مع مرور عام على اندلاع الحرب الروسية في أوكرانيا، التي تمثل أكبر حرب تشهدها أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، التي شغلت العالم وأثرت على الحياة اليومية للشعوب في كل دول العالم تقريبا، يمكن القول إن هذه الحرب كانت وما زالت، إلى جانب كونها حربا عسكرية واقتصادية في المقام الأول، حربا إعلامية بامتياز، ضاعت فيها «الحقيقة»، وأكدت على خطورة دور وسائل الإعلام ليس فقط في إشعال الحروب وإطالة أمدها، ولكن أيضا في استخدامها كسلاح فاعل ومؤثر في سيرها ونتائجها.

يخطئ كثيرا من يعتقد أن الإعلام الغربي خاصة في هذا العصر يتمتع بالحرية الكاملة، أو أنه يختلف كثيرا عن الإعلام في الدول الديكتاتورية، بعد أن أصبح غير قادر على الحفاظ على حد أدنى من الموضوعية والنزاهة في التعامل مع الحرب، أو نقد الأنظمة وسياسات الدول الغربية التي تحرص على استمرار هذه الحرب، وتنتصر للنزعات العنصرية، وتؤجج الصراع وتضفي عليه مزيدا من التعقيد.

إن ما حدث في العام الأول من الحرب الروسية الأوكرانية التي دخلت عامها الثاني منذ أيام دون بصيص أمل في انتهائها أو إنهائها يؤكد حقيقة التراجع الكبير في مستوى الحرية الإعلامية في الدول الغربية، وأن وسائل الإعلام على اختلاف أنواعها وانتماءاتها تحولت إلى أبواق دعائية للأنظمة، لا تختلف كثيرا عن الإعلام الروسي الذي يوصف دائما بأنه إعلام غير حر. فمنذ اليوم الأول للحرب تكتل الإعلام الغربي وأصبح إعلام الصوت الواحد، بدعوى نقل الحقيقة ومواجهة الإعلام الروسي، بشكل يعيد إلى الأذهان فترة الحرب الباردة خلال ستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، التي غذى استمرارها هذا الإعلام، وأشعل خلالها حروبا إقليمية عديدة بالوكالة لحساب القوتين العظميين في ذلك الوقت: الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي.

واقع الحال أن ما يقوم به الإعلام الغربي الدولي حاليا لا يخرج عن كونه ممارسة فجة للدعاية والحرب النفسية بكل صورها، الهدف منها هو استمرار تلك الحرب، التي توفر للأنظمة الغربية فرصا متعددة لإعادة رسم الخريطة الأوروبية، واختبار الأسلحة الجديدة، واستعراض الإمكانيات العسكرية لحلف شمال الأطلسي، ودفع الدول غير الأعضاء إلى الانضمام له، بالإضافة إلى استنزاف روسيا باعتبارها القوة العالمية التي يمكن أن توازن الحلف الغربي.

ليس جديا إذن أن يلعب الإعلام الغربي في هذه الحرب دور العميل المزدوج الذي يشجع الطرفين على الاستمرار في القتال ربما حتى آخر جندي أوكراني وآخر جندي روسي، إذ يحاول أن يظهر الدول الغربية بالحريصة على دعم الشعب الأوكراني ومساعدته على مواجهة «الحرب الروسية»، في الوقت الذي يمتنع فيه عن إغضاب الدب الروسي من خلال مطالبة حكوماته بالتدخل العسكري المباشر في الحرب، والاكتفاء بتقديم السلاح والدعم المالي للأوكرانيين؛ لضمان استمرارهم في هذه الحرب العبثية التي لن تنتهي سوى بتدمير بلادهم. ولتحقيق ذلك يعمد هذا الإعلام على إبراز صورة للرئيس الأوكراني كمدافع وطني عن بلاده، بينما الواقع يقول إنه كان يمكن أن يجنب بلاده ويلات هذه الحرب، ودون أن يقدم الصورة المقابلة كسبب من أسباب اندلاع تلك الحرب واستمرارها حتى اليوم، ولعل هذا الاستنتاج يتفق مع النتيجة التي خلص إليها البحث الذي موله معهد رويترز وجامعة أكسفورد حول «تصورات التغطية الإعلامية للحرب في أوكرانيا»، من خلال استبيان أجري على عينة من خمسة آلاف شخص في خمس دول، أن الناس لا تنظر بإيجابية إلى حد كبير تجاه المؤسسات الإخبارية الغربية؛ لأنها لا تقدم مختلف وجهات النظر حول الصراع.

