مسقط وسلطنة عمان كلها اليوم مع موعد ومناسبة أثيرة على عقول وقلوب أهلها، مناسبة وتظاهرة ثقافية وفكرية اعتادوا على تكرارها كل عام منذ انطلاقها للمرة الأولى في العام 1992، وتكمل هذا الصباح عام السابع والعشرين من عمرها المديد، أهل سلطنة عمان رجالا ونساء وأطفالا.. موظفون وطلاب مدارس وجامعات على موعد صباح اليوم «الأربعاء» مع افتتاح الدورة السابعة والعشرين لمعرض مسقط الدولي للكتاب، الذي يرعى حفل افتتاحه بمركز عُمان للمؤتمرات والمعارض معالي السيد حمود بن فيصل البوسعيدي وزير الداخلية.

يأتي معرض مسقط الدولي للكتاب، هذا العام مثلما كانت معارض الأعوام السابقة، لكي يؤكد استمرار حرص حكومة سلطنة عُمان على الاهتمام بالشأن الثقافي، ووضعه في المكان اللائق الذي يستحقها في بناء الدولة العصرية، وتحقيق النهضة الشاملة. إذ يوفر المعرض طوال مدة انعقاده، التي تمتد حتى الخامس من مارس القادم الكثير من الزخم الثقافي والفكري، سواء على صعيد الفعاليات الثقافية التي تعقد على هامشه أو على صعيد حركة بيع وشراء الكتب يمثل منصة لتبادل الأفكار والآراء بين المبدعين وبين الناشرين، وبين منتجي المحتوى المعرفي والثقافي في مختلف مجالات العلم والمعرفة وبين مستهلكيها، كما يمثل نقطة التقاء مضيئة بالمخزون الثقافي للبشرية، وضمانة لاستمرار مكانة الكتاب كوسيط ثقافي حتى في عصر منصات النشر الرقمي.

لقد خاض الكتاب كوسيلة للمعرفة والاتصال الإنساني رحلة تاريخية طويلة تعود إلى بدايات التاريخ الإنساني، ولعل هذا ما يجعله خلافا لوسائل الاتصال التالية عليه يتمتع بمكانة رفيعة في العالم، تدفع الكثير من دول العالم، ومنها سلطنة عُمان، إلى دعمه وإقامة المعارض السنوية له، بينما لا تحظى الوسائل الأخرى بمعارض مماثلة إلا نادرا. هذه المكانة لا تعود فقط إلى دور الكتاب في نقل التراث الثقافي بين الأجيال والتأثيرات المعرفية والسلوكية التي يتمتع بها على المدى الطويل، وإنما أيضا إلى تفرده في تعزيز مكانة الدول وإبراز إسهامها في الحضارة الإنسانية، والمشاركة الفعالة في التقدم الإنساني. ولذلك لا يبدو غريبا في هذا العصر أن تكون أكثر الدول تقدما في مختلف المجالات هي أكثرها إنتاجا للكتب بجميع أنواعها وأنماطها، ليس فقط في المجالات العلمية والتكنولوجية، وإنما -أيضا- في مجال الإبداع الإنساني الأدبي والفكري والفني والثقافي بوجه عام.

ولعل هذا ما يدفعني لتبني عبارة، تقول: «قل لي كم تنتج من الكتب سنويا أقل لك حجم إسهامك في الحضارة البشرية المعاصرة»، وتؤكد هذه العبارة أن كل تقدم يحدث في العالم أصله أفكار جمعها صاحبها في كتاب، وقام بنشرها ووصلت إلى غيره من البشر فطوروها ووضعوها موضع التطبيق، وتحققت بذلك عدم مركزية المعرفة الإنسانية.

إن معرض مسقط الدولي للكتاب، وغيره بالتأكيد من معارض الكتب التي تقام على مدار العام في العديد من العواصم العالمية، ما هو إلا تأكيد على فكرة «عدم مركزية المعرفة الإنسانية» وعدم احتكارها من جانب الدول التي تنتجها، فمن خلال هذا المعرض نصبح جميعا -نحن البشر- شركاء في المعرفة نستطيع أن نقرأها وننقدها ونصوبها ونستفيد منها ونضيف إليها، وتجدر الإشارة هنا إلى أن المخترع الألماني الشهير يوحنا جوتنبرج عندما قدم للعالم لأول مرة الطباعة بالحروف المعدنية المتحركة في منتصف القرن الـ15 التي يؤرخ بها ميلاد وسائل الإعلام الحديثة، كونه أتاح للإنسان إنتاج المعرفة وتبادلها على نطاق جماهيري واسع للمرة الأولى في تاريخ البشرية، لم يكن في ذهنه على الإطلاق أن تتحول هذه المطبعة إلى أداة مهمة لإنتاج الصحف والمجلات، بعد ذلك بأكثر من قرن من الزمان، وإنما كان يستهدف كسر احتكار الكنيسة الكاثوليكية للكتاب المقدس عن طريق طبع نسخ متعددة منه تكون بديلة عن الإنجيل المنسوخ بخط اليد، الذي كانت تحتفظ به الكنائس ولا تسمح للعامة بالاطلاع عليه، وإيصاله إلى الناس وتحقيق عدم مركزية المعرفة الدينية، وقبل جوتنبرج كان قدماء المصريين قد نجحوا قبل ثلاثة آلاف عام من الميلاد في استخدام ورق البردي ليكون أول وسيلة سهلة الحمل لتسجيل المعلومات والأفكار وتبادلها بين الناس، وينظر بعض المؤرخين إلى اكتشاف هذه الوسيلة على أنها مثلت ثورة تكنولوجية في عالم الاتصال البشري، فقبلها كان التسجيل يتم على جدران الكهوف والمعابد وعلى الأحجار الضخمة، وهي وسائط لم يكن من الممكن حملها وتبادلها، أما ورق البردي فقد كان سهل النقل والتداول بين الناس في أماكن متفرقة.

