(1)

التقيا ببعضهما البعض بالمصادفة في معرض الكتاب بعد تسع وأربعين سنة من وقوع الكمين الذي أودى به ومزَّقه بالرَّصاص (ولا أحد يعلم، حتى الآن، أين دُفِن).

لم يعرفها؛ فهو قد كبر في السِّن ومرَّت على وجهه أخاديد الزمن حرفيَّا ومجازا، أما هي فقد ترهَّلت وازدادت سُمرَتها أيضا بحيث صار من المستحيل التعرف إليها لأول أو ثاني وهلة.

ما حدث بالضبط هو أن صديقا له لمحه في حشود زائري المعرض فصرخ باسمه -- («يا فلان، يا فلان») -- في الضوضاء، ليرد عليه هذا: «نعم».

هي هرعت إلى تلك النقطة من المكان، وسألت بمزيج من الفضول واللهفة: «أأنت فلان بن فلان حقَّا»؟! رد عليها: «نعم».

ثم أخذ يتفحص وجهها كي يتذكره بما أنها سألت عنه واستوضحت هويَّته، وذلك كي لا يحدث ذلك الموقف المحرج الذي صار يحدث كثيرا حين يتعرف إليك شخص ما بينما أنت لا تتذكره على الإطلاق، وقالت: «أنا فلانة بنت فلان ....». وقبل أن تُكمل جملتها هتف بها: «لا تكملي، فقد عرفتك. أنت فلانة بنت فلان، صح»؟!

ولم يكن الزمان كله يتَّسع سوى لذكرى أتت في ابتسامة شحيحة وغصَّة يتوجب عليها ألا تخرج فوق الحنجرة، وموجة على قَدَرها الأبدي أن يرتطم بالصخرة، وحلم خذل الجميع لفرط جموحه، وعنفوانه، وكرامته، وكبريائه.

ثم انصرفا عن بعضهما البعض في ذهول شديد بعد تبادل بضع كلمات كانت كافية - مع ذلك - لكل شيء، إذ لم تكن كل دروب الدنيا تتسع حتى لدمعة واحدة لأجل ذلك الجرح الغائر في ذاكرة الوطن.

(2)

«ما يعتقد الآخرون أنه حقيقي هو تظاهر منِّي، وما يظنون أنه تظاهر مني ليس إلا حقيقتي الداخلية» (يوكيو ميشيما، «اعترافات قناع»).

الكارثيُّ الأهم هو الاقتناع بلا جدوى ولا معنى ما تفعل (لأجل نفسك أو لأجل الآخرين).

الكارثة هي القِناع الذي لم يعد أحد يدري من يرتديه (بما في ذلك، في بعض أسوأ الحالات، وجوه من ارتدوا القناع).

(3)

بعد غياب طويل، أعدتُ مشاهدة فيلم «لصوص الدَّرَّاجة الهوائيَّة» (فيتوريو دي سيكا، إيطاليا، 1948) بنسخة مُرَمَّمة وممتازة بصريَّا.

البعض (لا سيما في الكتب الأكاديميَّة الخاصَّة بتاريخ السِّينما) سيقولون لك: «روما مدينة مفتوحة» (روبِرتو روسليني، إيطاليا، (1945 هو أنموذج «الواقعيَّة الجديدة» في السِّينما الإيطاليَّة.

ليس هذا فحسب بل إن غودار قد قال إن السِّينما «بدأت مع دي دبليو غرِفِث وانتهت مع عبَّاس كياروستمي».

إذا كانت هذه التَّحديدات التاريخيَّة والآراء الفنيَّة (الذَّاتيَّة منها، والموضوعيَّة، والفنتازيَّة، والرَّمزيَّة، والمجازيَّة، وذات الطابع الأُمْلُوحي) متاحة، فأنا، بدوري، أعتقد أن الأنموذج الأمثل لتيَّار «الواقعيَّة الجديدة» في السِّينما الإيطاليَّة هو فيلم «لصوص الدرَّاجة الهوائيَّة».

وأستطيع أن أقول: «لقد بدأ ذلك التيّار مع فيتوريو دي سيكا، وانتهى مع فيتوريو دي سيكا، وسيبدأ مرة أخرى مع فيتوريو دي سيكا في فيلم «لصوص الدرَّاجة الهوائيَّة».

