بيت الزبير أو بمعنى أصح «متحف بيت الزبير»، يقع في العاصمة العمانية الشامخة مسقط وهو قريب من قصر العلم العامر ومن المتحف الوطني. مع إنه ليس غاية الحديث هنا عن نشأته وتأسيسه، بقدر كونه معلما تاريخيا وثقافيا يحتوي على كنوز ونفائس من الثقافة والآداب تسرد وتسطر الإمبراطورية العمانية ومكانتها التاريخية عبر الزمان.

وليس من سبيل الصدفة، ما تبادلته سائحة لبنانية مع أخرى عمانية زارتا بيت الزبير قبل شهرين تقريبا واستغراب اللبنانية بقولها «أنا جيت من بيروت لزيارة مثل هذه المعالم»، بل هو يتسق مع ما ذكره بعض الرحالة الغربيين الذين زاروا مسقط وخطت أيديهم ما شاهدوه من قيم عمانية أصيلة ومن تجارة مزدهرة وتاريخ مجيد بعضه محفوظ بمتحف بيت الزبير والذي يعتبر تحفة معمارية تبرز حياة العمانيين قديما وإرثهم التاريخي والثقافي. بل ليس التاريخي فقط وإنما المكانة الاقتصادية للعاصمة مسقط فقد سطرها الإنجليزي بارسونز عام (1775م)، حيث ذكر «أن مسقط تعج بتجارة عظيمة ويحج إليها عدد كبير من السفن متاجرة إلى سيرات وبومباي وجُوا وعلى طوال ساحل مالابار وإلى مخا وجدة على البحر الأحمر». كما ذكر بأن مسقط أصبحت مخزنا عظيما للسلع التي يحملونها من تلك البلدان. هذا التوثيق التاريخي كُتب قبل ما يزيد على (248) عاما، يضع مسقط في موقع اقتصادي دولي كبير نظرا لموقعها على بحرب العرب والمحيط الهندي ومنطقة الخليج. هذه المكانة المرموقة التي يتناقلها الرحالة على مر التاريخ هي مفخرة صُنعت بأياد عمانية كافحت كل أشكال التوغل والاستعمار الغربي.

ولعل التاريخ يعطي شهادات صادقة من أرض الواقع للسلوك الحضاري الذي تمتع به العمانيون، هذه الشهادات تكون أكثر قبولا ومصداقية من الداخل والخارج عندما تصدر من رحالة -غير عرب - يحملون ثقافات أخرى تختلف عن ثقافة البلد. ولعلنا نستشهد أيضا من بيت الزبير، بالقس الإنجليزي «جون أوفينغتن» الذي كان يعمل مع الملك جيمس الثاني عندما زار مسقط عام (1663م)، ذكر ما نصه «هؤلاء العرب محترمون جدا في سلوكهم ومتحضرون ولا يبدر منهم عنف أو إهانة بأية طريقة وعلى الرغم من تمسكهم بدينهم، إلا أنهم لا يفرضونه على أحد... هؤلاء قوم جبلوا على الهدوء والعدل ومنحوا من الصفات الممتازة التي سعى الفلاسفة اليونان وعلماء الأخلاق الرومان إلى أن يبثوها في رعاياهم، إلا أنهم لم يصيبوا هدفهم». هذه الشهادة وهذا الإطراء والذي كتب قبل (360) عاما يبرهن تمسك العمانيين بمبادئ الدين الحنيف وبالرغم من أن جون ليس مسلما، إلا إن ما ذكره ليس بغريب ويتوافق مع حديث الرسول «صلى الله عليه وسلم» عندما ضُرب وسُب الرجل الذي بعثه إلى أحد أحياء العرب فلما أتى قال له الرسول « لو أن أهل عمان أتيت ما سبوك وما ضربوك». وتبرهن مدى التلاحم الأخلاقي لسيرة العمانيين على امتداد التاريخ الإنساني وتعطي دروسا لهذا الجيل والأجيال القادمة بأن العمانيين ينبذون العنف والتطرف والكراهية ويعملون على إرساء قواعد التسامح الديني القائم على احترام الآخر. في الجانب الآخر فإن بعضا من سلاطين الدولة البوسعيدية قادوا نهضة عصرية فلم يهتموا فقط ببناء أرقى القصور وأجملها وأفخمها بل اهتموا بشتى العلوم والمعارف وعملوا على إدخال الأنظمة المتقدمة. ففي عام (1929م)، أشار رودلف روث «بأن السلطان برغش كان عصريا في نظرته، فلم يبن لنفسه قصورا غالية وفخمة فحسب... بل أنشأ في مدينة زنجبار نظاما لتزويد المياه الذي يُعد متقدما جدا على الأنظمة الموجودة في الساحل الشرقي لأفريقيا عموما». ما كُتب قبل مئات السنين من قبل الرحالة الغربيين عن العاصمة مسقط خاصة وعمان عامة يعطي رسالة بأن العمانيين بحق شيدوا إمبراطورية تضاهي الإمبراطورية العثمانية من حيث التوغل والتوسع الجغرافي.