وإلى جانب ورق البردي الذي كان المصريون القدماء يحتكرون إنتاجه طورت حضارات قديمة أخرى وسائل سهلة الحمل للكتابة عليها، وتداولها مثل جلود الماشية التي استخدمت على نطاق واسع، رغم أنها كانت باهظة التكلفة مقارنة بورق البردي.

وعندما تطورت الكتابة وحروف الهجاء ووسائل التسجيل والتداول سهلة الحمل، نشأت المراكز الحضارية وتطورت طرق الزراعة وتكنولوجيا الحروب والتجارة، وفوق كل ذلك نشأت الإمبراطوريات الكبيرة مثل الإمبراطورية الرومانية التي حكمت أوروبا وأجزاء من آسيا وأفريقيا، وقد أدت عوامل متعددة إلى ظهور الحاجة إلى وثائق طويلة لتسجيل الأفكار الطويلة والمعقدة، وجمع الأسطح المسجلة عليها في سجل واحد منظم هو «الكتاب»، مثل ظهور الفلاسفة والمفكرين الذين كانوا يدخلون في مجادلات نظرية طويلة عن الحقيقة، وكيف يدركها الإنسان، وقوة الطبيعة، والنظام الاجتماعي، والظواهر الفلكية، والموت والحياة، وقد أدى البحث عن إجابات عن هذه الأسئلة الفلسفية إلى ظهور الحاجة إلى رسائل طويلة ومجمعة تضم كل الأفكار المتصلة بموضوع واحد معا، وعدم الاكتفاء بالرسائل القصيرة التي كانت تسجل على سطح واحد (ورقة واحدة)، وظهرت أيضا الحاجة إلى تسجيل القوانين التي تنظم حياة البشر في مختلف المجالات، وقد كان جمع هذه القوانين يتطلب وضعها في مجلد واحد (كتاب) وليس في أوراق متفرقة، كما ظهرت الأديان السماوية الكبيرة (اليهودية، ثم المسيحية، ثم الإسلام)، وبالتالي كان هناك حاجة إلى جمع الوحي الإلهي في كتب حتى لا يتعرض للتحريف عن طريق النقل الشفهي، وفي ظل ذلك لم يكن من الصعب على البشر التوصل إلى فكرة جمع الأوراق أو الأسطح التي تحوي موضوعا واحدا في مجلد واحد وفي حجم واحد، وبذلك ظهر الكتاب بالشكل الذي نعرفه الآن، الذي يرجع إلى الرومان فضل التوصل إلى فكرته.

وقد تزايد الاهتمام بالكتب والكتابة مع بداية خروج أوروبا من العصور الوسطى وبداية عصر النهضة، وذلك بفضل زيادة عدد السكان وزيادة أعداد المتعلمين منهم، وإنشاء المدارس والجامعات في المدن الأوروبية الرئيسية كمراكز للتعليم، بالتالي تزايد الحاجة إلى الكتب التعليمية، وتزايد استخدام اللغات المحلية في أوروبا، وبالتالي تزايد الحاجة إلى إنتاج المزيد من الكتب بهذه اللغات مثل الإنجليزية والفرنسية والألمانية والإيطالية، وتطوير تكنولوجيا صناعة الورق من لحاء الأشجار، وتمثلت مظاهر هذا الاهتمام في قيام مراكز ومحال لنسخ الكتب في المدن والمراكز الحضارية، وكذلك مراكز بيع الكتب، وكان هذا بداية التوزيع الجماهيري للكتاب.

إن استمرار معارض الكتب، وعلى رأسها معرض مسقط الدولي للكتاب، الذي نحتفي بافتتاحه اليوم، يؤكد أن الكتاب كوسيلة للتواصل المعرفي والحضاري، وجد لكي يستمر، وبالتالي فإن منصات النشر الجديدة لن تستطيع إخراجه من المعادلة المعرفية والثقافية والإعلامية، حتى وإن وصل الأمر إلى اختفاء الوسيط الورقي واستبداله بالوسيط الرقمي، خاصة وأنه الوسيلة الاتصالية ربما الوحيدة التي تتميز دون غيرها بأنها تخاطب النخبة المثقفة والمؤثرة في المقام الأول، ولذلك يقال دائما «إن تأثير الكتاب يتخطى حدود حجم توزيعه الفعلي لأنه يؤثر في النخبة التي تتولى صنع القرار».