في مسار الرؤية الوطنية (عُمان 2040) تبدو خمسة ملفات محورية تستحق النظر والتدقيق - حسب تقديرنا - وهي: سؤال إدارة التغيير الثقافي، وسؤال تنسيق السياسات العامة، وسؤال إدماج منظور استشراف المستقبل في صنع التوجهات الوطنية، وسؤال كفاءة منظومة الأدلة لصنع القرارات، وسؤال بيئة القيادات العامة. ويبدو أن السؤالين الأخيرين قد أسس لهما من كيانات وبرامج ما يرتقي إلى مستوى الإجابة عنهما؛ فالمؤمل من «وحدة دعم اتخاذ القرار» التي تم استحداثها مؤخرًا في الأمانة العامة لمجلس الوزراء - حسب تصورنا - هو تغيير منظومة اتخاذ القرار، بطريقة تعزز مفهوم القرار القائم على الأدلة، والتحول نحو ما يعرف في مقاربات اتخاذ القرار بـ «القرارات المبنية على المعايير Decisions based on criteria». أما فيما يتعلق ببيئة القيادات العامة، فالجهد الراهن من البرامج والمراكز التي أعلنت عنها الأكاديمية السلطانية للإدارة - حسبما يتضح - تشتغل على ترسيخ نهج واضح لإعداد القيادات، وإمدادها بأدوات التحول، في كافة المستويات والحقول القيادية. إذن تبقى ثلاثة أسئلة ستكون محور هذه المقالة نظير أهميتها في السياق الراهن لمسار الرؤية الوطنية.
أشرنا في مقالة سابقة إلى تحول عالم اليوم إلى ما يُعرف بـ (عالم BANI). اختصارًا للخصائص الأربع التي تسم نظم (التفكير والتدبير) في عالم اليوم وهي الهشاشة (Brittle) والقلق (Anxious) وعدم الانتظام الخطي (Nonlinear) واستعصاء الفهم (Incomprehensible). وتحدثنا عن متطلبات تكيف الفرد مع هذا العالم. لكن ما الأسئلة الكبرى التي يطرحها (عالم BANI) على مسار التخطيط طويل المدى (الرؤى الوطنية)، وكيف يمكن مواجهة تلك الأسئلة؟. إن أهم ثلاثة اعتبارات - في تقديرنا - يتطلبها مسار الرؤية الوطنية للتعامل مع هذا العالم هي: (الحساسية الدقيقة تجاه المستقبل - قدرة المؤسسات على العمل معًا في الآن ذاته لتحقيق الأهداف ذاتها - القدرة على شحذ منظومة التغيير الثقافي في الهياكل والمؤسسات والمجتمع لفهم مسارات العمل والأدوار والانعكاسات). وأمام هذه الاعتبارات يتوجب النظر في الآلية التي يمكن من خلالها تحقيقها؛ هل نحتاج إلى كيانات جديدة تستطيع القيام بهذه الأدوار؟ هل نحتاج إلى عناصر من داخل المؤسسات تستطيع التوعية بهذه المتغيرات وقيادة التغيير المؤسسي؟ هل نحتاج إلى برامج موازية لقيادة التغيير المرحلي واستشراف المستقبل وتنسيق عمل السياسات؟. هذه خيارات متاحة يمكن حوصلتها لاحقًا، لكن ما يعنينا الآن هو فهم هذه الاحتياجات لإنجاح مسار التقدم بثقة الذي تسير فيه الرؤية الوطنية.
