احتفل العالم أمس الأول «الاثنين» بالنسخة الثانية عشرة من اليوم العالمي للراديو الذي يوافق الثالث عشر من فبراير، والذي حمل هذا العام شعار «الراديو والسلام» للتأكيد على دور المحطات الإذاعية المستقلة في العالم في منع النزاعات وبناء السلام بين الدول وداخل الدولة الواحدة.

في هذا اليوم الذي اعتمدته منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «اليونسكو» في 2011 وتبنته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 2012، يحتفل العالم بالراديو، باعتبار أنه كان وما زال أحد أهم الأدوات والوسائل والمنصات الإعلامية التي تسهم في تشكيل حياة البشر، من خلال ما ينقله للمستمعين من معلومات وأفكار وقيم تسهم في تعزيز التضامن في المجتمع، وتوحيده حول الأهداف المشتركة. وقد أكد هذه المعاني معالي الدكتور عبدالله الحراصي وزير الإعلام العُماني في حواره الإذاعي مع راديو سلطنة عمان بهذه المناسبة، مشيرا إلى أن صناعة الراديو في عمان شهدت تطورات كبيرة منذ دخول هذه الوسيلة الإعلامية المهمة إلى عمان في مطلع سبعينيات القرن الماضي. وثمن معاليه تجربة الإذاعة المسموعة في الدولة واصفا إياها بالتجربة الثرية والعظيمة سواء على المستوى التقني أو على مستوى المحتوى.

واقع الحال أن الحديث عن أهمية الراديو ودوره والوظائف التي يؤديها للفرد والمجتمع يبدو، بعد أن تجاوز عمره في خدمة البشرية المائة عام، من قبيل التأكيد على المسلمات التي تكررت مرات عديدة في التراث الإنساني. فمنذ ظهوره في مطلع القرن العشرين وتحوله إلى وسيلة اتصال جماهيرية في مطلع العشرية الثالثة من القرن نفسه، لعب الراديو أدوارا متعددة على جميع الأصعدة المحلية والوطنية والإقليمية والعالمية، وكان له تأثير واضح في مسيرة البشرية، خاصة في أوقات الحروب والأزمات وأبرزها الحرب العالمية الثانية، وفي مسيرة التنمية والتحديث التي انطلقت في غالبية دول العالم بعد هذه الحرب، وظل حتى بعد ظهور التلفزيون الوسيلة الإعلامية الأكثر استخداما والأقل كلفة والأسرع وصولا إلى الجماهير.

حقيقة الأمر أن الراديو بمحطاته الإذاعية المختلفة والتطورات التكنولوجية التي شهدها، له قصة في كل دولة دخلها ما زالت محفورة في ذاكرة الجيل الذي نشأ وترعرع قبل عصري التلفزيون والإنترنت، وتستحق أن تروى للجيل الحالي والأجيال التالية. وأذكر هنا أن جهاز الراديو كانت له مكانة رفيعة في الأسرة تجعله يعلو على كل ما عداه من الأجهزة إذ كان يوضع في منزلنا الريفي على رف عال لا تستطيع أيادي الأطفال الوصول له. وكان الأب أو الأخ الأكبر هو صاحب الحق الوحيد في تشغيله والتحول من محطة إذاعية إلى أخرى. وما زلت أذكر البرامج التي كنا نستمع لها ومقدماتها الغنائية والموسيقية، وأسماء المذيعين، وتفاصيل البرنامج اليومي للإذاعة المصرية، وإذاعة الإسكندرية المحلية التي كنا نستقبل إرسالها بحكم قربنا الجغرافي منها. وظل ارتباطنا بالراديو شديدا حتى بعد أن أصبح التلفزيون ضيفا جديدا في المنزل ومن بعده شبكة الإنترنت.

ومع تقديرنا للإذاعات العربية جميعها والدور الذي قامت وتقوم به خاصة في دعم برامج التنمية، فإننا في هذه المناسبة ندعوها إلى الالتفات إلى التطورات الجديدة في صناعة الراديو. ففي عصر اندماج وسائل الإعلام يثار السؤال عن ماهية الراديو. وقد أدى هذا الاندماج إلى جدل حول تعريف الراديو بعد أن تداخلت معه منصات رقمية عديدة تقدم الأغاني والبرامج المسموعة والمنتجات الصوتية إلى الجمهور. فعندما نريد أن نستمع إلى أغنية فإننا لم نعد نتحول إلى الراديو، وإنما إلى موقع يوتيوب أو إلى مواقع الأغاني على الويب.