ويبدو عدم التوازن الذي يتعامل به الإعلام الغربي مع الحرب في أوكرانيا حتى في التقارير الدولية الصادرة عن منظمات غربية تدافع عن حرية الصحافة، فمنذ أيام أصدر المعهد الدولي للصحافة تقريرا حمل عنوان «حرب بوتين ضد أوكرانيا هي أيضا حرب على وسائل الإعلام»، قال فيه: إنه وثق ما لا يقل عن 914 حالة اعتداء على صحفيين في أوكرانيا وروسيا منذ بداية الحرب، الغريب أن المعهد نسب كل هذه الحالات إلى القوات والسلطات الروسية، وزعم أن ما لا يقل عن عشرة صحفيين وإعلاميين في أوكرانيا قتلوا في هجمات من جانب الجيش الروسي، دون أن يشير على الإطلاق إلى حالات استهداف الصحفيين من جانب القوات الأوكرانية خاصة في المناطق التي تحتلها روسيا.

إن من الضروري أن ندرك أن المواقف والاتجاهات التي تقدمها وسائل الإعلام الغربية ذات أهداف خفية، لعل أكثرها وضوحا في حالة حرب أوكرانيا وغيرها هو غسيل الأدمغة والتلاعب بالعقول لبناء رأي عام عالمي في اتجاه يحقق مصالح الدول الغربية أولا وأخيرا، ومن أجل ذلك لا مانع إطلاقا من التخلي عن التراث الغربي التقليدي في حرية التعبير والصحافة.

قد يبدو من الطبيعي أن تتلاعب وسائل الإعلام الروسية بالحقائق؛ كونها وسائل تابعة للحكومة، ولا يمكنها تقديم وجهة نظر مغايرة للرئيس بوتين، ولا تمتلك أي خيار آخر في هذا الأمر، خاصة بعد أن أقرت الحكومة الروسية قانونا يمنع وسائل الإعلام الروسية من تقديم رؤية مخالفة لرؤية الحكومة خلال الحرب، واعتبارها عملية عسكرية محدودة وليست حربا على الإطلاق، أما غير الطبيعي فهو أن تنقلب وسائل الإعلام الغربية على مبادئها، وتتحول إلى آلات للتضليل من خلال استخدام أساليب عفى عليها الزمن، مثل نسبة بعض المعلومات المضللة إلى مصادر مجهلة للتأثير في الموقف الغربي من جانب، وزرع اليأس من إمكانية الانتصار في الحرب لدى الشعب الروسي من جانب آخر، مثل الزعم بأن روسيا وجهت 85 بالمائة من قوتها العسكرية لهذه الحرب، وأن الجيش الروسي فشل في تحقيق التقدم في الحرب، وأنه فقد الآلاف من ضباطه بما في ذلك المئات من الجنرالات، ولا يقتصر الأمر على التضليل فقط، وإنما يتعداه إلى منع وسائل إعلام روسية من العمل على الأراضي الأوربية مثلما منعت المملكة المتحدة مؤخرا قناة «روسيا اليوم»، ووكالة الأنباء الروسية «سبوتنيك» ردا على منع روسيا هيئة الإذاعة البريطانية من العمل فيها.

من المهم في هذا التوقيت الحاسم من هذه الحرب الإعلامية العالمية أن ندرك أن الإعلام الغربي لا يعمل دون قيود ودون أجندات تخدم مصالحه، ولهذا لا يجب أن ننساق وراء ما يروج له من صور وأخبار عن حقيقة ما يجري على الأرض في أوكرانيا. لقد أثبت تاريخ هذا الإعلام في أكثر من حرب وأزمة دولية أنه مجرد أدوات في أيدي مجموعات المصالح السياسية والعسكرية والاقتصادية التي تحكم العالم، وقد ثبت كذبه في الحرب على العراق والحرب في أفغانستان وقبلهما حرب فيتنام.

وحتى تتضح حقيقة هذه الحرب ليس أمامنا سوى أن ننتظر سنوات كما انتظرنا من قبل تقارير توضح حقيقة ما حدث في فيتنام وكوسوفو والعراق وأفغانستان، ونكتفي حتى هذا الوقت -إن كنا من الأحياء- بترديد العبارة الشهيرة للصحفي البريطاني فيليب ناتالي مراسل صحيفة صنداي تايمز الذي غطى عدة حروب، «إن الحقيقة غالبا ما تكون أول ضحية للحرب»، ويبدو حتى الآن أن الحقيقة سوف تبقى الضحية الضائعة بين إعلام غربي يروج للعديد من الأكاذيب والمغالطات، وبين إعلام روسي لا يملك من أمره شيئا.