أقرت رؤية عُمان 2040 عددًا من الأولويات الوطنية، ترجمت لاحقًا إلى برامج استراتيجية في خطتها التنفيذية الأولى (الخطة الخمسية العاشرة 2021 - 2025) ولضمان أن تكون الأولويات الوطنية متسقة ومحددة ومسقطة بشكل فاعل ودقيق في الخطط الخمسية التنفيذية، نعتقد بأهمية وجود مكتب تنسيق السياسات العامة، وفكرة السياسات العامة - بعيدًا عن التعريفات الأكاديمية - هي (من ؟ يعمل ماذا ؟ ومع من ؟ ولأجل ماذا؟) فهي مسارات العمل المنسقة والمحددة الأدوار والتبعات لتحقيق الأولويات الوطنية، ولتشخيص الاحتياجات الدقيقة التي يتطلبها تحقيق تلك الأولويات، سواء كانت تلك الاحتياجات في صيغة (تشريعات - إجراءات مباشرة - برامج وطنية - موارد مالية ومخصصات - تمويل متعددة - أدوار جديدة لكيانات قائمة...). وفكرة هذا المكتب هي في النظر الاستراتيجي (الكلي) لمدى اتساق متطلبات السياسات العامة سواء كانت سياسات اقتصادية ومالية أو سياسات اجتماعية أو سياسات ثقافية أو سياسات سكانية أو سياسات تشغيل أو سواها مع بعضها البعض، وقياس فاعليتها، ومتطلبات الإصلاح لها، وفهم السياق العام المحلي والإقليمي والعالمي الذي تعمل فيه هذه السياسات، وتزويدها بممكنات الفاعلية والكفاءة والحساسية تجاه المستقبل.
هذا الكيان/ المكتب - أو أي كيان آخر يمكن أن يقوم بهذه الأدوار وتموضع الكيان - يمكن أن يشتغل أيضًا على فكرة استشراف المستقبل، والفكرة من ذلك تمكنه من الأدوات والمنهجيات التي تساعد على تحديد (الاتجاهات trends) الأكثر تأثيرًا خلال آجال زمنية معينة على بيئة عمل السياسات العامة، وسيعمل كذلك على مسح الأفق وتحديد السيناريوهات لمسار السياسة العامة في حال تأثير تلك الاتجاهات عليها؛ وبالتالي يمكن أن ينبه بطريقة مباشرة إلى (تدخلات) لتصحيح واحتواء مسار السياسة العامة لتواكب تلك الاتجاهات وتستثمر فيها - إن كانت في صالحها - أو تحد من آثارها - إن كانت تؤثر بطريقة عكسية - ومسار العمل هذا سيكون عضدا أساسيا لعملية تنسيق وتناسق السياسات العامة في بيئتها الكلية. أما المهمة الثالثة فهي إدارة التغيير الثقافي والمنظومي. في قناعتنا أن أحد أهم عوامل نجاح أي رؤية طويلة المدى هو خلق الشعور الجمعي بملكية تلك الرؤية للجميع، والعنصر الآخر هو قدرة السياسات على خلق شعور (الإلحاح الجمعي) بضرورة تسارع الخطى لتحقيق مسارات الرؤية. هذه مفاهيم أساسية تقوم عليها مقاربات إدارة التغيير، لكن ما يعنينا هنا هو كيف يمكن إسقاط ذلك على مسار الرؤية الحالية؟ - في تقديرنا - فإن عتبة تنسيق السياسات ومعرفة الاتجاهات المؤثرة عليها يحقق بالضرورة فهم (منظومة التغيير) التي يجب إحداثها؛ سواء كانت على مستوى ثقافة الأفراد (العموم)، أو ثقافة العمل المؤسسي، أو ثقافة بيئة القيادات. وبالتالي فإن وجود هذا الكيان وقدرته على تنسيق السياسات واستشراف ما يؤثر فيها سيمكنه من تحديد (التدخلات) اللازمة لإحداث التغيير الثقافي المنظومي المتطلب على كافة المستويات، وتحديد من يمكن أن يقوم بتلك التدخلات، وكيف يعمل مع كل الأطراف لإحداث أثرها.
