فيما كنت أتابع مستمتعا عروض مهرجان الشارقة للمسرح الخليجي كان تلفُّظ مفردة عربية تُنطق بطريقة غير صحيحة نحوًا، يوخز مسامعي ويحرمني متعة التلقي، وكلما كانت الأخطاء اللغوية تزداد، يرتفع الجدار الذي يفصلني عن العرض، لذا ترتفع أصوات الغيورين على اللغة العربية ضدّ التدهور الذي تشهده اللغة في المكاتبات والمراسلات، والمنشورات، ومواقع التواصل الاجتماعي، لذا كان لا بدّ لشؤون اللغة وشجونها أن تحتلّ مساحة في كلّ لقاء يجمعني بالدكتور وليد محمود خالص كونه من هؤلاء الغيورين الذين وقفوا في وجه هذا التدهور بكتبهم، وبحوثهم، ومقالاتهم، ومحاضراتهم في الجامعات التي درّس فيها، وآخرها جامعة السلطان قابوس، وعمله في عضوية مجمع اللغة العربية في القاهرة، وكذلك في مجمع اللغة العربية بالمملكة الأردنية الهاشمية، وفي لقائي الأخير الذي جمعني به في مقهى بعمّان، تطرّقنا للاستهجان الذي شهدته مواقع التواصل الاجتماعي حول أخطاء لغوية وقع بها متخصصون في برنامج تلفزيوني، وبعيدا عن التفاصيل، دأب خالص على إلقاء اللوم في الحال الذي وصلت إليه اللغة العربية من إهمال وما تواجهه من مشكلات إلى أهل اللغة العربية، مذكّرا إياي بقصيدة الشاعر حافظ إبراهيم (اللغة العربية تنعى حظها بين أهلها) التي كتبها عام 1903م أيام كانت مصر والكثير من الدول العربية ترزح تحت سيطرة الاستعمار العالمي فحدثت بلبلة في الألسن، وصارت تتشدق بالكلمات الأجنبية وأدار شباب العرب ظهورهم للغة الضاد، فما كان من شاعر النيل إلا أن يتصدى لهذه الظاهرة، فكتب القصيدة التي أدرجت في مناهج اللغة العربية المدرسية، وجاء في مطلعها:
رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي
وناديت قومي فاحتسبت حياتي
أيهجرني قومي عفا الله عنهم
إلى لغة لم تتصل برواة
سرت لوثة الإفرنج فيها كما سرى
لعاب الأفاعي في مسيل فرات
وبعد 120 سنة تبدّل وجه الحياة، وتغيّرت الأوضاع لكن حال لغة القرآن الكريم، التي ولدت قوية متكاملة «لا طفولة لها» حسب ارنست رينان، ظلّ على ما هو عليه، وبقيت تعاني من المشكلات نفسها، وقد أجمل الدكتور وليد محمود خالص في كتابه (أم المشكلات- أهل العربية في واقعنا الحاضر) الصادر عن دار كنوز المعرفة في الأردن، أسباب هذه المشكلات التي لخّصها في إهمال التشريع اللغوي، افتقاد العرب لسياسة لغوية واضحة المعالم، توقف أو انحسار حركة التعريب، التدريس باللغات الأجنبية في الجامعات العربية، انتشار الجامعات والمدارس الأجنبية انتشارا واسعا، اتخاذ كثير من القنوات العربية عنوانات غير عربية، الإعلان عن المرافق التجارية كالمحالّ والمطاعم وأماكن الترفيه بلغات غير العربية، تفضيل التحدث باللغات الأجنبية داخل البيوت، تفضيل استخدام اللغات الأجنبية في مواقع التواصل الاجتماعي، وتوجيه نظرات ملؤها الشك والازدراء لمن يتحدث بلغته الوطنية.
هذه الأسباب ضيعت على اللغة العربية الكثير، فهي لغة «جديرة بأن تصبح لغة عالمية، كونها غنية جدا ومرنة جدا) كما يقول شارل بيلا، والأهم من كل هذا أنها حسب قول موريس لومبار في كتابه (الإسلام في مجده الأول): «لها ميزة الطابع الكوني فهي في الوقت نفسه لغة الدين ولغة الإدارة ولغة التجارة، ولغة الحضارة» لكنها اليوم لم تعد كذلك، فالتعاملات التجارية والمصرفية تتمّ باللغة الإنجليزية، وقد زرت مدرسة دولية في مسقط فوجدت الطلبة يتحدثون خارج الفصول باللغة الإنجليزية، وكثيرا ما شاهدنا على واجهات المحالّ عبارات مليئة بالأخطاء النحوية والإملائية، دون حسيب ورقيب، والكثيرون صاروا على قناعة بأن اللغة العربية أصابها الهرم، وما دام هرم اللغة هو «نتيجة لهرم يصيب الأمة» كما كتب إبراهيم اليازجي، لكن وضع الأمة العربية المتردّي اليوم لا يراه الدكتور وليد محمود خالص سوى «القشرة العليا للأرضية التي تضم بين طبقاتها الأسباب الحقيقية المستترة، وهي أسباب حضارية وثقافية واجتماعية» ويجد الحل في «الحفر العميق لتلك الطبقات المتراكمة وكشف تفاصيلها بغية الوصول إلى الأسباب الحقيقية»، وهذا (الحفر) يحتاج إلى جهود حثيثة وقرار سياسي، وسنوات من العمل لعودة الأمور إلى نصابها، والخطوة الأولى تبدأ في التركيز على المناهج التربوية، وعدم إجازة تدريسها إلّا للأكفاء لكي نستمتع بجماليات اللغة العربية ونحن نقرأ نصا سليما من الأخطاء النحوية، ونشاهد عرضا مسرحيا.