(4)

ليس هناك شيء اسمه صار مَلُوكًا أكثر مما ينبغي وممضوغا بغير هضم أكثر من: «الحب» (كما في قولنا إن السهل مليء بالزهور التي تغطيه حتى الكاحل).

لكن الحقيقة هي أن أسماءه استخلاص هواء زهرة واحدة فقط، ثم الهرب ركضا بها بعيدا حتى الموت.

(5)

ليس فخرك أنك نسيت أن تبصق عليهم.

اعتزازك هو أنك لا تزال تنظر إليهم من أعلى جبل النسيان.

(6)

أيتها الأرضُ:

لا تعيشي فيَّ، ولا تعيثي

ألا يكفي أنني أحيا في العالم؟

(7)

تمنعك الكتابة من السكوت. تأخذك الكتابة إلى الصمت.

(8)

أنسى المخدَّة

أرفق بفِراش الأرض

و«الذهن المضطرب يجعل الوسادة غير مريحة» (شارلُت برونتي).

(9)

عندما كنا نمشي يا أمي

كان الطريق لا يزال في اليوم الثاني

و«النوم أكبر غلطة ارتكبتها عملية الارتقاء» (ألَن رِتشافل).

(10)

يستطيع أن يموت بسهولة (ولا داعي لكل هذا).

(11)

النَّص حمَّال أوجه (وأولها وجه من قال هذا الكلام).

(12)

لم تعد الأشياء فاقدة للجدوى فحسب، بل إنها صارت عديمة المعنى أيضا.

(13)

ذهب الأحمق إلى القاضي.

عاد الأخرق إلى المقبرة.

(14)

بعد أن تكون السُّلطة قد كافأتهم بسخاء وحدب منقطعي النَّظير (سكني/ استزراع وطني/ وزاري/ تجريبي/ جنسي/ صناعي/ وِكالي/ تجارب فئرانيَّة/ تجارب بشريَّة/ قُطبي جنوبي/ زراعي/ سياحي/ وِزاري/ سِفاري/ قُطبي شمالي/ استثماري/ تجاري/ أرضي/ جوِّي/ بحري/ سماوي/ مرِّيخي إلخ) فإنها -أي السُّلطة- تقول لنفسها (وهي فعَّالة لما تريد): آه، كم هو السَّأم شيء سيئ لا أطيقه بطبيعتي، وهؤلاء العبيد صاروا يضجرونني: لم يعودوا عبيدا بما فيه الكفاية في السَّأم والملل، وحتى ركوعهم في الحفلات الليليَّة السِّرية صار لا يعينني ولا يقنعني كثيرا في البروتوكولات النَّهاريَّة النهاريَّة. أُفٍّ منهم، وتبَّا لهم!

ولذلك فإن السُّلطة تستبدلهم بلا أدنى اكتراث (فقائمة المنتظرين للانضمام إلى جحفل العبيد طويلة للغاية)، تاركة الرَّقص للرَّاقصين في المناسبات الوطنيَّة (وغير الوطنيَّة، وضَّد--الوطنيَّة أيضا).

الكارثة: تقريبا لا أحد يفهم ذلك. وتقريبا: لا أحد يتذكر ذلك (أيضا).

والكارثة الأكبر: السُّلطة أكثر استدرارا للشَّفقة من ضحاياها (بمعنى عبوديّتها الباثولوجيَّة لرغبة ضم مزيد من العبيد إلى عبيد يُنْتَقون، هذه المرة، بمعايير جديدة تتطلب درجات أكثر مهنيَّة في واجبات العبيد وفقا لمتطلبات المرحلة في كل برهة وانعطاف اختياري، أو ضروري، أو مفروض).

أما الكارثة الأعظم فهي أنه سيأتي يوم يُسأل فيه الأحياء والأموات: من أين لك هذا؟

عند ذاك سيبدأ التعريف الجامع المانع لـ«الكارثة».

ومع ذلك، فليس الانتظار كارثة كبيرة (خاصة بالنسبة لأولئك الذين لا يزالون يحفلون بشيء منسي وماض اسمه، لشديد الأسف،: التاريخ).

(15)

في نهاية المطاف، كل ذلك الألم كان اقتراحا إخراجيَّا فحسب.

عبدالله حبيب كاتب وشاعر عماني