ترى هل نمتدح الروايات عندما نقول بأنّها شعر؟! شعر مكثف وآسر؟! ليس لأسباب تتعلق باللغة وما تختزنه من تكثيف وحسب، وإنّما للخيال الذي يتدفق بيسر، وللحزن الذي يعبر ممزوجا بالرقة.
ساورني هذا الشعور وأنا أقرأ رواية «غداء في بيت الطباخة»، للكاتب المصري محمد الفخراني، والصادرة عن دار العين ٢٠٢٣، فعشرات الروايات العربية تتحدث عن الحرب بما يشبه التقارير الإخبارية الدموية، بفجاجة موحشة، وانتصار مجاني للقضايا الكبرى على حساب الكتابة، الكتابة التي تجعل من أحدنا كاتبا جيدا، وليست «القضايا الملقاة على قارعة الطريق» كما يقول الجاحظ. ثمّة حرب هنا، ولكن لا نعرف المنتصر فيها من الخاسر، فالناس مجرد ألوان. البطلان جنديان أحدهما «رمادي» والآخر «بني»، ينزفان من جروح أحدثها كل واحد منهما في الآخر. لكن بعد مدة من التعارف تحولا من مجرد لونين عائمين في خندق إلى مدرس للتاريخ وطباخ. ربما لأنّ مجرد معرفتنا بأسماء بعضنا أو صفاتنا على الأقل، تصعب عملية القتل. ثمّ تنمو الأسئلة: لو غلب أحدنا النوم، هل سيحرص الآخر على سلامة خصمه أم سيقتله؟ ففي الحرب يصبح تصنيف الناس كالآتي: «شخص أقتله وشخص لا أقتله!». وكما لا توجد أسماء، لا يوجد تحديد لمكان وزمان، هذا الإطلاق يعني أنّه فعل أبدي متكرر، والجنديان هما كينونة كل الجنود الذين عبروا البشرية كقربان. تتناسل الفكرة الفلسفية، عندما نكتشف أنّ الجنود الموتى كانوا مادة الخندق وجدارها السميك والغناء المتسربل من الغيب.
انبثقت الذكريات والحكايات، حياة الطباخ مع بطلة حياته «الأمّ» الطباخة، وحياة مدرس التاريخ الذي يحمل صورة العائلة على كورنيش بحري كأنّما لم تكن هنالك حرب يوما ما.
ثمّة مراوحة ذكية بين قصّة الجنديين في الخندق وتناوب الضوء بينهما، وبين الحرب التي يمنحها الفخراني صوتا لتحكي. الحرب رفيقة البشرية منذ بدء الخليقة والتي لن تضع أوزارها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، تتلون وتتغير لكنها تضمن مقعدها دوما من جيل لآخر.
يدفعنا الفخراني للتعاطف معها، عندما تسأل عن اسمها وعن حقيقتها، وعندما نعرف أنّها تأمل في الحصول على قصّة حبّ وحياة عادية، وتعتب على البشر الذين يجعلونها تعمل كل يوم. يدخل الفخراني إلى عقلها ليفتت مشاعرها المرهفة. لقد ماتت الحرب أكثر من مرّة وولدت آلاف المرات، كتب عنها وانتجت من أجلها الأفلام، ورويت عنها الحكايات، لكن لم يسألها أحد يوما ماذا تريد!
لفتتني العلاقة بين الطعام وبين القتل. فمجرد تصورنا أنّ «كل يد تقتل داخل الحرب كانت يوما ما تشارك الطعام مع يد أخرى»، تبدو فكرة مروعة. لكن ماذا يمكن أن يفعل تناول الطعام بين الخصوم؟ هل يذوب الأحقاد حقا؟!
الرواية تقوم على افتراض «ماذا لو؟»، كان ثمّة تغيير صغير في ظروف اللقاء بين شخصين، كيف سيتغير السيناريو من إطلاق الرصاص إلى المصافحة والعناق؟ كيف نتحول من مشروع قتلة إلى موضوع إنساني؟!
وإن كان ثمة ما وحد الخصمين في وحدتهما وجوعهما فهو قوة الخيال، عندما التقيا بنفسيهما، وهما طفلان يلعبان الكرة ويغيبان في الغابة! عندما تشبثا بعازف الكمان في الراديو، وعندما شاهدا الصور في علبة السينما فأوقدت ذكرياتهما، كفعل مغاير لفعل الحرب التي تمحو دوما، وأيضا عندما نمت بينهما بذرة الذرة التي تناوبا على سقيها، وكأن ميلادها تأكيد على حياتهما معا. البطولة للأشخاص العاديين، الذين يجعلون من الطعام المشترك والتعارف بالأسماء والذكريات الأصيلة أسباب تشل الأيدي القاتلة.
هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى
ساورني هذا الشعور وأنا أقرأ رواية «غداء في بيت الطباخة»، للكاتب المصري محمد الفخراني، والصادرة عن دار العين ٢٠٢٣، فعشرات الروايات العربية تتحدث عن الحرب بما يشبه التقارير الإخبارية الدموية، بفجاجة موحشة، وانتصار مجاني للقضايا الكبرى على حساب الكتابة، الكتابة التي تجعل من أحدنا كاتبا جيدا، وليست «القضايا الملقاة على قارعة الطريق» كما يقول الجاحظ. ثمّة حرب هنا، ولكن لا نعرف المنتصر فيها من الخاسر، فالناس مجرد ألوان. البطلان جنديان أحدهما «رمادي» والآخر «بني»، ينزفان من جروح أحدثها كل واحد منهما في الآخر. لكن بعد مدة من التعارف تحولا من مجرد لونين عائمين في خندق إلى مدرس للتاريخ وطباخ. ربما لأنّ مجرد معرفتنا بأسماء بعضنا أو صفاتنا على الأقل، تصعب عملية القتل. ثمّ تنمو الأسئلة: لو غلب أحدنا النوم، هل سيحرص الآخر على سلامة خصمه أم سيقتله؟ ففي الحرب يصبح تصنيف الناس كالآتي: «شخص أقتله وشخص لا أقتله!». وكما لا توجد أسماء، لا يوجد تحديد لمكان وزمان، هذا الإطلاق يعني أنّه فعل أبدي متكرر، والجنديان هما كينونة كل الجنود الذين عبروا البشرية كقربان. تتناسل الفكرة الفلسفية، عندما نكتشف أنّ الجنود الموتى كانوا مادة الخندق وجدارها السميك والغناء المتسربل من الغيب.
انبثقت الذكريات والحكايات، حياة الطباخ مع بطلة حياته «الأمّ» الطباخة، وحياة مدرس التاريخ الذي يحمل صورة العائلة على كورنيش بحري كأنّما لم تكن هنالك حرب يوما ما.
ثمّة مراوحة ذكية بين قصّة الجنديين في الخندق وتناوب الضوء بينهما، وبين الحرب التي يمنحها الفخراني صوتا لتحكي. الحرب رفيقة البشرية منذ بدء الخليقة والتي لن تضع أوزارها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، تتلون وتتغير لكنها تضمن مقعدها دوما من جيل لآخر.
يدفعنا الفخراني للتعاطف معها، عندما تسأل عن اسمها وعن حقيقتها، وعندما نعرف أنّها تأمل في الحصول على قصّة حبّ وحياة عادية، وتعتب على البشر الذين يجعلونها تعمل كل يوم. يدخل الفخراني إلى عقلها ليفتت مشاعرها المرهفة. لقد ماتت الحرب أكثر من مرّة وولدت آلاف المرات، كتب عنها وانتجت من أجلها الأفلام، ورويت عنها الحكايات، لكن لم يسألها أحد يوما ماذا تريد!
لفتتني العلاقة بين الطعام وبين القتل. فمجرد تصورنا أنّ «كل يد تقتل داخل الحرب كانت يوما ما تشارك الطعام مع يد أخرى»، تبدو فكرة مروعة. لكن ماذا يمكن أن يفعل تناول الطعام بين الخصوم؟ هل يذوب الأحقاد حقا؟!
الرواية تقوم على افتراض «ماذا لو؟»، كان ثمّة تغيير صغير في ظروف اللقاء بين شخصين، كيف سيتغير السيناريو من إطلاق الرصاص إلى المصافحة والعناق؟ كيف نتحول من مشروع قتلة إلى موضوع إنساني؟!
وإن كان ثمة ما وحد الخصمين في وحدتهما وجوعهما فهو قوة الخيال، عندما التقيا بنفسيهما، وهما طفلان يلعبان الكرة ويغيبان في الغابة! عندما تشبثا بعازف الكمان في الراديو، وعندما شاهدا الصور في علبة السينما فأوقدت ذكرياتهما، كفعل مغاير لفعل الحرب التي تمحو دوما، وأيضا عندما نمت بينهما بذرة الذرة التي تناوبا على سقيها، وكأن ميلادها تأكيد على حياتهما معا. البطولة للأشخاص العاديين، الذين يجعلون من الطعام المشترك والتعارف بالأسماء والذكريات الأصيلة أسباب تشل الأيدي القاتلة.
هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى