أوَ كنت تعلم أنك مفارق هذا الوجود ومنقطع عن كوننا، ومرتحل إلى عالم آخر، تنفصل فيه عن كون التواصل اللغوي معنا وتنحبس منه عطاءاتك وما تشهده عيناك من أثر المكان في ارتحالك؟ أوَ كُنت تعلم أنك مرتحل إلى مكان لا يُمكن لنا أن نراه بعينيك كما رأينا أماكن عديدة تفاعلت معها وطرت إليها بجناح شِقه واقع وشقه تخييل؟ نعم يا صديقي، لقد كُنت تعلم ذلك، وكنت تقول أنك لا تُريد من الزمن إلا أن يُمهلك حتى تُنهي كتابين قد ألحا على ضميرك، وأثقلا نفسك، وأبيت الانقطاع عن عالم البشر حتى تُنهيهما، وأنهيتهما، شهدت واحدا منهما يخرج إلى الناس، وأتممت الثاني «فلفل أزرق» وكنت في عجلة من أمرك، فخرج إلى العالم عندما غادرته.
تشربت الأدب من نقي المنابع وأصيل المصادر ومتنوع المعارف، لم يحُل بينك وبينه ما يحول بين المرء وما يعجز عن إتيانه، فلم تكره ما تجهل بل كان بك شغف لسد جهلك، وجب ما تراه فيك نقصا في المعرفة، نهلت من أصولٍ في المعرفة العُمانية والعربية والكونية، ترعرعت مع «كبارٍ» في الفقه والشعر والأدب، وحواك وسط تجري المعرفة في أصوله وفروعه، فكان اللقاء والجلوس والتعلم من عدد تُغبط عليه، وتُحسد من مؤسسي المشهد العلمي والأدبي في عُمان، إبراهيم العبري، والسيد أحمد البوسعيدي، والشاعر أبو سرور، والشيخ أحمد الخليلي، والمؤرخ سالم السيابي، والقاضي سالم الحارثي صاحب «العقود الفضية في أصول الإباضية»، والشيخ سعيد الحارثي مؤلف كتاب «اللؤلؤ الرطب»، والشيخ محمد الخصيبي مؤلف كتاب «شقائق النعمان عن سُموط الجُمان في أسماء شعراء عمان»، فكيف لمن استمع لهؤلاء «المعلمين» وجالسهم ألا يمسه من الشعر مس؟ ولا تقف عند هذا الحد، بل تُلقي بك التجارب والرحلات والكتابة إلى أبناء عصرك، تلتقي بأنواعٍ وأخلاطٍ من كتاب جمعك بهم همُ الكتابة وعطشك الأبدي للارتواء، منهم أحمد راشد ثاني، ومحمد شكري، وسعدي يوسف، وصنع الله إبراهيم، ومحمد مهدي الجواهري، وقاسم حداد، وسركون بولص، وهنري ميشونيك، وغيرهم كثير ممن اعترضك في سبيل أدبك منهلا أو صُحبةً.
كيف تتجرأ على علم يُنازعك فيه خُصُومك وأعداؤك، وتذهب إليه ساعيا، جامعا وشارحا ومقدما، ومُبديا من الثناء ما يعجز عنه من يلبس جُبته ويعتصم به، تنظر في شعره، وتدعي منه فهما وإدراكا، وأنت شريكه في التراث، وفي الأصل، وفي الشعر، تجمع من شعره ما غفل عنه الجامعون قصدا أو سهوا، وتقرأ أبعاد معانيه بوعي وعمق وإحساس، لتقول: «لطالما اعتقدتُ أن أبا مسلم البهلاني الرواحي أب شعري خالص الأبوة لِسابقِ اللاحق ولاحق السابق، ليس في بلادنا فحسب، بل في أقنوم شُعاع معرفي امتد من جزيرة زنجبار حتى اليمن وكافة بُلدان الخليج والجزيرة العربية، فضلا عن مراكز الثقافة العربية المُمثلة آنذاك، في قاهرة ودمشق نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين».
لا تحويك أرض وأنت المرتحل «كالماء يجري» لا أرض كبحتك ولا سماء تسقفتها، تنظر المكان بعين طائر، يُجنحُ باحثا عن هدأة أخيرة، أو عن هدأةِ انسيابٍ شأن من كان «على قلق كأن الريح تحته»، تقول لفظا دون عمق مع تودوروف: «إن الإنسان الذي يجد وطنه حلوا ليس سوى مبتدئ رخو»، وأنت واجد في وطنك كل الحلاوة والطلاوة، هو تاريخك ومنبتك ومرجعك، تطوف بلاد الله وتُعجبُ بها، وعينُك لا يقر لها قرار إلا في أرضك، تتشرب منها الأدب وتسم نفسك في آخر المطاف بأنك من «سلالة التجربة الأدبية العمانية».