تختلف مقاربات الدول في تنسيق السياسات العامة؛ في الكويت على سبيل المثال يضم الهيكل التنظيمي للأمانة العامة للمجلس الأعلى للتخطيط والتنمية مركز الكويت للسياسات العامة، وهو يؤدي الأدوار المتصلة بتنسيق السياسة العامة مع الخطط التنموية. في المقابل تشتغل بعض مراكز تحليل السياسات العامة (المستقلة) جنبًا إلى جنب مع الحكومات للقيام بهذه الأدوار مثل معهد دراسات السياسات في سنغافورة The Institute of Policy Studies (IPS) ومما يميز هذا المعهد أنه يحتوي على (مختبر اجتماعي) يعمل كمركز لأبحاث المؤشرات الاجتماعية ويهتم بإجراء البحوث حول التصورات الاجتماعية والمواقف والسلوكيات في سنغافورة باستخدام أقوى المعايير في منهجية المسح والتحليلات الإحصائية. كما أن هناك بعض الحكومات تسترشد بما ينتج في المؤسسات الأكاديمية الوطنية من بحوث ودراسات حول تنسيق السياسات العامة في مقاربات دولية أخرى في الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأوروبية. أيما كانت طبيعة الكيان فإن الأساس هو بناء قاعدة قوية لكفاءة السياسات العامة المتسقة والمستشرفة للمستقبل بشكل دقيق، والقادرة على الحركة والتأثير في عالم تسوده الكثير من المتغيرات والهشاشة.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان
أشرنا في مقالة سابقة إلى تحول عالم اليوم إلى ما يُعرف بـ (عالم BANI). اختصارًا للخصائص الأربع التي تسم نظم (التفكير والتدبير) في عالم اليوم وهي الهشاشة (Brittle) والقلق (Anxious) وعدم الانتظام الخطي (Nonlinear) واستعصاء الفهم (Incomprehensible). وتحدثنا عن متطلبات تكيف الفرد مع هذا العالم. لكن ما الأسئلة الكبرى التي يطرحها (عالم BANI) على مسار التخطيط طويل المدى (الرؤى الوطنية)، وكيف يمكن مواجهة تلك الأسئلة؟. إن أهم ثلاثة اعتبارات - في تقديرنا - يتطلبها مسار الرؤية الوطنية للتعامل مع هذا العالم هي: (الحساسية الدقيقة تجاه المستقبل - قدرة المؤسسات على العمل معًا في الآن ذاته لتحقيق الأهداف ذاتها - القدرة على شحذ منظومة التغيير الثقافي في الهياكل والمؤسسات والمجتمع لفهم مسارات العمل والأدوار والانعكاسات). وأمام هذه الاعتبارات يتوجب النظر في الآلية التي يمكن من خلالها تحقيقها؛ هل نحتاج إلى كيانات جديدة تستطيع القيام بهذه الأدوار؟ هل نحتاج إلى عناصر من داخل المؤسسات تستطيع التوعية بهذه المتغيرات وقيادة التغيير المؤسسي؟ هل نحتاج إلى برامج موازية لقيادة التغيير المرحلي واستشراف المستقبل وتنسيق عمل السياسات؟. هذه خيارات متاحة يمكن حوصلتها لاحقًا، لكن ما يعنينا الآن هو فهم هذه الاحتياجات لإنجاح مسار التقدم بثقة الذي تسير فيه الرؤية الوطنية.
أقرت رؤية عُمان 2040 عددًا من الأولويات الوطنية، ترجمت لاحقًا إلى برامج استراتيجية في خطتها التنفيذية الأولى (الخطة الخمسية العاشرة 2021 - 2025) ولضمان أن تكون الأولويات الوطنية متسقة ومحددة ومسقطة بشكل فاعل ودقيق في الخطط الخمسية التنفيذية، نعتقد بأهمية وجود مكتب تنسيق السياسات العامة، وفكرة السياسات العامة - بعيدًا عن التعريفات الأكاديمية - هي (من ؟ يعمل ماذا ؟ ومع من ؟ ولأجل ماذا؟) فهي مسارات العمل المنسقة والمحددة الأدوار والتبعات لتحقيق الأولويات الوطنية، ولتشخيص الاحتياجات الدقيقة التي يتطلبها تحقيق تلك الأولويات، سواء كانت تلك الاحتياجات في صيغة (تشريعات - إجراءات مباشرة - برامج وطنية - موارد مالية ومخصصات - تمويل متعددة - أدوار جديدة لكيانات قائمة...). وفكرة هذا المكتب هي في النظر الاستراتيجي (الكلي) لمدى اتساق متطلبات السياسات العامة سواء كانت سياسات اقتصادية ومالية أو سياسات اجتماعية أو سياسات ثقافية أو سياسات سكانية أو سياسات تشغيل أو سواها مع بعضها البعض، وقياس فاعليتها، ومتطلبات الإصلاح لها، وفهم السياق العام المحلي والإقليمي والعالمي الذي تعمل فيه هذه السياسات، وتزويدها بممكنات الفاعلية والكفاءة والحساسية تجاه المستقبل.