عبدالرزاق الربيعي كاتب وشاعر عماني ونائب رئيس مجلس إدارة النادي الثقافي
رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي
وناديت قومي فاحتسبت حياتي
أيهجرني قومي عفا الله عنهم
إلى لغة لم تتصل برواة
سرت لوثة الإفرنج فيها كما سرى
لعاب الأفاعي في مسيل فرات
وبعد 120 سنة تبدّل وجه الحياة، وتغيّرت الأوضاع لكن حال لغة القرآن الكريم، التي ولدت قوية متكاملة «لا طفولة لها» حسب ارنست رينان، ظلّ على ما هو عليه، وبقيت تعاني من المشكلات نفسها، وقد أجمل الدكتور وليد محمود خالص في كتابه (أم المشكلات- أهل العربية في واقعنا الحاضر) الصادر عن دار كنوز المعرفة في الأردن، أسباب هذه المشكلات التي لخّصها في إهمال التشريع اللغوي، افتقاد العرب لسياسة لغوية واضحة المعالم، توقف أو انحسار حركة التعريب، التدريس باللغات الأجنبية في الجامعات العربية، انتشار الجامعات والمدارس الأجنبية انتشارا واسعا، اتخاذ كثير من القنوات العربية عنوانات غير عربية، الإعلان عن المرافق التجارية كالمحالّ والمطاعم وأماكن الترفيه بلغات غير العربية، تفضيل التحدث باللغات الأجنبية داخل البيوت، تفضيل استخدام اللغات الأجنبية في مواقع التواصل الاجتماعي، وتوجيه نظرات ملؤها الشك والازدراء لمن يتحدث بلغته الوطنية.
هذه الأسباب ضيعت على اللغة العربية الكثير، فهي لغة «جديرة بأن تصبح لغة عالمية، كونها غنية جدا ومرنة جدا) كما يقول شارل بيلا، والأهم من كل هذا أنها حسب قول موريس لومبار في كتابه (الإسلام في مجده الأول): «لها ميزة الطابع الكوني فهي في الوقت نفسه لغة الدين ولغة الإدارة ولغة التجارة، ولغة الحضارة» لكنها اليوم لم تعد كذلك، فالتعاملات التجارية والمصرفية تتمّ باللغة الإنجليزية، وقد زرت مدرسة دولية في مسقط فوجدت الطلبة يتحدثون خارج الفصول باللغة الإنجليزية، وكثيرا ما شاهدنا على واجهات المحالّ عبارات مليئة بالأخطاء النحوية والإملائية، دون حسيب ورقيب، والكثيرون صاروا على قناعة بأن اللغة العربية أصابها الهرم، وما دام هرم اللغة هو «نتيجة لهرم يصيب الأمة» كما كتب إبراهيم اليازجي، لكن وضع الأمة العربية المتردّي اليوم لا يراه الدكتور وليد محمود خالص سوى «القشرة العليا للأرضية التي تضم بين طبقاتها الأسباب الحقيقية المستترة، وهي أسباب حضارية وثقافية واجتماعية» ويجد الحل في «الحفر العميق لتلك الطبقات المتراكمة وكشف تفاصيلها بغية الوصول إلى الأسباب الحقيقية»، وهذا (الحفر) يحتاج إلى جهود حثيثة وقرار سياسي، وسنوات من العمل لعودة الأمور إلى نصابها، والخطوة الأولى تبدأ في التركيز على المناهج التربوية، وعدم إجازة تدريسها إلّا للأكفاء لكي نستمتع بجماليات اللغة العربية ونحن نقرأ نصا سليما من الأخطاء النحوية، ونشاهد عرضا مسرحيا.
عبدالرزاق الربيعي كاتب وشاعر عماني ونائب رئيس مجلس إدارة النادي الثقافي