الواقع الذي صنعته الحداثة السياسية لصيرورات عالمنا الحديث المتشكل من محددات مؤطرة للفرد/ المواطن، عبر نظم إدراك تعيد تعريفه بتلك الهوية المواطنية منتميا إلى دولة من دول العالم؛ هو واقع ربما تعينت علينا معرفته باستمرار، دون أن نحاول أن نجد له تبريرات أخلاقية من شاكلة أولئك الذين يفترضون افتراضات ما حيال سياسات دول كبرى، ربما تغريهم فيها بنيات الدولة الحديثة المتقدمة من حريات للصحافة والإعلام على أن يتوقعوا منها كدولة كبرى متحضرة ومحتكرة العنف، سلوكا يتصورونه عبر مثاليات هي غير ضرورية في الواقع.

إن بنية الحداثة وهويتها المادية تشكلت وفق مرجعيات ومفاهيم دنيوية لا علاقة لها بالمبادئ الأخلاقية، وهي مفاهيم مادية شكلت بدورها عالما حديثا على صورتها، في فترة كان تكوينه فيها عبر أطوار وأدوات لا علاقة لها بقيم حقوق الإنسان التي ترفعها اليوم دول العالم الأول بطريقة استنسابية لا تعرف الرحمة إلا بوصفها جزءا من مصلحة عليا تتغلف وراءها تلك الرحمة!

فحركة الكشوف الجغرافية، وما نجم عنها من احتلال لأراضي شعوب بحثا عن العالم الجديد، والحركة الاستعمارية التي أملتها ضرورات فائض إنتاج الثورة الصناعية في أوروبا، كل تلك الحركات التي لن نحتاج إلى الحديث عن العنف السوبرماني الذي صاحبها وما مارسته من قتل لجماعات في آسيا وإفريقيا، كانت هي الأسباب الحقيقية التي على هامشها تكونت دولنا في البلدان المستعمرة بآسيا وإفريقيا.

لقد ولدت دولنا الحديثة في العالم الثالث نيابة عنا لا أصالة بنا في ظل علاقات هيمنة استعمارية، حيث لم تكن الصيرورات التي أدت إلى حروب الثلاثين عاما في أوروبا جزءا من تاريخنا، ومع ذلك فإن إرادة الغالب هي التي تمضي، مهما كانت المؤشرات المضادة لموجبات تلك الإرادة!

ولئن تشكلت منظومات دولنا في العالم الثالث بعد زوال المؤثر الاستعماري وأصبحت واقعا، فإن ما يهمنا اليوم ليس النظر إلى الوراء، بل البحث المستمر في ترفيع وتأطير علاقاتنا في عالم تحكمه الشخصيات الاعتبارية للدول الكبرى.

إن الشخصية الاعتبارية للدولة الحديثة هي الشرط الذي يحررها من الشرط الأخلاقي لسلوكها، فالدولة ليست ذاتا عاقلة، بل هي شخصية اعتبارية لا تتحرك بهوية ملموسة أو جسد محسوس.

إن انسداد المبدأ الأخلاقي الذي يمنع الدولة من تحقيق أي شرط إنساني مطلق ومتحرر من أي اندراج خفي لسياسيات عليا للدولة، هو الذي يسوى في منطق وعيني سوية الدولة الحديثة في الماضي والحاضر، فالدول الأوربية الاستعمارية الكبرى، في القرن التاسع عشر، حين كانت تمارس توسعها على حساب شعوب مضطهدة في آسيا وإفريقيا كانت حكوماتها حكومات منتخبة في دول ديمقراطية في فرنسا وبريطانيا! ومع ذلك سنجد أن الأساس المادي للحداثة وعلومها هو الذي قمع ضمير الرجل الأبيض من الإحساس بفائض الألم في الجرائم الاستعمارية التي تم ارتكابها إبان الاستعمار في إفريقيا مثل مذبحتي الاستعمار الفرنسي في كل من الجزائر ومدغشقر في القرن العشرين.

وإذا كان ليس بالإمكان تبرير دالة أخلاقية لارتكاب تلك الجرائم الكبرى التي اعتبرها الضمير الجمعي للداروينية السياسية في أوروبا فعلا يبرر ذاته بذاته في تعذيب وقتل سكان في إفريقيا وآسيا بموجبات قانون الانتخاب الطبيعي ذي الصيغة العلموية الداروينية، فما لم يكن مبررا بالأمس لن يكون مبررا اليوم، لأن التصميم المادي للحداثة السياسية يجعل من فائض الأخلاق للدولة الحديثة محض تخرصات لقاصرين لم يدركوا طبيعة اشتغال تلك الدولة ذات الشخصية الاعتبارية الرهيبة.

إن تسويق النيات ومبررات حقوق الإنسان في دساتير الدول الكبرى كالولايات المتحدة وبريطانيا هو بالضرورة تسويق يعاد تأطيره دائما بالمصلحة التي تتغلف من وراء تلك الدعاوى العريضة.

ليس للدولة الحديثة - إذا- ضمير كي يؤنبها، والفاعلون السياسيون في تلك الدولة لا تتحكم عليهم إلا مطالب الذين نالوا أصواتهم بموجب قانون الانتخاب ووفق الدستور الذي يحكم أراضي لجغرافيا سياسية لا يكون ثمة نفاذ لقوانين ذلك الدستور خارجها.

إن ما يسمى بعلاقات الصداقة بين الدول هي علاقات باردة ولا علاقة لها بأي معنى إنساني، بقدر ما هو معنى مصلحي. لذا فإن مؤشر تحسين العلاقات مع الدول الكبرى لابد أن يفهم في معنى: كيفية إدارة علاقات المصلحة التي كلما كانت الجبهة الداخلية للدولة والعلاقات البينية لشعبها قائمة على الرشد الإنساني، كان الحال أفضل!

محمد جميل أحمد كاتب من السودان