هل يمكن للاعب الكرة أن يسجّل هدفًا وهو جالس في مقاعد البدلاء واضعًا رِجْلًا على رِجْل؟. قبل أن تتسرع بقول: «مستحيل» أُجيب: «نعم. ممكن. بل إن هذا ما حدث بالفعل يوم السبت الماضي (4 فبراير 2023م) في حادثة غريبة وقعت في دوري كرة القدم الإسباني، ويمكن إسقاطها على كثير مما يجري في حياتنا.
ارتدت الكرة من حارس مرمى نادي خيتافي فتصدى لها لاعب نادي أتلتيكو مدريد؛ الأرجنتيني أنخيل كوريا وسددها في المرمى. لكن الحكم ألغى الهدف بداعي التسلل. وضح الأسى والتحسّر على وجه كوريا، وقبله على مدرب الفريق دييغو سيميوني، الذي يبدو أنه فكّر في معاقبة اللاعب المتسلل فقرر إخراجه من الملعب، «وجودك في الملعب على قدر عطائك»، هكذا على ما يبدو فكّر سيميوني، «وما دمتَ أضعت علينا بتمركزك غير السليم هدفًا جاء في الدقيقة الستين؛ أي بعد ساعة كاملة من بذل زملائك جهودًا مضنية، وبعد تسديدة قوية من زميلك، فأنت لا تستحق البقاء ثانية أخرى في الملعب».
خرج كوريا مذمومًا مدحورًا وتوجه إلى دكة الاحتياط، تزامن خروجه مع قرار الحكم بمراجعة تقنية الفيديو VAR، ليس لأنه لم يكن واثقًا من قراره السابق بإلغاء الهدف، ولكن ليُسكِت أصوات الجماهير التي طالبت باحتسابه. إذن لا ضير من الرجوع إلى التقنية لإثبات أن قراره لم يأتِ من فراغ. بعد أن قعد اللاعب المتسلل في دكة البدلاء، وأصبح فعليًّا خارج المباراة، انتهى الحكم من مشاهدة الفيديو ليكتشف أن الهدف صحيح ولا يستحق الإلغاء، فيقرر احتسابه مشيرًا بذراعه إلى منتصف الملعب. من شدة الفرح هرع لاعبو أتلتيكو مدريد إلى مقاعد البدلاء ليحتضنوا زميلهم؛ اللاعب الذي سجّل هدفًا وهو حرفيًّا خارج الملعب ولم يعد محسوبًا على المباراة، في حدث غريب من نوعه.
لا بد أن مشاعر كوريا اضطربت في تلك اللحظة الفرِحة وقال في قرارة نفسه: «إن فرحتي بالهدف الآن لا تضاهي حزني على خروجي من الملعب. لقد انتهى دوري ولن أستطيع تسجيل أي هدف ثانٍ، أو على الأقل أساعد زملائي في تسجيله، رغم أنني في أوج عطائي. كانت فرحة بالفعل، ولكن بعد فوات الأوان».
على الفور تقفز إلى الذهن قصة «الألم» لأنطون تشيخوف، لا ريب أن ماتريونا زوجة السكير غريغوري بتروف كانت ستسعد بكل ما تسمعه من زوجها وهي راقدة في زلاجة يجرها الحصان في طريقهما إلى الطبيب. فقد استذكر بتروف وهو على الحصان أنها صبرت معه على كثير من المُرّ أربعين عامًا دون أن يُسمعها كلمة امتنان واحدة. كان يعتذر لها طوال الطريق، ويعدها بأنه سيتغيّر بعد علاجها هذه المرة، وسيُنزلها المنزلة التي تستحق، ولن يضربها مرة أخرى. لكن الزوجة تموت في الطريق للأسف دون أن تسمع هذا الكلام.
تُرى كم من البشر يمكن أن نُسقط عليهم حكاية كوريا وماتريونا؟ أولئك الذين يصلهم الفرح دون أن يشعروا به لأنه جاء متأخرًا بعد فوات الأوان. يحضرني في هذا السياق غلام خميس، مارادونا عُمان، اللاعب الفذّ الذي أَفرَح العُمانيين بأهدافه في كأس الخليج. بعد أن مات انهالت عليه الرثاءات من كل حدب وصوب، بل وصدر كتاب عنه بعنوان «غلام خميس: عطاء بلا حدود» أعدّه الكاتب سالم ربيع الغيلاني، يتضمن أجمل المقالات والنصوص في إطرائه ومديح موهبته الفريدة. لا شك أنه كان سيفرح بكل هذا الحب لو قٌيِّض له أن يراه وهو حيّ، وهو الذي مات حزينًا بعد أن بُتِرتْ ثلاث من أصابع قدمه بسبب مضاعفات السكّري، ومُعدَمًا حدّ أنه ظل فترة ليست بالقصيرة يبحث عن علاج، وعندما تقرر علاجه في الخارج لفظ أنفاسه في الطائرة التي أقلّته إلى تايلند.
«إن وردة واحدة لإنسان على قيد الحياة أفضل من باقة كاملة على قبره»، هكذا اختصر علينا جبران خليل جبران الموضوع كله، وأن نسمع كلمة طيبة واحدة في حياتنا خير من آلاف القصائد التي تدبج في رثائنا دون أن نسمع منها حرفا.
سليمان المعمري كاتب وروائي عماني
ارتدت الكرة من حارس مرمى نادي خيتافي فتصدى لها لاعب نادي أتلتيكو مدريد؛ الأرجنتيني أنخيل كوريا وسددها في المرمى. لكن الحكم ألغى الهدف بداعي التسلل. وضح الأسى والتحسّر على وجه كوريا، وقبله على مدرب الفريق دييغو سيميوني، الذي يبدو أنه فكّر في معاقبة اللاعب المتسلل فقرر إخراجه من الملعب، «وجودك في الملعب على قدر عطائك»، هكذا على ما يبدو فكّر سيميوني، «وما دمتَ أضعت علينا بتمركزك غير السليم هدفًا جاء في الدقيقة الستين؛ أي بعد ساعة كاملة من بذل زملائك جهودًا مضنية، وبعد تسديدة قوية من زميلك، فأنت لا تستحق البقاء ثانية أخرى في الملعب».
خرج كوريا مذمومًا مدحورًا وتوجه إلى دكة الاحتياط، تزامن خروجه مع قرار الحكم بمراجعة تقنية الفيديو VAR، ليس لأنه لم يكن واثقًا من قراره السابق بإلغاء الهدف، ولكن ليُسكِت أصوات الجماهير التي طالبت باحتسابه. إذن لا ضير من الرجوع إلى التقنية لإثبات أن قراره لم يأتِ من فراغ. بعد أن قعد اللاعب المتسلل في دكة البدلاء، وأصبح فعليًّا خارج المباراة، انتهى الحكم من مشاهدة الفيديو ليكتشف أن الهدف صحيح ولا يستحق الإلغاء، فيقرر احتسابه مشيرًا بذراعه إلى منتصف الملعب. من شدة الفرح هرع لاعبو أتلتيكو مدريد إلى مقاعد البدلاء ليحتضنوا زميلهم؛ اللاعب الذي سجّل هدفًا وهو حرفيًّا خارج الملعب ولم يعد محسوبًا على المباراة، في حدث غريب من نوعه.
لا بد أن مشاعر كوريا اضطربت في تلك اللحظة الفرِحة وقال في قرارة نفسه: «إن فرحتي بالهدف الآن لا تضاهي حزني على خروجي من الملعب. لقد انتهى دوري ولن أستطيع تسجيل أي هدف ثانٍ، أو على الأقل أساعد زملائي في تسجيله، رغم أنني في أوج عطائي. كانت فرحة بالفعل، ولكن بعد فوات الأوان».
على الفور تقفز إلى الذهن قصة «الألم» لأنطون تشيخوف، لا ريب أن ماتريونا زوجة السكير غريغوري بتروف كانت ستسعد بكل ما تسمعه من زوجها وهي راقدة في زلاجة يجرها الحصان في طريقهما إلى الطبيب. فقد استذكر بتروف وهو على الحصان أنها صبرت معه على كثير من المُرّ أربعين عامًا دون أن يُسمعها كلمة امتنان واحدة. كان يعتذر لها طوال الطريق، ويعدها بأنه سيتغيّر بعد علاجها هذه المرة، وسيُنزلها المنزلة التي تستحق، ولن يضربها مرة أخرى. لكن الزوجة تموت في الطريق للأسف دون أن تسمع هذا الكلام.
تُرى كم من البشر يمكن أن نُسقط عليهم حكاية كوريا وماتريونا؟ أولئك الذين يصلهم الفرح دون أن يشعروا به لأنه جاء متأخرًا بعد فوات الأوان. يحضرني في هذا السياق غلام خميس، مارادونا عُمان، اللاعب الفذّ الذي أَفرَح العُمانيين بأهدافه في كأس الخليج. بعد أن مات انهالت عليه الرثاءات من كل حدب وصوب، بل وصدر كتاب عنه بعنوان «غلام خميس: عطاء بلا حدود» أعدّه الكاتب سالم ربيع الغيلاني، يتضمن أجمل المقالات والنصوص في إطرائه ومديح موهبته الفريدة. لا شك أنه كان سيفرح بكل هذا الحب لو قٌيِّض له أن يراه وهو حيّ، وهو الذي مات حزينًا بعد أن بُتِرتْ ثلاث من أصابع قدمه بسبب مضاعفات السكّري، ومُعدَمًا حدّ أنه ظل فترة ليست بالقصيرة يبحث عن علاج، وعندما تقرر علاجه في الخارج لفظ أنفاسه في الطائرة التي أقلّته إلى تايلند.
«إن وردة واحدة لإنسان على قيد الحياة أفضل من باقة كاملة على قبره»، هكذا اختصر علينا جبران خليل جبران الموضوع كله، وأن نسمع كلمة طيبة واحدة في حياتنا خير من آلاف القصائد التي تدبج في رثائنا دون أن نسمع منها حرفا.
سليمان المعمري كاتب وروائي عماني