كمدنٍ من ورق سقطت المنازل فوق رؤوس ساكنيها، سقطت أضعفُ الحمايات التي يلتجئ إليها الشعب السوري المنكوب في ظل الحرب الأهلية التي تُمزقه منذ ١٢ عاما. تهشمت آخر الأماني بتعافي هذه البقعة من الوطن العربي، ونحنُ نتساءل بكل حسرة: ألا يكفي تدافع الموت المجاني، ألا يكفي البرد والجوع، ألا تكفي ديمومة الخديعة، حتى تتآزر الطبيعة بكل غضبها الشرس لتُفني آخر الآمال؟!

كارثة الزلزال الأخيرة التي ضربت جنوب تركيا وشمال غرب سوريا خلفت أضرارا جسيمة، لا يمكن حتى الآن تقديرها بدقة، وهي كما وصفها أردوغان «بكارثة القرن»، إلا أنّها بالنسبة لسوريا على وجه الخصوص تأخذُ منعطفا آخر، فهذا الشعبُ تراكمت آلامه وأحزانه، تراكم قتله وتهجيره وتصفيته، تراكم خذلانه بما لا يُقاس.

ينفطرُ القلبُ ويذوي لتلك القيامة الصغيرة التي تعتمل فينا وتأكلنا الغصة على آلام أطفال يصرخون مُحاطين بجدران مهشمة فوق أجسادهم الصغيرة، وأمهات مفجوعات لاهثات لا حول لهن ولا قوة، بينما الآباء يقبضون على أيادٍ فارق بعضها نبض الحياة. تلك المشاهد التي يستحيل لأكثر أفلام الرعب تصويرها، وتلك الأصوات المنبعثة من قبور من دفنوا أحياء، تهز أبعد نقطة في اطمئنان، تهز السكينة وتحركُ فيوضا من الرأفة العاجزة.

فماذا عسانا نكون نحن إزاء بطولات صبرهم؟ أي إحساس بالضآلة سيتكاثر فينا؟

فيما سبق، كنا نسأل حول ما يمكن أن تُخلفه الحرب من أضرار في نسيج حياة الوطن الجريح، أما الآن وإزاء هذه التحركات الغاضبة للأرض، فماذا يمكن أن يُخلف هذا الزلزال الجامح في الأرواح والأجساد؟

ماذا عسانا نفعل إزاء السيلان المُرعب الذي تبثه وسائل التواصل والإعلام من صور ومقاطع فيديو؟ تلك المشاهد التي تُرينا هشاشتنا وتفضح ضعفنا أمام المعذبين تحت الأنقاض أو فوقها! ماذا عسانا نفعل أكثر من التسمر المرير أمام الشاشات مشحونين بالعجز البائس وضعف الحيلة.

في مواجهة مضنية مع تلك الأسئلة التي تتدفق فينا حول الإنسان الأعزل، الإنسان المجرد من بيته ومن عائلته، المجرد حتى من إنسانيته، وهو يتلظى بين جحيمين جحيم الحرب التي اخترعها الإنسان وجحيم الطبيعة الأعمى الذي لا يفرق بين ضحية وجلاد، ولا نجد أي جواب!

قال الأصدقاء الذين نعرفهم: «لقد تغيرت سوريا، تغيرت حلب، لم تعد كما كانت منذ عقدين»، عندما كنا طلابا ندرسُ فيها، لكننا نتشبث بالمدينة المختزنة في الذاكرة، المدينة الحيّة والمراوغة، تلك التي أفصحت لنا ومنذ اللقاءات الأولى عن مودة عارمة، تلك احتوتنا ولم تُبقنا غرباء أو مجهولين. لطالما أشعرتني مدينة «حلب» بشكل شخصي بالألفة، بالنمو الآمن للأوقات المُبهجة، ولذا فهي مدينة لا يمكن تجاوزها بيسر. المدينة كما يقول إيتالو كالفينو في كتابه «مدن لا مرئية»، تتكون من «العلاقات بين مسافات فراغها وأحداث ماضيها، المدينة تظهر لنا كلا ونحن الجزء». لقد كنا ذلك الجزء من الكل، الجزء الذي يتألم الآن، الجزء الذي يحِنُ لمنعطفاتها وشوارعها وأغانيها وحكاياتها.

في هذا اليأس المدقع والجامح، على كل واحد منا أن يُحرك فكرة، على أحدنا أن يُحدث فرقا وإن تبدى شيئا تافها، ليس من أجل الآخر وحسب، ولكن لكي نُعزي أنفسنا في هذا الخراب اللامتناهي، لنحمي إنسانيتنا قبل أن نحمي الآخر، علنا نتذكر إيليا أبو ماضي: «نسي الطين ساعة أنه طين حقير، فصال تيها وعربد». علّ الزلزال الهادر في أرواحنا يُلقننا درسا، ويقلل من عنجهية الإنسان وبطشه، كي تستريح سوريا قليلا من أوجاعها المثخنة!

هدى حمد كاتبة عمانية ومديرة تحرير مجلة نزوى