هذا الكيان/ المكتب - أو أي كيان آخر يمكن أن يقوم بهذه الأدوار وتموضع الكيان - يمكن أن يشتغل أيضًا على فكرة استشراف المستقبل، والفكرة من ذلك تمكنه من الأدوات والمنهجيات التي تساعد على تحديد (الاتجاهات trends) الأكثر تأثيرًا خلال آجال زمنية معينة على بيئة عمل السياسات العامة، وسيعمل كذلك على مسح الأفق وتحديد السيناريوهات لمسار السياسة العامة في حال تأثير تلك الاتجاهات عليها؛ وبالتالي يمكن أن ينبه بطريقة مباشرة إلى (تدخلات) لتصحيح واحتواء مسار السياسة العامة لتواكب تلك الاتجاهات وتستثمر فيها - إن كانت في صالحها - أو تحد من آثارها - إن كانت تؤثر بطريقة عكسية - ومسار العمل هذا سيكون عضدا أساسيا لعملية تنسيق وتناسق السياسات العامة في بيئتها الكلية. أما المهمة الثالثة فهي إدارة التغيير الثقافي والمنظومي. في قناعتنا أن أحد أهم عوامل نجاح أي رؤية طويلة المدى هو خلق الشعور الجمعي بملكية تلك الرؤية للجميع، والعنصر الآخر هو قدرة السياسات على خلق شعور (الإلحاح الجمعي) بضرورة تسارع الخطى لتحقيق مسارات الرؤية. هذه مفاهيم أساسية تقوم عليها مقاربات إدارة التغيير، لكن ما يعنينا هنا هو كيف يمكن إسقاط ذلك على مسار الرؤية الحالية؟ - في تقديرنا - فإن عتبة تنسيق السياسات ومعرفة الاتجاهات المؤثرة عليها يحقق بالضرورة فهم (منظومة التغيير) التي يجب إحداثها؛ سواء كانت على مستوى ثقافة الأفراد (العموم)، أو ثقافة العمل المؤسسي، أو ثقافة بيئة القيادات. وبالتالي فإن وجود هذا الكيان وقدرته على تنسيق السياسات واستشراف ما يؤثر فيها سيمكنه من تحديد (التدخلات) اللازمة لإحداث التغيير الثقافي المنظومي المتطلب على كافة المستويات، وتحديد من يمكن أن يقوم بتلك التدخلات، وكيف يعمل مع كل الأطراف لإحداث أثرها.
تختلف مقاربات الدول في تنسيق السياسات العامة؛ في الكويت على سبيل المثال يضم الهيكل التنظيمي للأمانة العامة للمجلس الأعلى للتخطيط والتنمية مركز الكويت للسياسات العامة، وهو يؤدي الأدوار المتصلة بتنسيق السياسة العامة مع الخطط التنموية. في المقابل تشتغل بعض مراكز تحليل السياسات العامة (المستقلة) جنبًا إلى جنب مع الحكومات للقيام بهذه الأدوار مثل معهد دراسات السياسات في سنغافورة The Institute of Policy Studies (IPS) ومما يميز هذا المعهد أنه يحتوي على (مختبر اجتماعي) يعمل كمركز لأبحاث المؤشرات الاجتماعية ويهتم بإجراء البحوث حول التصورات الاجتماعية والمواقف والسلوكيات في سنغافورة باستخدام أقوى المعايير في منهجية المسح والتحليلات الإحصائية. كما أن هناك بعض الحكومات تسترشد بما ينتج في المؤسسات الأكاديمية الوطنية من بحوث ودراسات حول تنسيق السياسات العامة في مقاربات دولية أخرى في الولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الأوروبية. أيما كانت طبيعة الكيان فإن الأساس هو بناء قاعدة قوية لكفاءة السياسات العامة المتسقة والمستشرفة للمستقبل بشكل دقيق، والقادرة على الحركة والتأثير في عالم تسوده الكثير من المتغيرات والهشاشة.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان