1 - ما إن يترجل عن كرسيه الذي استعمره لسنوات طويلة «مجبرًا» بسبب نفاد الصلاحية وعدم الجدوى حتى تهبط عليه حالة غير معهودة من «التواضع» فيرد السلام على من بدأه بخير منه ويزور المرضى راغبًا في الوصل والأجر ويرفع الأذان وربما أمَ المصلين ويُشارك الناس أفراحهم وأتراحهم.

الرجل الخارج لتوه من عالم التبجيل والتوقير الذي وجد نفسه فجأة وبلا مقدمات وحيدًا ومعزولًا وقد افرنقع جميع من حوله من المنافقين والمُطبلين يطلب من الله الصفح والغُفران لكنه يقف عاجزًا عن إيقاف سيل الدعوات التي تسقط ُعلى رأسه ليل نهار مدركًا - أخيرًا - أن دعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب.

2- يقول الروائي الكبير البرتغالي « جوزيه ساراماغو» إن الندم هو «أقل الأشياء في العالم جدوى لأننا نقول عامة إننا نادمون لنستطيع التمتع بالمغفرة والنسيان لكن كل واحد منا يستمر سرًا في التعلق بأخطائه».

لا أدري لماذا يجزم ساراماغو بلا جدوى الندم رغم أنه يُفضي للنسيان والشعور بالمغفرة ويدين في الوقت نفسه تعلقنا بالأخطاء !! أليس الندم هو الطريق المباشر الذي يقودنا إلى تصحيح المسارات والوسيلة الأنجع لكسر غرور الإنسان الذي يسكن الضعف كل خلية من خلاياه وإن ظن غير ذلك ؟؟.

أليست الهفوات التي نرتكب بصورة متواصلة وربما متكررة في حياتنا اليومية هي سر الحياة الأول والتي بسببها استوطن بنو البشر الأرض وودعوا جنة ربهم حتى عودتهم النهائية المشروطة ؟.

وقعُ الندم يأتي خفيف الظِل دون خسائر موجعة وسقوط مدوٍ إذا ذهبنا إليه طائعين نتسول وده لكن انتظار أن يأتي إلينا تلك هي الكارثة الكبرى لأن الخسائر حينها تكون فادحة لا يمكن تعويضها.

يحتاج البعض إلى صدمة كارثية حتى يفيق من غيهِ ويصل إلى مرحلة الندم مُجبرًا لا مختارًا.. ينتظر أن تُطبِق السماء على رأسه ليصحو من غيبوبته ويعرف أن الله واحد..

3 - جاء في تعليق كتبه بخط يده على ظهر بطاقة من ورق مقوى يحمل الوجه الثاني منها صورة لطفلة تحمل باقة ورد أرسلها لي من لندن أعود لإخراجها كلما اشتد بي الحنين إليه: «أنا بخير وكفى.. عسى ألا تكون الوظائف قد فرقتكم». كانت الجملة الأولى كفيلة بتوصيف الحال الذي وصل إليه وهو في رحلة العلاج بالخارج.. كانت جملة وداع لا تقبل الظن أو التشكيك.. إنما هي توصيف دقيق وموجز للوضع النفسي الذي يعيشه.

كلما أمسكت بالبطاقة أقرأها، انتصر داخلي الشعور بأنه يعيش هناك سعيدًا وقد اختاره الله سبحانه وتعالى ليكون إلى جواره محبة منه وشفقة مما قد يصادفه في هذه الحياة الدنيا من مشقة وعناء.. اختار له الغياب لأن الغياب يعني حضوره الأبدي في قلوب كل من أحبوه.. اختار له ألا يشهد تقلبات الحياة ونكباتها وانكسارها وخُذلانها.

ترك رحيله في قلبي جُرحًا غائرًا لن يندمل وقد مضى على غيابه 29 عامًا.. رحل ابن «الروضة» الصديق يعقوب بن خاتم الحبسي في عِز شبابه بهدوء ليخلف فراغًا واسعًا وليترك الباب مفتوحًا أمام أسئلة وجودية أُخرى ما زال وقعها وهو يطرحها بطريقته الساخرة التي كنت أعشقها يرن في أُذنيّ.

آخر نقطة

لا ندرك إلا متأخرين أن ما يخرج من ألسنتنا في لحظات النشوة والارتياح لشخص ما قد يكون يومًا دليل إدانة وأن الحواس خادعة لا يمكن الوثوق بها، لا نعرف إلا بعد فوات الأوان أن الثقة لا تُمنح لعابر سبيل.