يتفاوت الناس في طبيعة ومستوى وعيهم البشري، لأن ذلك التفاوت يكشف من ناحية، عن حاجة الإنسان إلى الإنسان، كما يكشف في الوقت ذاته، القدرات الذاتية لكل فرد بما يجعله مختلفا عن فرد آخر.

هل يمكن للسوشيال ميديا أن تخرق الوعي بهذه التراتبية، وأن تشكك الناس فيما درجوا عليه من سنة التفاوت في طبقات وعيهم الإنساني وقدراتهم على تعقل الأمور؟

للسوشيال ميديا مواضعاتها التي تتصل بها، والتي تحدد مقاييسها، وهي مقاييس مختلفة عن مقاييس الواقع إلى درجة قد تشكك البعض في القناعة أن مستويات الوعي الإنساني بين البشر مستويات ليست متفاوتة!

الأمر في تقديرنا يتصل بالخاصية التي وفرتها وسائل التواصل الاجتماعي والتهيئة التي هيأت بها البشر على نحو مخصوص من التواصل.

فقد ظل وعي البشر يتشكل لآلاف السنين بحسب قدرات محدودة عن التواصل المباشر اللامحدود، إلا بمحددات قوانين المادة، أي في عجزهم عن أن يكونوا متواصلين في فضاء واحد مع عدد لامحدود من البشر.

ما حققته وسائل التواصل الاجتماعي من تواصل بين البشر سمح بإمكانات لامتناهية من التواصل بحيث بات في وسع المرء أن يواجه بتواصله مع الآخرين مئات الآلاف من البشر، وهذه الحالة، بالرغم من كونها حالة افتراضية بالأساس لكن علاقاتها الشعورية في التأثير والتأثر بين البشر تعكس حدودا لامتناهية من حالات التواصل.

من يدخل فضاء السوشيال ميديا ومنصات وسائل التواصل الاجتماعي لأول وهلة، سيتفاجأ بقوانين تحكم ذلك الفضاء، مما ليس في الواقع.

فالمساواة التي تمنحها السوشيال ميديا في الفرص المكفولة للجميع بالظهور بمستوى واحد في الأدوات، وبإمكانية التخفي وراء أقنعة متعددة، مع القدرة على فعل الكثير بسقف مباح ولامحدود من الحرية، سيجعل من مغريات التوغل في تجريب ذلك الفضاء وخوض تجاربه المتفاعلة أمرا محفزا على نحو يشبه حالة من الإدمان!

ثم إن رغبة الإنسان وما يغريه لأن يكون فاعلا ومتفاعلا مع آخرين في فضاء عام يجعلون من متابعة نشاطه محطا لاهتمامهم، ظاهرا كان أم متخفيا، حتى لو توهم أنه كذلك بنسبة ما، وعلى نحو مجاني له قابلية للتجدد في كل زمان ومكان مع انتشار لانهائي للمحتوى الذي يبثه في تلك الوسائط – مهما كانت طبيعة هذا المحتوى – هذه الرغبة تعتبر من الغرائز الأساسية التي يسهر على توظيفها دارسو ومصممو صناعة وسائط السوشيال ميديا، لأن القدرة على استجابة الإنسان لها عبر محفزات كثيرة في خياله وتصوراته استجابة مؤكدة ولا شك فيها أبدا.

ما لا يمكن أن يشعر به الفرد، وهو يتواصل في وسائط السوشيال ميديا، يكمن في أنه يخضع- لا شعوريا- لضغوط التحديثات المتوالية؛ تلك التي تفرضها السوشيال ميديا بين روادها عبر «التايم لاين» مثلا، وهي مؤثرات كثيفة ومتعددة الوجهة والمكان إلى درجة تشبه فيها تماما تلك القناعة التي تجعلك مشوشا وذا قابلية للتسليم -رغم التأكد من موقفك الصحيح- إذا قُدر لك كفرد أن تواجه آلافا من البشر يخالفون قناعتك الموضوعية، ويجاهرون في وجهك بأصواتهم العالية وحضورهم الذي يهزم عقلك الصحيح بضغط يجعل شعورك خاضعا لمحفزات الاستجابة اللاشعورية للتصديق ومن ثم للتواصل القطيعي كفرد لا يملك رغبة مستقلة أمام الحشود الجارفة!

وكما قال جوستاف لوبون في كتابه « سيكولوجيا الجماهير»: «الجماهير تفكر بعواطفها» لافتا إلى سلطة الحشود العظيمة في التأثير الضاغط على الفرد بين تلك الحشود، فإن ما يحدث في السوشيال ميديا هو ضرب من ذلك التأثير لكن على نحو بطيء يغري به التفاعل المتبادل!

في ظل مناخ كهذا الذي تخلقه السوشيال ميديا في مشاعر الآخرين المتوهمة، وبحسب قوانينها التي ليست هي بالضرورة قوانين الواقع، ظهرت طبقة تسمى بـ «المؤثرين» وهذه الطبقة يمكن القول إن تأثيرها في المستقبل الوسيط سيكون خطيرا جدا.

هكذا إذا ما قرأنا يوما ما من الأيام، أو سمعنا من يشيع بين الناس؛ أن بإمكان كافة البشر أن يكونوا شعراء بدرجة واحدة من القدرة على حيازة موهبة الشعر العالية والمتنوعة، وبلا تفاوت في الدرجات، لكن فقط بناء على أن وصول السوشيال ميديا لكافة الناس، تجعلهم قادرين على امتلاك أي موهبة من خلال التجريب عبر وسائطها فقط واعتماد قياس الأثر: من «لايكات» و«تعليقات» تتجاوز الآلاف، فعلينا عند ذلك «تصديق» ما يقال!

محمد جميل أحمد كاتب من السودان