وربما كانت رسملة النظام المصرفي جيدة قبل عام، لكن قسما من هذه الرسملة قضت عليه أسعار الفائدة المرتفعة في الوقت الحاضر، وتزداد الخطورة عند إعادة تقييم الأصول الأخرى على أساس الارتفاع في أسعار الفائدة، كما فعلت اريكا جيانج الأستاذة بجامعة سذًرن كاليفورنيا وزملاؤها، وليس هنالك مثلا اختلاف اقتصادي حقيقي بين سند لمدة 10 سنوات بفائدة 2% وقرض لمدة 10 سنوات بسعر فائدة ثابت عند 2%، فإذا هبطت قيمة السند بنسبة 15% ستهبط قيمة القرض كذلك، وبعض الأصول ستكون قروضا بفوائد معوَّمة، حيث يرتفع معدل الفائدة مع ارتفاع أسعار السوق، وما يفيد أن البيانات التي جمعتها جيانج وزملاؤها الباحثون تقسِّم القروض إلى قروض بمعدلات فائدة ثابتة وأخرى معوَّمة، وهذا يسمح لهم بتحليل قروض معدلات الفائدة الثابتة فقط، والنتيجة هي أن قيمة أصول البنوك ستكون أقل بحوالي 2 تريليون دولار مما ذُكِر، وهذا كافٍ للقضاء على كل رؤوس الأموال في النظام المصرفي الأمريكي على الرغم من أن جزءا من هذه المخاطر يمكن تغطيته إلا أن ذلك مكلف ومن المستبعد أن تكون البنوك قد فعلت الكثير من ذلك، لكن وكما أشارت جيانج ورفاقها هنالك مشكلة مع توقف التحليل عند هذا الحد، فقاعدة الودائع المعادلة للأصول لم تتم إعادة تقييمها أيضا، وهي أكثر قيمة بقدر كبير قياسا بما كانت عليه قبل عام، فالمؤسسات المالية عادة لا تدفع شيئا إطلاقا على الودائع، وهذه الودائع أيضا لا تتحرك كثيرا، إذ يحتفظ المودعون بنقودهم في حسابات جارية لسنوات عديدة، في الأثناء وبفضل ارتفاع أسعار الفائدة هبط سعر سند الفائدة السنوية الصفرية لمدة 10 سنوات بنسبة 20% تقريبا منذ عام 2022، وهذا يعني ضمنا أن قيمة القدرة على الاقتراض عند معدل 0% لمدة 10 سنوات وهو ما تتيحه عمليا قاعدة الودائع القليلة التكلفة وغير المتحركة تزيد الآن بنسبة 20% عن قيمتها قبل عام، وهذا أكثر من كاف للتعويض عن الخسائر في أصول البنوك، (بمعنى أن قيمة الودائع في البنوك التي لا تدفع فائدة مقابل الاحتفاظ بها وخصوصا ودائع الحسابات الجارية زادت قيمتها الآن بعد رفع أسعار الفائدة؛ لأن استخدامها الآن في الإقراض يحقق للبنوك فائدة أكبر مقارنة بقروض العام الماضي، وهذا يكفي لتعويض البنوك عن الخسائر التي تتكبدها في أصولها مثل سندات الخزانة القديمة الطويلة الأجل التي تراجعت قيمة شرائها الآن- المترجم)، لذلك الخطر الحقيقي للبنك يعتمد على كل من الودائع وسلوك المودع، فعندما ترتفع أسعار الفائدة قد يحرك الزبائن نقودهم (من الحساب الجاري) إلى السوق المالية، أو حسابات ادخار مرتفعة العائد، وهذا يزيد من تكلفة تمويل البنك على الرغم من أن هذه التكلفة في العادة لا تكون كبيرة.

أحيانا إذا دخل البنك في متاعب قاسية يمكن أن تختفي الودائع بين ليلة وضحاها، كما اكتشف ذلك بنك سيليكون فالي بطريقة مدمرة، البنوك التي بها ودائع كبيرة وقليلة التكلفة وغير متحركة ليس عليها أن تقلق كثيرا من القيمة السوقية الراهنة لأصولها، بالمقابل البنوك التي تهرُب منها ودائعها يلزمها جدا أن تفعل ذلك، وكما ذكر هيو فان ستينَس المسؤول بشركة أوليفر وايمان الاستشارية: إن"خسائر الأوراق المالية تصبح خسائر فقط عندما تتحقق فعليا (كأن تباع مثلا)"،