لقد ظل الراديو يعني إلى وقت قريب نقل الإشارات المسموعة عبر الموجات الهوائية من محطات الإذاعة المرخص لها بالعمل واستقبالها من الجمهور عن طريق أجهزة تسمى أجهزة الراديو. وبهذا التعريف فإن المحطات الإذاعية التي تبث عبر الأقمار الصناعية ويستقبلها الناس عبر أجهزة استقبال الأقمار الصناعية تدخل ضمن تعريف الراديو. مشكلة تعريف الراديو تتعلق بالبث الإذاعي عبر شبكة الإنترنت أو من خلال موقع يوتيوب الذي يتضمن الفيديو إلى جانب الصوت، فهو غير مرخص من السلطات المعنية من جانب، ولا يستخدم الموجات الهوائية للوصول إلى أجهزة الاستقبال من جانب آخر. وتتنافس منصات الراديو الرقمية الجديدة مع محطات الراديو التقليدية على الجمهور والإعلان، وقد استفادت هذه المحطات من المنصات الرقمية وخرجت إلى الإنترنت وأنشأت مواقع على الويب بالإضافة إلى إنتاج تطبيقات لها على الأجهزة اللوحية والهواتف الذكية.

ويواجه الراديو التقليدي منافسة شديدة في عصر اندماج وسائل الإعلام سواء من وسائل الإعلام المرئية مثل التلفزيون ومواقع الويب وشبكات التواصل الاجتماعي أو مع المصادر الرقمية للموسيقى التي أصبحت متاحة على نطاق واسع سواء على شبكة الويب أو عبر تطبيقات الهواتف الذكية أو في الأجهزة اللوحية ومشغلات الموسيقى الرقمية. وقد أثرت هذه المنافسة على حجم جمهور الراديو من جانب وعدد الساعات التي يقضيها المستمعون في الاستماع لمحطات الراديو التقليدية، وهو ما أدى في النهاية إلى انخفاض الدخل الإعلاني للمحطات الإذاعية بسبب انخفاض عدد المستمعين، واتجاه المستمعين الشباب إلى تنزيل الأغاني من مواقع الإنترنت، والاستماع للتدفق الموسيقي من مواقع أخرى، ومشاركة الأغاني مع الأصدقاء، والتحول لراديو الأقمار الصناعية.

لم يعد مفهوم الراديو الذي كان سائدا قبل تسعينيات القرن الماضي مناسبا الآن. وعلى هذا الأساس يمكن توسيع هذا المفهوم ليشمل كل الأنشطة السمعية المقدمة من محطات إذاعية تقليدية أو محطات أنشئت على الإنترنت، إلى جمهور، سواء كان ذلك عبر الموجات الهوائية أو عبر الإنترنت. وقد اتجه البعض إلى استخدام مصطلح «التدفق الصوتي» للتعبير عن المفهوم الجديد للراديو ويعني تدفق الأصوات للمستمعين التي تنتهي فور الاستماع لها أيا كانت المنصات التي يتم البث عليها والأجهزة التي يتم استقبال الصوت عليها. ويميز هذا المفهوم صناعة الراديو عن صناعة التسجيلات الصوتية التي يتحكم فيها الجمهور في التدفق الصوتي المسجل. ووفقا للمفهوم الجديد للراديو فإن منصات الراديو القديمة والجديدة (الإذاعة التقليدية، والويب، والأجهزة اللوحية، والهواتف الذكية)، تتنافس معا لتقديم التدفق الصوتي من البرامج والأغاني والمواد المسموعة بصفة عامة.

ولعل من أهم الحقائق التاريخية المتصلة بالراديو في مختلف الدول، أنه كوسيلة للاتصال تطور استجابة لمتغيرات اجتماعية وقانونية وتنظيمية شهدها المجتمع الإنساني في الفترات المختلفة. وتشير مراجعة تطور الراديو إلى أنه دائما ما يستجيب للتغيرات الاجتماعية استجابة كبيرة. ففي البداية كانت البرامج تتوجه إلى الجمهور العام، ولكن المنافسة مع التلفزيون أجبرته بعد ذلك على تطوير مداخل جديدة لاستهداف جماهير محددة. وما زالت هذه المداخل عرضة للتغيير لمواجهة الاندماج الذي تواجهه الصناعات الإعلامية المعاصرة. إن استجابة محطاتنا الإذاعية للتحديات التي تواجهها في هذا العصر الرقمي يمكن أن يدفعها إلى تطوير المحتوى وتحسينه حتى تحتفظ بجمهورها. لا يكفي، إذن، أن يقتصر احتفالنا باليوم العالمي للراديو على تأكيد تقديرنا لهذه الوسيلة الإعلامية واستعادة الذكريات الشخصية والجمعية معها، وأن يمتد إلى دراسة واقع صناعة الراديو في العالم والتغيرات التي تشهدها والتحديات التي تواجهها، حتى نكون على استعداد دائم للتعامل معها حفاظا على تراثنا الإذاعي، وعلى دور الراديو في حياتنا.