ولكن المتمعن لأغلب الكتب التي دونت التاريخ العماني فإنها سلكت اتجاهين حسب ما أشار إليه مؤلف كتاب الوسيط في التاريخ العماني (2015:7م) الأول: النهج العقدي المتمثل في إسقاط الأحداث التاريخية وأشخاصها على الأحكام العقدية، أما النهج الثاني فهو طريقة المؤلف أو المؤرخ والتي على أساسها يسرد الأحداث التاريخية وأشخاصها بشيء من التجرد عن الأحكام العقدية أو الشرعية حسب سعة إطلاعه ومعرفته بالحقائق والأحداث التاريخية. ولعل من أسباب الأخذ بالجانب العقدي أو الديني في كتابة التاريخ ما جاء في خاتمة كتاب «تحفة الاعيان بسيرة أهل عمان»، وهو تعليق أبي اسحاق إبراهيم أطفيش الجزائري، بأن علماء الشريعة الذين كتبوا في التاريخ يبتعدون عن الأحداث التاريخية إبان حكم أهل الجور وذلك من باب عدم نشر الباطل، بيد أنه في الجانب الآخر فإن للمعلق رأيا مغايرا لذلك النهج السائد في كتابة التاريخ ولا يُعذر من يسلكه.

الشيء الآخر فإن هناك صفة عامة لمؤلفات التاريخ وهي بأن غالبيتها تميل إلى - السردية - وأيضا - القصصية - مع ما يصاحب ذلك السرد أو القصص من أرقام ومعلومات قد لا تلامس الواقع السائد في ذلك العصر. من ذلك ما كتبه الكولونيل مايلز، في كتابه «الخليج بلدانه وقبائله» المترجم للعربية عام (1986م) وحصره للقبائل العمانية مع ذكر عدد السكان لكل قبيلة حيث أشار مثلا، هذه القبيلة سكانها عشرة آلاف وهذه ألف ومائتان، بالرغم من عدم وجود نظام احصائي يحسب السكان في وقت إنتهاء مايلز من تأليف كتابه عام (1919م).

كما أن أغلب الذين كتبوا التاريخ في العصور السابقة لم يعملوا على تقصي الحقائق والتمحيص الدقيق للأحداث والتحليل العلمي وإنما طغى كما أسلفنا الجانب السردي غير المترابط مع الأدلة عبر تضخيم الأحداث، وقد يكون شح مصادر المعلومات وصعوبة الوصول إليها من أهم الأسباب لذلك. أيضا وإن كانت هناك جهود قامت بها الجهات المختصة من جمع المخطوطات العمانية والعمل على تحقيقها إلا أنه لا تزال بعض كنوز المخطوطات العمانية التاريخية الثمينة موجودة في دول وجامعات أجنبية تستخدم كمراجع علمية وتستخدم كنوع من التراث الثقافي العالمي. حيث نتج عن ذلك أن قامت أشهر إذاعات العالم ومنها (BBC English) بإعداد وثائق وأفلام إذاعية عن زنجبار قبل سنوات عديدة، مع عدم الإشارة إلى الإمبراطورية العمانية وتملكها لزنجبار وإنما ذكر أن عمان كانت تتاجر «بالعبيد» في تلك الحقبة من الزمن، مع أن تجارة - الرق - كانت موجودة قبل الميلاد بقرون حسب ما يراه مؤلف كتاب جهينة الأخبار في تاريخ زنجبار. من هنا نجد التضارب الصارخ بين ما خطه الرحالة الغربيون عن أمجاد عمان وبين إنكار التاريخ الذي سارت إليه تلك الإذاعة التي تدعي نهج المصداقية في الطرح إلا إنها بعيدة عن ذلك. هذه المغالطات التي بثتها تلك الإذاعة ما فتئت أن طعنها الإعلام البريطاني قبل بضع سنين من وجود عائلات بريطانية في قلب العاصمة لندن تستخدم العمال بطريقة العبودية (Slaving) ولا تعطيها إلا قوت يومها.

سرد تاريخ يُراد منه أن يفتح بابا ما زال مغلقا حتى الآن في إعادة صياغة ما كُتب من مؤلفات ومخطوطات عن التاريخ العماني الماجد بشيء من الحداثة والواقعية والتحليل ليعطي بُعدا تاريخيا وتسجيلا وتوثيقا لأمجاد الإمبراطورية العمانية وإن كانت البداية حدثت من متحف بيت الزبير، ولكن فإن المجال أوسع من ذلك ويحتاج إلى استراتيجية وطنية شاملة المعالم تعمل على المحافظة على التاريخ والتراث العماني الموغل في القدم لتتناقله الأجيال العمانية فهل من مُجيب.

د. حميد بن محمد البوسعيدي خبير بجامعة السلطان قابوس