كم عدد البنوك التي اشترت كميات ضخمة من الأوراق المالية أو قدمت الكثير من قروض الفائدة الثابتة، ويمكن أن تخرج منها الودائع غير المستقرة؟ الودائع المؤمَّنة هي الأكثر استقرارا؛ لأنها محمية إذا ساءت الأمور، لذلك فحصت اريكا جيانق وزملاؤها النقود غير المؤمنة، ووجد فريقها أنه في حال حدوث سحب لنصف مثل هذه الودائع لن تكون الأصول ورؤوس الأموال المتبقية لحوالي 190 بنكا أمريكيا كافية لتغطية باقي ودائعها، وتحتفظ هذه البنوك حاليا 300 بليون دولار في ودائع مؤمَّنة. الإمكانية الجديدة لمقايضة الأصول بالقيمة الاسمية (وليس بقيمتها في السوق) التي أتاحها "برنامج التمويل المصرفي المؤقت" على الأقل تجعل من الأيسر للبنوك الوفاء بطلبات سحب الودائع، لكن حتى هذا الحل مؤقت فقط، فبرنامج البنك الفدرالي الجديد نفسه "إيهام بالثقة"، فهو سيدعم البنوك التي تواجه صعوبات فقط طالما اعتقد المودعون أنه سيفعل ذلك، وسيكون الاقتراض عبر هذا البرنامج بأسعار الفائدة السوقية عند معدل 4.5%، هذا يعني إذا كان دخل الفائدة الذي يحصل عليه البنك من أصوله أقل من هذا المعدل (وخرجت منه ودائعه القليلة التكلفة) فإنه ببساطة سيموت موتا بطيئا من خسائر صافي دخل إيرادات الفائدة ربع السنوي، ولن ينهار فجأة بسبب تدافع المودعين لسحب ودائعهم (صافي إيرادات الفائدة هو الفرق بين إيرادات الفائدة من أصول البنك ونفقات سداد فوائد خصومه أو ديونه- المترجم)، هذا ما دفع لاري فينك الرئيس التنفيذي لشركة إدارة الأصول الكبيرة بلاك روك إلى التحذير من "أزمة تتجلَّى في بطء"، ويتوقع أن تشتمل على "المزيد من الاستحواذات والإغلاقات"، وفي اعتقاد فينك أن كشف ارتفاع أسعار الفائدة لذلك النوع من التفاوت أو عدم التطابق بين قيمة الأصول وقيمة الخصوم الذي قاد إلى انهيار بنك سيليكون فالي يمثل "الثمن الذي ندفعه لعقود من سهولة الحصول على المال بسعر فائدة متدنٍ". يشير كونتي- براون الأستاذ بجامعة بنسلفانيا إلى وجود نظائر تاريخية أكثرها وضوحا كانت البنوك المنهارة التي ارتفع عددها في أعوام الثمانينيات مع رفع بول فولكر رئيس بنك الاحتياط الفدرالي وقتها لأسعار الفائدة، ارتفاع سعر الفائدة كشف أولا المشاكل في محافظ السندات، حيث تُظهِر الأسواق هبوطَ قيمة هذه الأصول مع ارتفاع أسعار الفائدة في الوقت الفعلي (على الفور)، لكن السندات ليست هي الأصول الوحيدة التي تنطوي على مخاطر عندما تتغير السياسة النقدية. يقول كونتي-براون: "الاختلاف بين مخاطر سعر الفائدة ومخاطر الائتمان يمكن أن يكون دقيقا جدا"، إذ سيضغط ارتفاع سعر الفائدة في النهاية على المقترضين أيضا.

في أعوام الثمانينيات كانت أولى البنوك التي انهارت تلك التي هبطت قيمة أصولها مع ارتفاع أسعار الفائدة، لكن الأزمة أيضا كشفت الأصول الرديئة (التي فقدت كل أو معظم قيمتها) في بنوك الادخار الأمريكية في نهاية المطاف، وهكذا يشعر المتشائمون بالقلق من أن البنوك التي تنهار الآن بسبب ارتفاع أسعار الفائدة هي في الواقع أولى قطع "الدومينو" التي تتساقط، نتيجة كل هذا هي أن النظام المصرفي أكثر هشاشة إلى بعيد من تصور الجهات التنظيمية والمستثمرين وربما حتى من تصور مسؤولي البنوك أنفسهم قبل انهيار سيليكون فالي، ومن الواضح أن البنوك الأصغر التي بها ودائع غير مؤمَّنة بحاجة إلى زيادة رؤوس أموالها قريبا، ويشير تورستين سْلوك كبير الاقتصاديين بشركة "ابولو" إلى أن ثلث الأصول في النظام المصرفي الأمريكي يوجد في بنوك أصغر من بنك سيليكون فالي، كل هذه البنوك ستتشدد الآن في الإقراض في محاولة لتقوية ميزانياتها، وحقيقة أن البنوك المتوسطة الحجم أكبر أو أهم من أن "تُترك لكي تنهار" درس يجب أن تتعلمه الجهات المسؤولة عن تنظيم قطاع المصارف من تجربة بنك سيليكون فالي. لقد قلبت حادثة انهياره رأسا على عقب كل مواعظ التمويل في فترة ما بعد الأزمة المالية العالمية أيضا. ويقول آنجيل يوبيدي رئيس قسم الأبحاث الاقتصادية بصندوق التحوط سيتادِل: " بعد عام 2008 اعتقد المستثمرون أن الودائع آمنة، وتمويل السوق محفوف بالمخاطر، كما اعتقدوا أيضا أن سندات الخزانة آمنة والقروض تنطوي على مخاطر". وأضاف: " كل معايير وقواعد العمل في فترة ما بعد الأزمة كتبت على هذا الأساس، والآن يبدو أن العكس هو الصحيح"، لكن هنالك موعظة تمويل واحدة لا تزال سليمة، وهي أن المشاكل في النظام المالي لا تنشأ إطلاقا من أكثر أجزائه التي تُراقب عن كَثَب.