ارتبط الإسلام منذ العصر الأول وما بعده، بأهمية الاجتهاد والتجديد في مسائل يتم النظر فيها، وفق مقتضيات المصالح المعتبرة للأمة، عندما تستجد الحاجة إليها، وهو ما أقره الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- في حياته، ومنها قصة الصحابي معاذ بن جبل، الذي أرسله، إلى اليمن قاضيا وإماما ومفتيا، ووجه له -صلى الله عليه وسلم- بعض الوصايا في كيفية التعامل مع القضايا التي تُعرض عليه، وكيف يتم ذلك الأخذ؟، وإذا لم يجد في القرآن الكريم، أو السنة النبوية نص يتم تطبيقه على الواقعة ماذا يقضي؟ قال معاذ: (اجتهد ولا آلو)، وهذه كانت إشارة واضحة ودافعة للاجتهاد بالرأي، في أي مستجدات تطرأ في بيئة اجتماعية أو عرفية، من حيث العادات والثقافات والأعراف التي تختلف بين مجتمعات وبيئات أخرى، وهذا ما مارسه الخلفاء الراشدون -رضي الله عنهم- من بعده صلى الله عليه وسلم، بما لا يتجاوز استفراغ الوسع للمجتهد للنصوص القطعية الثابتة، لكن مبدأ الحركة في الاجتهاد حركة دائبة مستمرة، وفيما لا نص فيه، والتي تنطلق ممن لديه القدرة والملكة العلمية والمعرفة الفقهية، في استنباط الفروع من الأصول في الدين، وهناك أسس معروفة حُددت في هذا الأمر، وهي مرهونة ببذل أقصى الجهد من خلال إدراك النصوص الشرعية، فيما يستجد من قضايا في كل زمان ومكان، وهو ما يسميه العلماء بـ(منطقة الفراغ التشريعي)، التي جعلها الله -سبحانه وتعالى- سعة ورحمة للأمة المسلمة في كل عصر.

وبعض الأئمة المؤسسون للمدارس الفقهية الإسلامية، غيروا في مذاهبهم، عندما انتقلوا إلى بيئات جديدة، عندما وجدوا متغيرات جديدة في الثقافات والأعراف والمعاملات التي برزت واجتهدوا في هذا الأمر، ومن هؤلاء الأمام الشافعي عندما انتقل من العراق إلى مصر. في أهمية الاجتهاد ومقتضياته، نتذكر أن السلطان قابوس بن سعيد-تغمده الله بالرحمة والمغفرة- أشار في خطابه في العيد الوطني الرابع والعشرين، إلى أهمية التجديد والاجتهاد في الفكر الإسلامي، ومما قاله عن هذه المسألة: «لقد أنزل الله سبحانه وتعالى القرآن، بالحكمة والبيان، وضمنه المبادئ والقواعد الكلية للأحكام الشرعية، ولم يتطرق فيه إلى جزئيات المسائل التي يمكن أن تختلف باختلاف الزمان والمكان، وذلك ليتيح للمسلمين الاجتهاد في مجال المعرفة والفهم الديني واستنباط الأحكام لما يستجد من وقائع وفقا لبيئاتهم وللعصر الذي يعيشون فيه، مع الالتزام الدقيق في هذا الاستنباط بتلك المبادئ العامة والقواعد الكلية».

ولا شك أن الحديث عن قضية الاجتهاد في مسيرة الفكر الإسلامي، تعتبر من المسائل المهمة في حياة في كل الأمة، وخاصة في حياتها المعاصر بالأخص، ونظرا لتقارب الأفكار وصراعها في ظل التقنيات الحديثة التي قرّبت الشعوب بعضها ببعض، وأصبح العالم قرية واحدة، أو بالعكس: العالم أصبح قرية، وهو ما حذر منه العلامة وفيلسوف التاريخ وتحولاته في بعض مؤلفاته، التي هي شهادة واقعية عاشها بنفسه في ذلك العصر، ومما قاله: (إن المغلوب مولع باقتداء الغالب)، ولذلك نجد أن التقليد انتشر بشكل لافت في العديد من البيئات العربية والإسلامية في عصرنا الراهن، وهذا مما تحتاج له الأمة نهضة فكرية للحفاظ على مقوماتها الفكرية والثقافية، لذلك منهج الاجتهاد ومراده، والمرتبط بالمنهج الإسلامي الذي يقوم على ناموس التجدد، الذي يحفظ للأمة ذاتيتها وشخصيتها المستقلة، في أن تبدع وتنهض من ذاتها من الجمود ومن التخلف في المجال الفكري والحضاري، وفي التحولات التي تحتاج إلى النظر والبحث، الذي يأخذ من معين هذا الدين، دون الارتماء في ثقافة الآخر ونظرته المختلفة لقضايا كثيرة، وهذا الاجتهاد، لا ينطلق في المجال الديني فقط، بل تحتاج له الأمة في الجانب الحضاري، وتسعى لتغيير التأثير الغربي في لغتنا، وفي رؤيتنا للتقدم والنهضة، إذ أصبح الخطر حتى في العمران ـ في بعض البلدان العربية ـ التي اختفت تماما ملامح الهوية الحضارية، وهذه بلا شك تحتاج إلى وعي بمخاطر الاختراق الفكري والثقافي ـ وهذه سيكون لها حديث آخر منفصل. لكن بعضا ممن يناقش قضية الاجتهاد، وكيفية التعاطي مع المسائل التي يتم فيها بعض الوسع الاجتهادي، وفق المصالح المعتبرة بما تحقق في واقعها، ينظر له البعض نظرة تختلف عن النظرة التي ينبغي أن تؤخذ من فكر الآخر، ولا تأخذ من منبعه الذي هو من صميم فكره، إلا في قضايا منهجية للاستفادة من طرقه وأساليبه، وهذه مسألة ليس مسارها الاجتهاد في مجال القيم الفكرية والثقافية، فلا بد أن تكون متوافقة مع النظام المعرفي للفكر الإسلامي وأصوله، وتلك مسألة طبيعية وجوهرية بالنسبة لهذا العلم وحمولته الفكرية المعرفية.

فالتخصص في أي علم من العلوم مسألة بديهية لا يختلف عليها أحد، ولها معطيات واشتراطات ومعايير محددة كأي منهج آخر يتم التعاطي معه، فمن: «يتكلم في الطب والعلاج بغير علم -كما يقول د. أحمد الريسوني- ومن دون تمكن يعد مشعوذا، ومن يمارس ذلك من غير أهلية ومن دون إجازة يحاكم ويعاقب، ومن يخطئ في ذلك ويلحق الضرر بالناس يكون متعديا وضامنا، ومن يتكلم في السياسة بلا علم يعدّ مهرجا، وانتهازيا وديماغوجيا، ومن يتكلم في التاريخ بلا علم يعدّ مخرفا». والاجتهاد أيضا من ضمنها، وهذه من القضايا من المهم اعتبارها وأخذها في الحسبان، وعدم تجاوزها بحكم عدم أهلية من يتقدم لذلك وقلة قدرته العلمية والمعرفية لذلك، من هنا طالب بعض العلماء بأهمية الاجتهاد الجماعي، الذي يحظى بقبول أقوى من في الاجتهاد الفردي، مع حصول الاجتهاد الفردي، للحاجة الآنية السريعة التي تتطلب رؤية اجتهادية في وقتها، وهذا ما سار عليه بعض الخلفاء الراشدين، في حالة عدم وجود النص، فيكون الشورى هو الحل في إيجاد رؤية اجتهادية للقضية المطروحة، وهناك العديد من المواقف التي تؤيد هذا الاجتهاد الجماعي من خلال الشورى.

والواقع أن الحديث عن التجديد والاجتهاد في مسيرة الفكر الإسلامي ذات ارتباط وثيق بالمنهج الإسلامي الذي يقوم على ناموس التجدد الذي يجري على سنن تحفظ لهذه الأمة التي قال عنها الخالق عز وجل إنها: (خير أمة أخرجت للناس) شخصيتها المستقلة وقيمها الذاتية بحيث يحميها من التدهور والجمود.

وقد جاء الإسلام بنظامه المتكامل الذي وضع البشرية على الطريق القويم، والمنهج الصحيح، وجاءت تشريعاته صالحة لكل زمان ومكان من خلال أحكامه الكلية... والبعد الاجتهادي في النصوص الظنية التي تحتمل المعاني المتعددة عندما تتطلب ذلك الاجتهاد وهو «والاجتهاد بالرأي» القائم على تقدير «المصالح» المتجددة التي لم يرد فيها نص، وهو الاجتهاد الجاري على الأصول الشرعية المترسم لمقاصدها ومبادئها العامة. وقد عبر عن ذلك أحد المفكرين الغربيين الدكتور (هوكنج) أستاذ الفلسفة في جامعة هارفارد بالولايات المتحدة بقوله: «إن في نظام الإسلام كل الاستعداد الداخلي للنمو.. بل إنه من حيث قابليته للتطور يفوق كثيرا من النظم المماثلة.. إن الصعوبة لم تكن تكمن في انعدام وسائل النمو والنهضة في الشريعة، وإنما في انعدام الميل إلى استخدامها، إنني أقر أن الشريعة الإسلامية تحتوي على جميع المبادئ اللازمة لنهضتها». وكان للصحابة رضوان الله عليهم السبق الأوفى في استنباط الكثير من القضايا الاجتهادية -كما أشرنا إلى ذلك- التي توافق روح النص ومقصد الشارع في ما تتطلبه الضرورات الآنية للواقعة التي تلتزم رأيا اجتهاديا. والأمثلة في هذا المضمار كثيرة ووفيرة منها.. اجتهاد الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- برأيه في «المؤلفة قلوبهم»، وفي «مسألة تقسيم أراضي العراق»، وفي «عدم قطع يد السارق في عام المجاعة»...الخ. وإذا كان الصحابة والتابعون في العصر الإسلامي الأول قد اجتهدوا في الكثير من القضايا التي طرأت في ذلك الوقت، فإننا في هذا العصر محتاجون وربما لتفعيل معطيات الاجتهاد والتجديد وتكييفه بما يطرأ من متطلبات العصر الراهن بتحولاته ومتغيراته الفكرية واكتشافاته العلمية الرهيبة، وهذا لا يعني إننا يجب أن نقلد ما فعلته الأمم الأخرى في قيمها وموروثاتها، بل المقصود أن الأحوال المتغيرة في كل عصر تحتاج المجتمعات أن تلامس ضروراتها المتجددة.