«لعبتُك لا تُمل» فيها تنوع داخل النوع وخارجه، تتنقل في الشعر من العمودي إلى التفعيلة إلى شعر النثر، وفي النثر، من أدب الرحلة الذي أفقدته صفوته ومازجت فيه بين الإحالة والتخييل والتشعير، إلى الرواية التي لم تتنزل مكانةً منزلة النوعين السابقين، وكأنك لاعب بالأشكال، لا تراها المعنى، أو تراها كل المعنى، تكون شاعرا، تُلخصُ تجربتك في احتفائنا بك يوم عزمنا أن نحتفي بالأحياء من المبدعين، وأن نهجر عادة تكريم المبدع بعد موته، لننقله من الإهمال النقدي إلى الإعمال النقدي، وكأن الموت يُضفي على ما كتبه الكاتب قيمة ومنزلة، قلت يومها: «كانت القصائد العمودية، مرتقى بداياتٍ مطلع ثمانينيات القرن المنصرم، لم ألبث أن هجرتها سِراعا لأترنح في ورشة بدر شاكر السياب وشُركاه، ناسجا على منوالهم قصائد تفعيلة وجدت نفسي -بفعل السيد الزمن- أهجرها طوعا، لأكتب قصائد نثر أُفخخها بمقاطع موزونة في بعض الأحايين، لسبب معقد وبسيط: قصيدة النثر لم تُقنعني وحدها، حتى في أكثر نماذجها صفاء وعذوبة»، وما الذي يُرضيك يا محمد الحارثي من الكتابة، أو تصبو إلى الهجعةِ أخيرا، إلى ما يُرضيك؟ لن يرضى عنك الشعر ولا النثر إن سكنت نوعا أو شكلا.
وتكون ناثرا، فتُبدعُ في جنس من الأدب لم يعد مأنوسا ولا مقصودا، ولكنك تُضفي عليه روحا، فتصطفيه ويصطفيك، ويخرج السرد الرحلي منك حكايةً مأنوسة تطيب لقارئها كما تطيب لك الرحلة وعبور المكان، وتُصر على كتابة رواية، هي اليتيمة، وعلى نُصح مقربيك ممن صادقوك وصدقوك القول بإهمال الرواية، فأنت على عادتك من العزم والحزم والإيمان تنشر «تنقيح المخطوطة»، لا رغبة في التحول إلى عالم الرواية، بل لتحقيق ذاتك و «إزاحة جبل جيولوجي»، من تخصص ومعرفة في الدراسة زادت من غربتك، ولم تكن بك حاجة إلى الرواية، فقد وجدت «البديل السردي» في سرد الرحلة.
«قارب الكلمات يرسو»، ويركن إلى النوم أخيرا، يتعب الشاعر، ويكل المرتحل من همِ ما يحمل، فيطلب السكون، ليكون في عالم الرضى: «وحين نتعب/ (أو يُسمح لنا بذلك)/ نلقي أجسادنا من نافذة الصبر/ قربانا يتيما في بئر النوم».
تشربت الأدب من نقي المنابع وأصيل المصادر ومتنوع المعارف، لم يحُل بينك وبينه ما يحول بين المرء وما يعجز عن إتيانه، فلم تكره ما تجهل بل كان بك شغف لسد جهلك، وجب ما تراه فيك نقصا في المعرفة، نهلت من أصولٍ في المعرفة العُمانية والعربية والكونية، ترعرعت مع «كبارٍ» في الفقه والشعر والأدب، وحواك وسط تجري المعرفة في أصوله وفروعه، فكان اللقاء والجلوس والتعلم من عدد تُغبط عليه، وتُحسد من مؤسسي المشهد العلمي والأدبي في عُمان، إبراهيم العبري، والسيد أحمد البوسعيدي، والشاعر أبو سرور، والشيخ أحمد الخليلي، والمؤرخ سالم السيابي، والقاضي سالم الحارثي صاحب «العقود الفضية في أصول الإباضية»، والشيخ سعيد الحارثي مؤلف كتاب «اللؤلؤ الرطب»، والشيخ محمد الخصيبي مؤلف كتاب «شقائق النعمان عن سُموط الجُمان في أسماء شعراء عمان»، فكيف لمن استمع لهؤلاء «المعلمين» وجالسهم ألا يمسه من الشعر مس؟ ولا تقف عند هذا الحد، بل تُلقي بك التجارب والرحلات والكتابة إلى أبناء عصرك، تلتقي بأنواعٍ وأخلاطٍ من كتاب جمعك بهم همُ الكتابة وعطشك الأبدي للارتواء، منهم أحمد راشد ثاني، ومحمد شكري، وسعدي يوسف، وصنع الله إبراهيم، ومحمد مهدي الجواهري، وقاسم حداد، وسركون بولص، وهنري ميشونيك، وغيرهم كثير ممن اعترضك في سبيل أدبك منهلا أو صُحبةً.
كيف تتجرأ على علم يُنازعك فيه خُصُومك وأعداؤك، وتذهب إليه ساعيا، جامعا وشارحا ومقدما، ومُبديا من الثناء ما يعجز عنه من يلبس جُبته ويعتصم به، تنظر في شعره، وتدعي منه فهما وإدراكا، وأنت شريكه في التراث، وفي الأصل، وفي الشعر، تجمع من شعره ما غفل عنه الجامعون قصدا أو سهوا، وتقرأ أبعاد معانيه بوعي وعمق وإحساس، لتقول: «لطالما اعتقدتُ أن أبا مسلم البهلاني الرواحي أب شعري خالص الأبوة لِسابقِ اللاحق ولاحق السابق، ليس في بلادنا فحسب، بل في أقنوم شُعاع معرفي امتد من جزيرة زنجبار حتى اليمن وكافة بُلدان الخليج والجزيرة العربية، فضلا عن مراكز الثقافة العربية المُمثلة آنذاك، في قاهرة ودمشق نهايات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين».
لا تحويك أرض وأنت المرتحل «كالماء يجري» لا أرض كبحتك ولا سماء تسقفتها، تنظر المكان بعين طائر، يُجنحُ باحثا عن هدأة أخيرة، أو عن هدأةِ انسيابٍ شأن من كان «على قلق كأن الريح تحته»، تقول لفظا دون عمق مع تودوروف: «إن الإنسان الذي يجد وطنه حلوا ليس سوى مبتدئ رخو»، وأنت واجد في وطنك كل الحلاوة والطلاوة، هو تاريخك ومنبتك ومرجعك، تطوف بلاد الله وتُعجبُ بها، وعينُك لا يقر لها قرار إلا في أرضك، تتشرب منها الأدب وتسم نفسك في آخر المطاف بأنك من «سلالة التجربة الأدبية العمانية».
«لعبتُك لا تُمل» فيها تنوع داخل النوع وخارجه، تتنقل في الشعر من العمودي إلى التفعيلة إلى شعر النثر، وفي النثر، من أدب الرحلة الذي أفقدته صفوته ومازجت فيه بين الإحالة والتخييل والتشعير، إلى الرواية التي لم تتنزل مكانةً منزلة النوعين السابقين، وكأنك لاعب بالأشكال، لا تراها المعنى، أو تراها كل المعنى، تكون شاعرا، تُلخصُ تجربتك في احتفائنا بك يوم عزمنا أن نحتفي بالأحياء من المبدعين، وأن نهجر عادة تكريم المبدع بعد موته، لننقله من الإهمال النقدي إلى الإعمال النقدي، وكأن الموت يُضفي على ما كتبه الكاتب قيمة ومنزلة، قلت يومها: «كانت القصائد العمودية، مرتقى بداياتٍ مطلع ثمانينيات القرن المنصرم، لم ألبث أن هجرتها سِراعا لأترنح في ورشة بدر شاكر السياب وشُركاه، ناسجا على منوالهم قصائد تفعيلة وجدت نفسي -بفعل السيد الزمن- أهجرها طوعا، لأكتب قصائد نثر أُفخخها بمقاطع موزونة في بعض الأحايين، لسبب معقد وبسيط: قصيدة النثر لم تُقنعني وحدها، حتى في أكثر نماذجها صفاء وعذوبة»، وما الذي يُرضيك يا محمد الحارثي من الكتابة، أو تصبو إلى الهجعةِ أخيرا، إلى ما يُرضيك؟ لن يرضى عنك الشعر ولا النثر إن سكنت نوعا أو شكلا.
وتكون ناثرا، فتُبدعُ في جنس من الأدب لم يعد مأنوسا ولا مقصودا، ولكنك تُضفي عليه روحا، فتصطفيه ويصطفيك، ويخرج السرد الرحلي منك حكايةً مأنوسة تطيب لقارئها كما تطيب لك الرحلة وعبور المكان، وتُصر على كتابة رواية، هي اليتيمة، وعلى نُصح مقربيك ممن صادقوك وصدقوك القول بإهمال الرواية، فأنت على عادتك من العزم والحزم والإيمان تنشر «تنقيح المخطوطة»، لا رغبة في التحول إلى عالم الرواية، بل لتحقيق ذاتك و «إزاحة جبل جيولوجي»، من تخصص ومعرفة في الدراسة زادت من غربتك، ولم تكن بك حاجة إلى الرواية، فقد وجدت «البديل السردي» في سرد الرحلة.
«قارب الكلمات يرسو»، ويركن إلى النوم أخيرا، يتعب الشاعر، ويكل المرتحل من همِ ما يحمل، فيطلب السكون، ليكون في عالم الرضى: «وحين نتعب/ (أو يُسمح لنا بذلك)/ نلقي أجسادنا من نافذة الصبر/ قربانا يتيما في بئر النوم».