ليسمح لي الكاتب الإسباني الراحل خوان غويتيسولو (1931-2017) على اقتباس فكرته «صحراء ثقافية» التي وصف بها إسبانيا أثناء محاكم التفتيش والعمل بالتقوى المسيحية لإبراز هوية قومية لإسبانيا التي تحولت في نهاية القرن السادس عشر إلى صحراء ثقافية، حسب تعبير غويتيسولو.

يُفهم من فكرة خوان غويتيسولو أن فرض الإيديولوجيات على الآخرين تصادر حق الاختلاف وتقوض التنوع الثقافي، ويُعجّل بتكلس المجتمعات وفقدانها قدرة التفاعل الطبيعي مع مكوناتها الداخلية، الأمر الذي يؤدي إلى تهيئة بيئة للجمود الفكري والانغلاق الذاتي، وانتكاسة القدرة الإبداعية، مما يعني بروز التخلف والتأخر عن اللحاق بالتطور والتقدمٌ. فالدعوات إلى انتقاء كتب معينة في معرض مسقط للكتاب، يعني فرض خيارات وذائقة وفكر معين على ذوق الجمهور والقراء، بل على العكس فإن حصر الاهتمام بمجال ثقافي أحادي إنما يُعبّر عن حالة من الضعف الذاتي للفرد في عدم الاطلاع على مجالات ثقافية أخرى، فالعلم منظومة من العلاقات المتشابكة لا يمكن عزلها أو إخراجها خارج المنظومة العلمية.

إن الشخصية المؤثرة في حاضرنا هي الشخصية المؤمنة بقيم الاستقلال والحرية، والمتفهمة لتحمل الفرد مسؤولية أفعاله في زمن الحداثة السائلة، حسب وصف عالم الاجتماع البولندي زيجموت باومان (1925-2017). ففي زمن التعددية علينا القبول بفكرة التعايش مع الآخر، حتى لا نجد أنفسنا خارج أطر التاريخ، فالقبول بالاختلاف يعكس قدرة المجتمعات وديناميكية بنيتها على التفاعل مع المختلف الذي لا يُمثل اختلافه خللا في منظومة الطبيعة. بينما يُمثل سعار فرض القناعات على الآخرين ضعفا وعجزا عن التأثير والتأثر والقبول والرفض.

نقول هذا لأننا نشعر بأنه من واجبنا ألا نُحذر من الكتب ولا اقتناءها ومطالعتها، مهما اختلفنا مع مضامينها، بل ألا ندعو إلى منع الكتب أو التضييق على كُتّابها، لأنهم يمارسون حقوقهم في الرأي والتعبير المكفولة ضمن القوانين والتشريعات، حتى وإن كان الكاتب ذاته يُعادي المختلف معه، ففي النهاية هو لا يعلم بأن حرية الرأي والتعبير قيم مقدسة لا يمكن المساس بها.

لقد سبقتنا المجتمعات الأوروبية إلى التحذير من الروايات، فقد صُنّفت الرواية في القرن السابع عشر جنسا خسيسا مفسدا، فمثلا ذكر دينيس ديدرو تقريظة لسامويل ريتشاردسون في كتاب الأجناس الأدبية لإيف ستالوني، ترجمة محمد الزكراوي. «دلت الرواية اليوم على نسيج من حوادث وهمية تافهة، في قراءتها خطر على الذوق وعلى الأخلاق، وكم وددتُ لو يُعثر على اسم آخر لأعمال ريتشاردسون، فهي تسمو بالروح، وتؤثر في النفس، ويسري فيها نفس حب الخير، وتسمى أيضا روايات». ولكن الفرنسي بيار- دانيال هُوي لطف تعريف الرواية بقوله: «هذه التي يسمونها عن حق روايات هي قصص وهمية لمغامرات غرامية، تُكتب في نثر لا يخلو من صنعة، إمتاعا وإفادة للقراء. وقولي قصص وهمية تمييز لها عن القصص الحقيقية». هكذا عُرّفت الرواية وحُذِر من تأثيرها على الذوق العام، لكننا الآن نرجع للروايات الأوروبية الصادرة في القرون الماضية لنتعرف على الحياة الثقافية والفكرية ومستوى تطور الذائقة الأوروبية، فالرواية حملت الثقافة والأدب والفن أكثر من أي جنس أدبي آخر.

كنا نتمنى من أصحاب الدعوات أن يقدموا لنا دراساتهم العلمية ونظرياتهم الأكاديمية التي تُقرأ وتُناقش وتُترجم خارج عُمان، على غرار روايات جوخة الحارثي وكتابات الروائيين والشعراء العمانيين المُعبّرة عن البيئة العمانية، والمجسدة لرأي وهموم الفرد والمجتمع. ناهيك عن القصص العمانية المترجمة في المجلات الأدبية العالمية.

إن الأدب يمثل ذروة الثقافة فالدارس لأي ثقافة لا بد وأن يتخذ الآداب والفنون مسلكا لدراساته، فالرواية والقصة والمسرح تعكس التطور الفكري والرقي الإبداعي لأي شعب من الشعوب، لذلك لن يتوقف المشتغلون بالأجناس الأدبية عن التأليف والنشر، ولن يستمع القارئ للتحذيرات من قراءة الفلسفة والآداب.